زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

حكم كلّ مفعولين إذا لم يكن أحدهما هو الآخر (فَلا جُناحَ) ولا إثم (عَلَيْكُمْ) في ذلك الاسترضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى تلك المراضع (ما آتَيْتُمْ) ما أردتم إعطاءه إيّاهنّ وشرطتم لهنّ (بِالْمَعْرُوفِ) متعلّق بسلّمتم أي بالوجه المتعارف الحسن شرعا وعقلا فكأنّه «إذا» شرط والجزاء محذوف ، والتقييد للحثّ والترغيب على إعطاء الأجرة ، وغاية الاهتمام بإعطاء حقوق الناس أو الاهتمام بتربية الصبيّ ، فإنّها مع الأخذ تصير راضية بالرضاع لحصول النفع فتعمل غاية الجهد كما في المهر ، لا لعدم الجواز والصحّة بدونه على ما قالوه ، كأنّه للإجماع ويحتمل حذف الجزاء من غير جنس ما تقدّم مثل فقد خرجتم عن عهدة الواجب أو برأت ذمّتكم ونحوه ، فلا يحتاج إلى هذا التكلّف.

(وَاتَّقُوا اللهَ) مبالغة في المحافظة على ما شرّع من أمر الأطفال والمراضع بل في مطلق الواجبات والمحرّمات (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حثّ وتهديد وخوف ووعد ، فقد ظهر من هذه الآية تأكيدات في أمر الأطفال والمراضع بل مطلق الأحكام.

الثامنة : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١).

التعريض هو التلويح والإيهام على المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا كقول السائل للغنيّ جئتك لاسلّم عليك ، يريد به الإشارة إلى طلب شيء ، والكناية هي الدلالة على الشيء بغير لفظه الموضوع له ، بل بلوازمه كطويل النجاد لطويل القامة ، وكثير الرماد للمضياف ، والخطبة بالكسر طلب المرأة للتزويج ، فمضمونها

__________________

(١) البقرة : ٢٣٥.

٥٦١

نفي الحرج والإثم عن التعريض بطلب المرأة في العدّة بالتزويج بعدها ، مثل أن يقول لها أنت جميلة ونافقة وصالحة للتزويج ، ونحوها من أوصافها ، أو يذكر بعض أوصافه مثل أنا محتاج إلى التزويج وأنا من قريش ونحوه ، فالظاهر إباحة الحطبة تعريضا لكلّ من في العدّة عدّة الوفاة والطلاق فتخصيص القاضي بالمتوفّى عنها زوجها مع كونه قائلا بالجواز في عدّة الطلاق أيضا غير سديد لظهور العموم مع انطباقه على المذهب ، وعدم المخصّص ، وكون الكلام قبله في المتوفّى لا يستلزم ذلك مع أنّ الترتيب النزوليّ غير معلوم ، نعم ينبغي تخصيصها بغير ذات العدّة الرجعيّة ، فإنّه لا يجوز التعريض لها لغير الزوج ، فإنّها كالزوجة للإجماع.

وكذا لا إثم فيما أكننتم : أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم ، لا تصريحا ولا تعريضا أو تذكرونه بقوله سرّا من غير جهر فأكننتم عطف على عرّضتم وهي صلة «ما» في «ما عرّضتم» و (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) بيان له (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ) ما تصبرون على الكتمان بل (سَتَذْكُرُونَهُنَّ) لكثرة رغبتكم فاذكروهنّ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ) جماعا فعبّر عنه بالسرّ لأنّه ممّا يسرّ فالمراد المواعدة بما يستهجن مثل عندي جماع يرضيك أو أجامعك كلّ ليلة ونحوه (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) كأن المستثنى منه ، محذوف أي لا تواعدوهنّ مواعدة قطّ إلّا مواعدة معروفة أو إلّا مواعدة بقول معروف ، فسرّا حينئذ غير داخل في المستثنى منه ، إذ المراد به مطلق المواعدة منكرة كانت أو معروفة.

وقال القاضي : قيل إنّه استثناء منقطع عن «سرّا» وهو ضعيف ، لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلّا التعريض وهو غير موعود ، يعني أنّ المراد بالقول المعروف هو الخطبة تعريضا وليس ذلك موعودا بل مقول في الحال ، ويلزم حينئذ كونه موعودا وهو في الكشاف أيضا وفيه أنّه : يحتمل أن يراد بالقول غير الخطبة تعريضا مثل الوعد بحسن المعاشرة وغيره ، بل ينبغي ذلك لفهم حسن الخطبة من قبل وأيضا لمّا كان المقصود الحاصل من التعريض هو النكاح بعد العدّة وكان ذلك موعودا فيصحّ إطلاق الموعود عليه في الجملة على أنّه قد يمنع الأداء فإنّ الحاصل

٥٦٢

أنّه لا تواعدوهنّ مواعدة سرّ ولكن تعرضوهنّ بالقول المعروف بالخطبة ، ولا يلزم كونه موعودا فتأمّل.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد في العدّة مثل النهي عن القرب من الزنا وغيره ، أي لا تقصدوا عقدة النكاح كأنّ المراد بالعقدة الحالة الثانية بسبب العقد في النكاح بين الزوج والزوجة ، وقيل : معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح لأنّ العزم بمعنى القطع ، وجعل في الكشاف سند هذا قوله في الحديث لا صيام لمن لم يعزم الصيام من اللّيل ، وليس بواضح إذ يحتمل العقد والنيّة كما قيل ، قال : ويروى لا صيام لمن لم يبتّ الصّيام (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ) ما في القرآن (أَجَلَهُ) أي ينقضي العدّة الواجبة فيه ، أو المراد بالكتاب المكتوب وهو المفروض.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ما تعزمون وما في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ) أي فابعدوه ولا تفعلوه خوفا أن تعاقبوا ، فهو تخويف وترهيب وإشارة إلى المبالغة في عدم قرب المعاصي كأنّه يعاقب بمجرّد العزم لا أنّه يعاقب به كما هو الظاهر ، لأنّ المشهور عند الأصحاب أنّه لا يعاقب بعزم الحرام ويثاب بعزم الطاعة وهو من جملة ألطافه تعالى ، وإن كان ذلك أيضا محتملا وذهب إليه السيّد السّند ، ويحتمل أن يكون معنى القول المشهور أنّه لا يعاقب بعقاب الحرام المنويّ وإن يعاقب بعقاب العزم بخلاف النّيّة على الطّاعة ، فإنّه يثاب الناوي بثواب تلك الطاعة ، ويؤيّده ما روي عنه عليه‌السلام نيّة المؤمن خير من عمله ، وفي معناه بحث ليس هذا محلّه ، فافهم.

وأيضا يؤيّد الأوّل قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لعلّه يدلّ على أنّه لا يعاقب على العزم لحلمه في تأخير العقاب حتّى يقع المنهيّ ، أو لكثرة فعل المغفرة بل في جميع المعاصي فإنّه لا يعاقب ولا يكتب ، بل ينتظر المسقط والتوبة كما في الأخبار.

ففيها دلالة على جواز التعريض للخطبة مطلقا وعلى تحريم التصريح في الجملة

٥٦٣

وعدم حسن ذكر الخطبة في الجملة بقوله (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) وتحريم عقد النكاح في العدّة مطلقا ، وأنّ الله عالم بما في الضمائر ، وأنّه كثير المغفرة ، ولا يعجل بالعقاب لكثرة الحلم ، وعدم خوف الفوت والعجز.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) (١).

في مجمع البيان : قيل في معناه أقوال : أحدها أنّ الخبيثات من الكلم أي القول والعبارة والكلام للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم ، والطيّبات من الكلم للطيّبين من الرجال ، والطيّبون من الرجال للطيّبات من الكلم ، ألا ترى أنّك تسمع الخبيث من الرجل الصالح فتقول غفر الله لفلان ما هذا من خلقه وكلامه ، والثاني الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيّبات من النساء للطيّبين من الرجال والطيّبون من الرجال للطيّبات من النساء عن أبي مسلم والجبائي وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصّلاة والسّلام قالا : هي مثل قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (٢) الآية لأنّ أناسا يتزوّجون منهنّ فنهاهم الله عن ذلك.

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) أي الطيّبون والطيّبات منزّهون (مِمَّا يَقُولُونَ) من الكلام الخبيث ، هذا يؤيّد الأوّل ويمكن أن يقدّر ، ومن أن يميلوا إلى الخبيثات (لَهُمْ) أي للرجال والنساء من الطيّبين (مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) عطيّة من الله كريمة حسنة في الجنّة ، بل يمكن في الدّنيا أيضا ، ففي الآية دلالة على عدم جواز الكلام الخبيث ، وعدم جواز نكاح الزانية لغير الزاني كما تقدّم فتأمّل.

__________________

(١) النور : ٢٦.

(٢) النور : ٣.

٥٦٤

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١).

المشهور في سبب نزولها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خلا بمارية جاريته في يوم حفصة أو عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله اكتمي علي فقد حرّمت مارية على نفسي ، وما كتمتها بل قالت لعائشة فطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتزل نساءه تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية.

وروي أنّ عمر قال لها : لو كان في آل الخطّاب خيرا لما طلّقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وروي أنّه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنّا نشمّ منك ريح المغافير ، وكان يكره رسول الله ويشقّ عليه أن يجيء منه الرائحة الكريهة فحرّم العسل كذا في الكشاف وقيل إنّه شرب في بيت حفصة وعلمت عائشة وغارت فأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ وقالت : إذا دخل عليكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلن إنّا نجد منك ريح المغافير ، فقالت له عائشة وصواحبها ذلك فكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحرّم على نفسه العسل ، فأنزلت الآية.

وفي هذا السبب شيء عظيم لحفصة ولعائشة أعظم حيث كذبت وغدرت وفتنت وأمرت بهذه المناكير ، وحصل الأذى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك حتّى حرّم على نفسه ذلك واعتزل من النساء ونزلت هذه الآية الّتي تشعر بتوبيخه صلوات الله عليه مع معلوميّة إثم أذاه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ومن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ومن قوله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢) وفي الأخبار ما يدلّ على أنّ

__________________

(١) التحريم ١ و ٢.

(٢) براءة : ٦١. الأحزاب : ٥٧ و ٥٨.

٥٦٥

أذاه أذى الله تعالى.

ويمكن أن يكون معنى الآية الله يعلم أنّه صلوات الله عليه وآله لمّا حصل له الأذى والندامة وضيق الخلق بسبب الفتنة الّتي فعلن كما هو عادة النساء على ما نراها الآن أيضا فأراد منع نفسه عن هذا الأمر الّذي هو سبب ذلك وإن كان محبوبا عنده ومستلذّا به إرادة مرضاتهنّ حتّى لا تصير فتنة فقال منعت نفسي عن هذا ولا أرتكبه أبدا ، فقال الله تعالى لم تمنع نفسك عن مشتهياتك بسبب مرضات زوجاتك فانّ رضاك وهواك مقدّم على رضاهنّ فافعل ما تريد وإن فعلن هنّ ما أردن والإثم لهنّ لا لك فيكون التحريم بالمعنى اللّغويّ كما في قوله تعالى (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي منعنا موسى عن ارتضاع امرأة مطلقا إلّا امّه حتّى رجع إليها.

ونقل في الكشاف عن الشعبيّ : لم تمتنع منه؟ إلى قوله ونحوه قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي منعناه منها ، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى الشرعيّ ويكون صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف حلّيّة ذلك إمّا بالعقل أو بالوحي ، وقد كان مكروها فالله تعالى ذكر أنك لم تترك هذا المباح وتفعل المكروه لمرضاة زوجاتك وهنّ لا يستحقّنّ أن تترك لهنّ ما تحبّ ، وتفعل ما تكره وأكره إنا أيضا ذلك لك ، فلا زلّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية بتحريم ما حلّل الله كما قال في القاضي حاشاه فانّ مثل ذلك لا يجوّزون لأدنى متفقّه بل عاميّ فكيف لأكرم خلق الله وأعزّه عند الله وأعلمهم ، بل تحريم ما حلّله الله كفر مع العلم ، والظاهر أنّ مع الجهل لا شيء عليه لكنّه منتف هنا ، فلا دلالة.

والعجب من الكشاف أنّه قال : وكان هذا زلّة منه لأنّه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأنّ الله عزوجل إنّما أحلّ ما أحلّ لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة ، لأنّ عدم جواز تحريم ما أحلّه الله ظاهر ولا يحتاج إلى الدليل ومعلوم انتفاؤه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(وَاللهُ غَفُورٌ) لكلّ مؤمن فيغفر لمن يريد بالعفو أو بالتوبة بأن يوفّقه له و (رَحِيمٌ) قد يرحم لمن يشاء ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ هذا الّذي فعلت

٥٦٦

لا تؤاخذ به ، ولا تنقص بذلك مرتبة من مراتبك الّتي عند الله ، فإنّه يغفر الذنوب ويرحم المذنبين ، فكيف يفعل ذلك بك ويؤاخذك بفعل أمر مباح لمرضاة أزواجك ومصلحة رأيتها ودفع الفتنة ، فعقّب ما يشعر بعتاب مّا بهذا ، لدفع وهم المتوهّم وتسليته صلوات الله عليه وعلى آله ويحتمل أيضا أنّه خطر بباله صلوات الله عليه أنّ هذا الفعل يصير سببا لصدور الذنب عنهما فتعاقبان ، فأحبّ أن يترك حظّ نفسه من وقوع الذنب والمعاصي وخلاف مرضات الله لهما فقال الله افعل أنت ما تريد والله غفور يغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء مع المصالح ، ويعاقب من يستحقّ ، فافعل ما هو مباح لك وتشتهيه ، وخلّ المذنب ومن يعصي الله إليّ ، فإنّه عبدي إن أشاء أعاقب ، وإن أشاء أعفو.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قد شرع الله وجوّز وبيّن وقدّر لكم حلّ ما عقدتم على أنفسكم في تحريم ما هو حلال لكم في الأصل من وطي الجوار وأكل العسل ونحو ذلك ممّا لكم فيه نفع ، ولا ضرر عليكم فيه ، سواء وقع عليه الحلف الشرعيّ واليمين المقرّرة لفظا أو مجرّد التقرّر على نفسه وقصد ذلك ، فانّ الحلف في مثله لا ينعقد ولا يحرم خلفه ، ولا كفّارة بذلك إذ لا حنث حيث لا عقد ولا يترتّب عليه أثره ، فوجوده كعدمه ، فدلّ على عدم انعقاد اليمين على مثله فإنّه مرجوح مع اشتراط الرجحان في الدين أو الدنيا أو التساوي في المحلوف عليه وأنّه يجوز خلف اليمين من غير كفّارة لو حلف على مثله ، مثل وطي الأمة أو الزوجة كما ذكره الفقهاء وقالوا لو شرط أن لا يتزوّج عليها ولا يتسرّى وحلف عليهما لم يلزم ولم يحنث بالخلف.

وقال في القاضي والكشّاف معناه تحلّة الأيمان بتجويز الاستثناء يعني يجوز أن يقيّد اليمين بعد الوقوع بأن يقول عقيبها إن شاء الله ، حتّى لا يحنث من قولك حلّل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها أو قد شرع ذلك بالكفّارة وهما بعيدان أمّا الأوّل فلأنّ تجويز حلّ اليمين بمثله بحيث يجوز خلف اليمين المنعقد ولو بزمان كثير بعيد ، على أنّه لم يعلم عدم مشيّة الله تعالى قبل نزول الآية ، ولأنّه لا معنى

٥٦٧

لانعقاد مثل هذا اليمين بعد أن قال (لِمَ تُحَرِّمُ) فإنّه يدلّ على عدم أولويّة ذلك بل مرجوحيّته وعدم ترتّب الأثر خصوصا على قولهما إنّه حرام ، وأمّا الثاني فللثاني ، ولأنّ ظاهر الآية عدم الكفّارة حيث أطلق ولم يقيّد بالكفّارة ، ولأنّه غير معلوم وقوع الكفّارة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهذا نقل الخلاف في الكشّاف في أنّه كفّر أم لا.

وقولهما بأنّ معنى تحلّة اليمين الاستثناء يدلّ على عدم اليمين فلا كفّارة ، فلم يعلم وقوع اليمين أيضا على ذلك ، ولهذا نقل الخلاف بين الصحابة والفقهاء هل قول حرّمت الأمر الفلانيّ ، إذا كان حلالا ، يحرّم ذلك أم لا؟ وإذا كان وطئ امرأة هل هو ظهار أو إيلاء أو طلاق رجعيّ أم لا شيء ، لأنّ ذلك هو الّذي قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : حرّمت.

وأصحابنا على أنّه ليس بشيء للآية المذكورة ، فإنّها ظاهرة في أنّه ليس بشيء ولا يترتّب عليه شيء ، ولهذا منع عن ذلك أوّلا ثمّ أكّد عدم لزوم شيء بقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثمّ بقوله (قَدْ فَرَضَ اللهُ) أي شرع ، فانّ ضمّ هذا إلى الأوّل يصيّر المجموع كالصريح في كون وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر وللآيات الأخر والأخبار والعقل الدالّة على عدم حسن ذلك وترتّب الأثر وهو ظاهر ، فإنّ ما حلّله الله لم يخرج عنه إلّا بتحريمه نعم يحتمل الإثم بل الكفر لو فعل معتقدا أو عالما وهو مذهب مسروق كما نقل عنه في الكشّاف وقال كان مسروق لا يراه شيئا ويقول ما أبالي أحرّمتها أو قصعة من تريد ، وكذلك الشعبيّ قال ليس بشيء محتجّا بقوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) وقوله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) وما لم يحرّمه الله فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراما ، ولم يثبت من رسول الله أنّه قال لما أحلّه الله هو حرام عليّ إلخ هذا كلام جيّد جدّا لأنّه نقل بعد ذلك كلاما غير جيّد ، إذ قد ذكر مع ذلك الكفّارة لليمين بظهوره من قوله تحلّة أيمانكم مع أنّه شبّه أوّل الكلام بقوله (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) وفسّره بمنعناه منها ، وعملنا بخذ ما صفا ، ودع ما كدر.

__________________

(١) النحل : ١١٦ ، المائدة : ٨٧.

٥٦٨

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ) متولّي أمركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) المتقن في أحكامه وأفعاله ، فما حلّل إلّا لمصلحة ، وما حرّم إلّا لذلك ولا يفعله إلّا لغرض صحيح ، ولا يحلّ إلّا ما هو أصلح لكم ، فنصحته لكم أولى من نصحتكم ، وما حلّل لكم أولى ممّا تحرّمون على أنفسكم ، فلو كان التحريم مصلحة لحرّم.

واعلم أنّ في تتمّة السورة عتابا كثيرا وتعريضا جزيلا بالنسبة إلى من يؤذي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ذلك موجب للتوبة والعقاب بدونها ، ولا ينتفع بعد ذلك القرب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولصوق جلده بجلده ، حيث قال (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) قال في الكشاف والقاضي خطاب لحفصة وعائشة على طريق الالتفات للمبالغة في المعاتبة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من حبّ ما يحبّه ، وكراهة ما يكرهه.

ونقل في الكشاف عن ابن عباس أنّه قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عنهما إلى قوله ثمّ قال أي عمر : هما حفصة وعائشة وفي حرص ابن عبّاس للسؤال عن عمر عنهما نكتة فافهمها.

و «إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ» في القاضي والكشاف وإن تعاونا عليه بما يسوؤه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) وليّه وناصره (وَجِبْرِيلُ) من الملائكة مع كونه رأسهم ، ولهذا أفرد (وَ) من الناس (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قيل : صالح المؤمنين هو جنس من كان مؤمنا وصالحا ، وبريء من النفاق ، قيل : هم الأنبياء وقيل الخلفاء.

قال في القاضي المراد الجنس ولهذا عمّ بالإضافة قلت هذه الإضافة لا تفيد العموم في المضاف ، وهو ظاهر ، نعم لو كان المضاف جمعا أمكن ذلك كما في المعرّف باللّام لما قيل إنّ للإضافة معاني التعريف فتأمّل والمتبادر منه أنّ المراد صالحهم أي الّذي أصلح من كلّهم ، لأنّ الإضافة تفيد العموم كما يقال صالح آل فلان وعالمهم ، فلا يبعد كون المراد واحدا منهم يكون أصلحهم وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كما ورد في الأخبار أنّه الأقضى والأعلم والأصلح.

٥٦٩

قال في مجمع البيان : وردت الرواية من طرق العامّة والخاصّة أنّ المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهو قول مجاهد ، وفي كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لقد عرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا أصحابه مرّتين أمّا مرّة فحيث قال من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علىّ عليه‌السلام وقال : أيّها الناس هذا صالح المؤمنين ، وقالت أسماء بنت عميس سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب.

ولا شكّ في أنّه أصلح المؤمنين ، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بكتب السير والأخبار من العامّة والخاصّة بشرط ترك العناد ونظر المعرفة وترك ما انفردت به طائفة من نقل ما يدلّ على ما يقول به فأنا والله ضامن لحصول العلم بذلك ، وبأنّه الإمام بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأحقّ كما اعترف به ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الشقشقيّة بعد تصحيح كونها عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من غير شكّ من أنّها تدلّ على أنّه كان أولى ، ووقع ترك الأولى من الصحابة الّتي أخذوا ذلك منه ، وترك الأولى جائز ، وإنّما شكا فيها عليه‌السلام من ترك الأولى لا من المحرّم الّذي فعله الصحابة وأنت تعلم ما في هذا الكلام بعد الاعتراف بكونها منه ، والعلم بتلك الشكاية المذكورة فيها ، فانّ مثل ذلك لا يصدر عن مثله في ترك الأولى الّذي وقع من كبار الصحابة وإسناد بعض الأمور إليهم مثل قوله عليه‌السلام يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، وفعل الأوّل كذا ، والثاني كذا ، ثمّ قام ثالث القوم كذا بطريق الكناية والتصريح ، وذلك ظاهر مع أنّه ليس محلّ ذكر مثله إلّا أنّ النفس ممتلئ من المتقدّمين يترشّح من غير اختيار.

ثمّ أعظم ممّا ذكر من المعاتبة وعدم رضى الله تعالى من بعض نسائه وما يفعلن ما يفهم من قوله تعالى (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) على تغليب المخاطب وهما عائشة وحفصة أو تعميم الخطاب ، ويحتمل التخصيص بهما فقط ، حيث قال في الكشاف والقاضي : إنّ الكلام كان معهما وهما مخطئة وإطلاق

٥٧٠

ضمير الجمع على الاثنين كثير (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) مقرّات مخلصات أو منقادات مصدّقات (قانِتاتٍ) مصلّيات أو مواظبات على الطاعة ، أو مطيعات لله والرسول ، أو خاضعات متذلّلات لأمر الله ورسوله في العبادات ، أو في الصلاة القنوت المتعارف في الفقه ، وقيل ساكتات عن الفضول (تائِباتٍ) عن الذنوب (عابِداتٍ) متعبّدات ومتذلّلات لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (سائِحاتٍ) صائمات سمّي الصائم سائحا لأنّه يسيح في النّهار بلا زاد (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وسّط العاطف لتنافيهما وعدم اجتماعهما ، بخلاف سائر الصفات ، يعني يجتمع في المبدلات هذه الصفات مع ما يوجد فيهنّ من البكارة والثيوبة.

وبالجملة هذه تدلّ على عدم اتّصافهما بهذه الصّفات واتّصاف غيرهما بها وإن كان معلّقا بطلاق الكلّ مع عدم وقوعه ، مع أنّه وقع طلاق حفصة لأنّه ليس المراد تعليق الوجود بل تعليق الإنكاح بهنّ ، يعني لو طلّقكنّ يحصل له خير منكنّ من الموصوفات بهذه الصفات الّتي ليست فيكنّ ، وهو المفهوم عرفا ولغة ، يعني لا يتخيّل هو ولا يتخيّلن أنتنّ أنّه لو طلّقكنّ لم يحصل له مثلكنّ ، بل يحصل له كذا وكذا ، قال في مجمع البيان : وعسى في فعل الله تعالى للوجوب ، وقيل في غيره أيضا وهو ظاهر.

ثمّ أشار إلى أنّه كما يجب عليه أن يؤدّب نساءه يجب عليكم كذلك بقوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي وفعل الطّاعات (وَ) كذا (أَهْلِيكُمْ) بأن تفعلوا ذلك بالنصح والتأديب بالطريق المذكور في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقرئ «أهلوكم» عطفا على فاعل «قوا» و «أنفسكم» يراد به نفس القبيلتين على تغليب المخاطبين على الغياب ، وهم الأهل وفيه تأمّل ، ويحتمل حذف وليق أهلوكم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي نارا حطبها هما ، وتتوقّد بهما كتوقّد سائر النّار بالحطب ، قيل المراد بالحجر حجر الكبريت (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) تلي أمر تلك النار الزبانية (غِلاظٌ) الأقوال (شِدادٌ) الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق ، وبالجملة لا رحم فيهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي يقبلون ذلك ويعتقدون (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)

٥٧١

كأنّه لقطع الطمع في أنّهم يرحمون ولا يعذّبون أهل العذاب ، وقتا مّا ، أو أنّهم وصفهم بأنّهم ما عصوا ربّهم فيما مضى وما استقبل ، وفي هذه الآية توبيخ عظيم وزجر كثير لمن يترك طاعة الله ويعصيه ، ولو بترك أهله.

فدلّت على وجوب أمر الأهل ونهيه لسائر العبادات وعن المعاصي كما يدلّ عليه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا ، فكأنّ بالنسبة إلى الأهل زيادة اعتناء ، فدلّت على وجوب تعليمهم الواجب والمحرّم ، وأمرهم بالفعل ونهيهم عن الترك.

ثمّ أشار بعدم قول العذر في القيامة بقوله (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) وهو ظاهر ، وأشار إلى وجوب التوبة والعذر في الدنيا بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ) الآية (١) توبة نصوحا بالغا في النصح ، وهو صفة للتائب ، فإنّه ينصح نفسه ، وصف به التوبة للمبالغة ، وتذكيره لكونه فعولا بمعنى الفاعل عن ابن عبّاس قال : قال معاذ بن جبل : قلت يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع كما لا يعود اللّبن إلى الضرع ، قال ابن مسعود : التوبة النصوح هي الّتي تكفّر كلّ سيّئة وهو في القرآن ثمّ تلا هذه الآية ، وقيل إنّ التوبة النصوح هي الّتي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم ، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح ، وقيل : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه ، وقيل ، هي الصادقة وقيل هي أن يستغفر باللّسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن ، وقيل : هي : المقبولة ولم تقبل ما لم يكن فيها ثلاث : خوف أن لا يقبل ورجاء أن يقبل وإدمان الطاعة وقيل هي أن يكون الذنب نصب عينيه ، ولا يزال كأنّه ينظر إليه ، وقيل هي من النصح بمعنى الخياطة لأنّ العصيان يمزّق الدين والتوبة ترقّعه ، وقيل : لأنّها جمعت بينه وبين أولياء الله كما جمع الخيّاط الثوب وألصق بعضه ببعض ، وقيل : لأنّها أحكمت طاعته وأوثقها كما أحكم الخيّاط الثوب وأوثقه.

__________________

(١) التحريم : ٨.

٥٧٢

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام كأنّه في نهج البلاغة : أنّه لمّا قال قائل بحضرته أستغفر الله قال ثكلتك أمّك أتدري ما الاستغفار إنّ للاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم على ستّة معان أي يشترط في صحّته أشياء أوّلها الندم على ما مضى والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله وليس عليك تبعة ، الرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها ، والخامس أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد السّادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله (١).

ومثل هذا المضمون عنه عليه‌السلام في الكشّاف والقاضي وسئل عليّ رضي‌الله‌عنه عن التوبة ، فقال تجمعها ستّة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، وردّ المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي ، ومنه يفهم الشرائط المذكورة لقبول التوبة في الكتب على ما نقل من العامّة والخاصّة ، وهو أنّه إن كان عن حقّ الله يكفي ثلاثة أشياء : القلع عن فعل المعصية ، والندم ، والعزم على عدم العود ، وإن كان عن حقوق الناس يزيد عليها رابعا هو ردّ الظلامة على صاحبها وطلب عفوه والإبراء منها ، والظاهر أنّه لا بدّ من هذه الأربعة ، وأمّا غيرها الّتي يفهم من كلامه صلوات الله عليه ، فكأنّه شروط للكاملين.

ثمّ إنّ ظاهر هذه الآية وسائر الآيات وجوب قبول التوبة على الله بمعنى سقوط العقاب عن الذنب الّذي تاب العبد عنه لأنّه وعد القبول «أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ» «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» (٢) وهذا المضمون أي قبول التوبة وأنّه يكفّر السيّئات في القرآن كثير ، وفي الأخبار أكثر ، ومنها ما اشتهر بين العامّة والخاصّة التائب

__________________

(١) راجع نهج البلاغة الرقم ٤١٧ من الحكم.

(٢) الشورى : ٢٥ ، (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) البقرة : ٢٢٢.

٥٧٣

من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدلّ على أنّها مقبولة إلى أن يعاين الموت أنّه وضع يده صلى‌الله‌عليه‌وآله على حلقه وقال : وإلى هنا ، وغير ذلك ويدلّ حكاية فرعون في القرآن على ذلك ، وقد نقل في مجمع البيان : الإجماع على ذلك في موضعين فما هو في التجريد من أنّه لا يجب القبول على الله كما هو مذهب المعتزلة ، ومذكور في مجمع البيان أيضا في موضع ، معناه عدم الوجوب العقلي أي مع قطع النظر عن دليل الشرع لا شيء في العقل يدلّ على وجوب القبول على الله ، لأنّ من أساء إلى أحد فللمساء إليه أن يعفو ، وأن يعاقب. كلاهما حسن ، إلّا أنّ العفو أحسن.

وقد يقوم الدعاء مقام الاستبراء إذا كان صاحب الحقّ ميّتا أو غائبا عنه ، وتعذّر الوصول إليه ، وكان الحقّ هتك عرض بالغيبة مثلا فقد وجد في كتب العامّة والخاصّة وزاد في العامّة أنّه يدعو له كثيرا ويستغفر له ، وقد قيل أيضا إذا لم يصل إليه الغيبة يكفي الدعاء ولا يحتاج إلى الاستبراء بل يكفي الدعاء والتوبة ، وقيل إذا استبرأ فالإبراء أولى للآية (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١) وغير ذلك من الآيات والأخبار.

ثمّ أشار إلى التمثيل بامرأة نوح وامرأة لوط ، بأنّه لا ينفع أحدا صلاح أحد حتّى حفصة وعائشة وغيرهما صلاح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في امرأتي هذين النبيّين العظيمين ، فإنّ أمر أتيهما خانتاهما قال في الكشّاف والقاضي : بالنفاق ، وقيل بأن كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنّه مجنون ، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة من قوم نوح ، وكانت امرأة لوط تدلّ على أضيافه فكان ذلك خيانتهما فما بغت امرأة نبيّ فكذا نبيّنا بالطريق الأولى ولهذا قالوا قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره.

وقال في الكشاف : وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ، ونحوه في التغليظ قوله (وَمَنْ كَفَرَ

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٥٧٤

فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١) وإشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين وأن لا تتّكلا على أنّهما زوجتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين ، والتعريض بحفصة أرجح لأنّ امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللّطف والخفاء جدّا تدقّ عن تفطّن العالم ، وتزلّ عن تبصّره ، ونعم ما قال : ولعلّ فيه تسلية للنبيّ وغيره من المؤمنين ، بأنّه لا يستبعد حصول امرأة غير صالحة للنبيّ وغيره ودخولها النار مع كون جسدها مباشرة لجسده ووجود الزوجيّة وهي صريحة في ذلك ، والمقصود واضح فافهم وكذا رجاء من يتقرّب بتزويجه وزوجيّته صلوات الله عليه وآله ولهذا كانت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية أيضا عنده صلوات الله عليه وآله وهي إحدى زوجاته ، وأبوه كان أكبر رؤس الكفّار ، وصاحب حروبه صلى‌الله‌عليه‌وآله واخرى صفيّة بنت حييّ بن أخطب بعد أن أعتقها وقد قتل أبوها على لكفر ، واخرى سودة بنت زمعة وكان أبوها مشركا ومات عليه ، قيل : وقد زوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنتيه (٢) قبل البعثة بكافرين يعبدان الأصنام أحدهما عتبة بن أبي لهب والآخر أبو العاص ومات عتبة على الكفر وأسلم أبو العاص ، فردّ إليه زوجته بالنكاح الأوّل مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان في حال من الأحوال مواليا للكفّار.

وبالجملة لا ينفع صلاح أحد أحدا من حيث هو ، نعم يمكن الشفاعة بإذن الله تعالى ولطفه كما أنّ معصية أحد لا يضرّ أحدا كما مثّل له بامرأة فرعون (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

(٢) قيل هما رقية وزينب كانتا بنتي هالة أخت خديجة ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربي إلى المربي ، وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما ، وكان لهما أخ اسمه هند ، قتل مع الحسين عليه‌السلام ويقال له ابن خالة الحسين عليه‌السلام وما كان ابن خالته وكان ابن خالة أمه عليه‌السلام ، هكذا في كتاب الاستغاثة لابن ميثم ، منه رحمه‌الله. أقول : وفيه كلام.

٥٧٥

فرفعها الله في الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب ، وقيل إنّها أبصرت بيتها في الجنّة في درّة (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) وعذابها ، قيل كان أمر بأن يلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ، فلم تجد ألما من عذاب فرعون ، وقيل إنّها كانت تربط وتستقبل بالشمس وإذا انصرفوا عنها أطلقها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة (وَعَمَلِهِ) أي دينه وقيل جماعه (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من أهل مصر أتباع فرعون.

وقد خرجنا في هذا المقام عمّا نحن فيه في الجملة لأنّه باعث على فعل الطّاعات وترك المعصيات وهو المقصود الحقيقيّ من كلّ فعل الإنسان الّذي ينتفع ، بل المقصود من فعل الله تعالى وخلقه.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (١) اطلبوا من الله المغفرة بالتوبة والاستغفار عن الكفر والعصيان (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) كثير المغفرة للمستغفرين التائبين ، ولكلّ من طلب المغفرة ، فيغفر جميع من طلب المغفرة وتاب تفضّلا منه وكرما (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي إن استغفرتم يسيل السماء بحسب الرؤية وظاهر الحال أو السحاب أو المطر إذ قد يطلق عليهما السماء فيحصل عليكم بالمطر سيلا ويكثر ذلك فهو كناية عن كثرة المطر والغيث فيحصل لذلك خير كثير (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثر أموالكم وأولادكم الذكور أيضا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين أيضا في الدّنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تسقون بها بساتينكم.

قيل إنّ قوم نوح عليه‌السلام كانوا قد قحطوا وهلكت أموالهم لأنّه منع منهم الغيث أربعين سنة ، وهلكت أولادهم وصارت نساؤهم لا يلدن ، فأراد نوح عليه‌السلام حصول ما منعوا منه ممّا يشتهون ، فأمرهم بالاستغفار الموجب لذلك ، كأنّه علم ذلك نوح عليه‌السلام بإلهام الله تعالى إيّاه.

ففيه دلالة على وجوب الاستغفار والتوبة ، وحصول فوائد له ، وهي كثرة

__________________

(١) نوح : ١٠.

٥٧٦

المال والولد ، ولهذا روي عن الحسن أنّه جاء إليه من شكى قلّة المال ومن شكى قلّة المطر ومن شكى قلّة الولد فأمرهم بالاستغفار ، وسئل عن ذلك فقال ما أمرتهم من نفسي بل من القرآن العزيز ، قاله في الكشاف ومجمع البيان ، وقال فيه أيضا : روى عليّ بن مهزيار عن حمّاد بن عيسى عن محمّد بن يوسف عن أبيه قال سأل رجل أبا جعفر عليه‌السلام وأنا عنده فقال له : جعلت فداك إنّي لكثير المال وليس يولد لي ولد ، فهل من حيلة؟ قال نعم استغفر ربّك سنة في آخر اللّيل مائة مرّة (١).

وقال في الفقيه في باب النكاح في باب الدعاء في طلب الولد قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام لبعض أصحابه قل لطلب الولد «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ واجعل لي من لدنك وليّا يرثني في حياتي ويستغفر لي بعد موتي ولا تجعل للشيطان فيه نصيبا اللهمّ إنّي أستغفرك وأتوب إليك إنّك أنت الغفور الرّحيم» سبعين مرّة فإنّه من أكثر من هذا القول رزقه الله ما تمنّى من مال وولد ، ومن خير الدنيا والآخرة فإنّ الله تعالى يقول (اسْتَغْفِرُوا) وذكر الآية (٢).

وأيضا قال فيه في الصحيح عن عمر بن يزيد الثقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال من قال في وتره إذا أوتر : أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرّة ، وواظب على ذلك حتّى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ، ووجبت له المغفرة من الله عزوجل ، ولعلّ المراد (٣) أستغفر الله وأتوب إليه كما فهم من الرّوايات (٤).

وأيضا نقل عن صحيح البخاريّ عن شدّاد بن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال سيّد الاستغفار أن تقول اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت ، وأبوه لك بنعمتك عليّ وأبوء على ذنبي فاغفر لي ، فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت ، من قالها في النّهار موقتا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنّة ، ومن قالها في اللّيل وهو موقن بها

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٣٦١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٤.

(٣) يعني في الآية.

(٤) الفقيه ج ١ ص ٣٠٩.

٥٧٧

فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنّة عن كتاب النّووي.

ثمّ قال : قلت أبوء بباء بعد الواو وهمزة ممدودة معناه أقرّ وأعترف ، وقال فيه أيضا وروّيناه في صحيح البخاريّ عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول وإنّي لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرّة ، وفي حديث آخر مائة مرّة.

وبالجملة الآيات والأخبار في وجوب الاستغفار وفوائده كثيرة جدّا مثل «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ» «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ» إلى قوله «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» «وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً» (١) وغيرها من الآيات والأخبار من طرق العامّة والخاصّة ممّا يدلّ على وجوب الاستغفار ، ووجوب التوبة ووجوب قبولها على الله بمعنى سقوط الذنب عندها بل بها ، وأنّ لها فوائد شتّى دينا ودنيا فلا يترك وإن لم تكن فيها الفروعات الفقهيّة المذكورة في الفقه ، ولكن ذكرتها لكثرة فوائدها.

__________________

(١) غافر : ٥٥ ، القتال : ١٩ ، آل عمران : ١٧ ، الأنفال : ٣٣ ، آل عمران : ١٣٥ النساء : ١١٠ ، على الترتيب.

٥٧٨

(النوع الخامس)

(في روافع النكاح)

وهي أقسام :

(الأول الطلاق)

وفيه آيات :

الاولى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (١).

خصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنداء وعمّ الخطاب لأمّته لأنّه الرأس ، بأنّه إذا أراد هو صلوات الله عليه وأراد وهم طلاق نسائهم ، مثل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، و (إِذا قَرَأْتَ) (٢) أو من قتل قتيلا فله سلبه ، قال في الكشاف منه : كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلّي وفيه تأمّل فافهم.

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي وقت عدّتهنّ بأن يكون ذلك في وقت الطلاق وهو الطهر الّذي لم يواقعها فيه بالإجماع ، والأخبار ، قال البيضاويّ : لأنّ اللام الداخل على الزمان ونحوه للتوقيت ، وقال في مجمع البيان : ليعتددن بعد ذلك وفيه تأمّل.

فدلّت الآية على أنّ للطلاق وقتا وهو وقت العدّة أي الطهر ، فالأقراء الّتي

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) المائدة : ٦ ، النحل : ٩٨.

٥٧٩

هي لبيان العدّة في الآية الأخرى هي الأطهار كما هو مذهب الأصحاب والشافعيّ لا الحيض كما هو مذهب أبي حنيفة ، وقد تكلّف له بأن يكون «قبل» محذوفا ، أي قبل عدّتهنّ وأيّده في الكشّاف بأنّه قرئ في الشواذ قبل عدّتهنّ وأنّ اللام متعلّقة بمحذوف أي مستقبلات لعدّتهنّ كما يقال توضّأ للصلاة والبس السلاح للقاء العدوّ وأنت تعلم عدم صحّة الاحتجاج بالشواذّ وعدم جواز التكلّف ، والحذف مع عدم الاحتياج.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ النساء عامّ مخصّص بالإجماع والنصّ بذوات الأقراء المدخول بهنّ الحوائل (١) سواء قلنا إنّه اسم جمع بمعنى الجمع أو جمع كما قاله في القاموس ، النسوة بالكسر والضمّ والنسوان والنسون بالكسر جمع المرأة من غير لفظها ، أو اسم جنس كما قاله في الكشّاف ، لأنّ الألف واللام في مثل هذا المقام ظاهر في الاستغراق ، فقول صاحب الكشّاف إنّه لا عموم ثمّة ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الانس محلّ التأمّل.

وأيضا الظاهر من سوقها أنّه لا بدّ من وقوع الطلاق في وقت خاصّ صالح للعدّة ، وأنّ ذلك واجب وشرط لصحّته ، لأنّها واردة لبيان تعليم الطلاق فالظاهر أنّ المراد الطلاق الصحيح فكأنّه قال إذا أردتم الطلاق الصحيح فطلّقوهنّ وقت الطهر الّذي يعتددن بعده في الجملة ، لا وقت الحيض ولأنّه نقل أنّها نزلت في ابن عمر لمّا طلّق زوجته في الحيض فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمراجعتها ثمّ الطلاق في الطهر إن أراد (٢) ولأنّ النكاح عصمة ثابتة بالنصّ والإجماع ، وقد علم رفعها بالطلاق الجائز ، ولم يدلّ دليل على رفعها بالطلاق المحرّم المنهيّ بهما ، ويؤيّده أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، وإجماع علمائهم على ذلك ، فدلالة الآية على وجوبه في الطهر وشرطيّته وتحريمه في الحيض ، وبطلانه بالقرائن والسوق والمؤيّدات. فقول الشيخ أبي علي الطبرسيّ قدّس الله سرّه بأنّها تدلّ على بطلان الطلاق في الحيض لأنّ الأمر يقتضي الإيجاب محلّ التأمّل ، إلّا أن يؤوّل بما ذكرناه.

__________________

(١) يعني غير الحوامل.

(٢) مشكاة المصابيح : ٢٨٣ سنن أبى داود ج ١ ص ٥٠٤.

٥٨٠