زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

(النوع السابع)

في أحكام متعدّدة يتعلّق بالصّلاة وفيه آيات :

الاولى: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (١).

قال في مجمع البيان : اللّغة ، التحيّة السلام يقال حيّي يحيّي تحيّة إذا سلّم قال في القاموس أيضا التحيّة هو السّلام ثمّ قال في مجمع البيان المعنى (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أمر الله تعالى المسلمين بردّ السلام على المسلّم بأحسن ممّا سلّم إن كان مؤمنا وإلّا فليقل وعليكم ، لا يزيد على ذلك ، فقوله بأحسن منها للمسلمين خاصّة ، وقوله أو ردّوها لأهل الكتاب عن ابن عبّاس ، فإذا قال المسلّم «السلام عليكم» فقلت وعليكم السلام ورحمة الله [وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله فقلت وعليكم السلام ورحمة الله] وبركاته فقد حيّيته بأحسن منها وهذا منتهى السلام ، وقيل إنّ قوله (أَوْ رُدُّوها) للمسلمين أيضا إلى قوله : وهذا أقوى لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم.

وذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما الصلاة والسلام أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ ، وذكر الحسن أنّ رجلا دخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السلام عليك! فقال النبيّ : وعليك السلام ورحمة الله ، فجاءه آخر وسلّم عليه فقال : السلام عليك ورحمة الله ، فقال النبيّ : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، فجاءه آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليك [السلام ورحمة الله وبركاته] فقيل يا رسول الله زدت للأوّل والثاني في التحيّة ولم تزد للثالث؟ فقال إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا فرددت عليه مثله (٢) انتهى.

وقال القاضي : الجمهور على أنّه في السلام ، وتدلّ على وجوب الجواب إمّا

__________________

(١) النساء : ٨٥.

(٢) تفسير مجمع البيان ج ٤ ص ٨٥.

١٠١

بأحسن منها ، وهو أن يزيد عليه ورحمة الله ، فان قاله المسلّم زاد وبركاته وهي النهاية ، وإما بردّ مثله لما روي ونقل الرواية المتقدّمة إلى قوله : ومنه قيل «أو» للترديد بين أن يحيّي المسلّم ببعض التحيّة ، وبين أن يحيّي بتمامها ، وهذا الوجوب على الكفاية ، وحيث السلام مشروع فلا يردّ في الخطبة وقراءة القرآن وفي الحمام وعند قضاء الحاجة ونحوها والتحيّة في الأصل مصدر حيّاك الله على الاخبار من الحياة ثمّ استعمل للحكم والدعاء بذلك ، ثمّ قيل لكلّ دعاء فغلب في السلام ، وقيل المراد بالتحيّة العطيّة وأوجب الثواب (١) أو الردّ على المتّهب ، وهو قول قديم للشافعيّ (٢).

وقال في الكشّاف : الأحسن منها أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال السلام عليكم ، وأن يزيد وبركاته ، إذا قال ورحمة الله ، ونقل الرواية المتقدّمة.

فقد ظهر من اللّغة وتفسيري مجمع البيان والقاضي ، بل الكشاف أيضا أنّ المراد بالتحيّة هنا هي التحيّة الغالبة المتعارفة بين المسلمين ، بعد رفع ما كان متعارفا في الجاهليّة ، وهي لسلام المتعارف بينهم فالحمل عليه أولى من الحمل على العطيّة فيجب عوضها أو ردّها كما قاله الشافعيّ في القديم ، لأنّه خلاف المتبادر ، والأصل ، عدم وجوب عوض العطيّة ، ووجوب ردّها ، بل ردّها مذموم شرعا جدّا (٣) ، فلا يمكن الإيجاب بمثل هذا الاحتمال وكذا حملها على السلام وعلى كلّ برّ كما نقل عن تفسير عليّ بن إبراهيم ، نعم لو ثبت صحّة الرواية المنقولة في تفسيره يمكن حملها على الرجحان المطلق لا الوجوب إذا لظاهر عدم القائل بوجوب تعويذ كلّ برّ وإحسان ، وهو معلوم من الروايات أيضا فتأمّل وكذا حملها على كلّ تحيّة من السلام ونحوه مثل صباحكم ومسائكم ونحوهما لعدم التبادر

__________________

(١) المراد بالثواب هو العوض ، كما في نسخة سن ، وهو اصطلاح في كتاب الهبة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها.

(٢) تفسير البيضاوي ١٠٢.

(٣) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : العائد في هبته كالعائد في قيئه.

١٠٢

وبعد الفهم ، وعدم ظهور الوجوب ، والأصل عدمه ، وليس بظاهر من الآية فالأصل ينفيه ، ولأنّه تحيّة الجاهليّة ، والإسلام نسخه.

وبالجملة الّذي يتبادر من الآية السلام المتعارف بين المسلمين ، ولهذا لا خلاف في وجوب ردّه فهو معنىّ بالآية ، وغيره غير ظاهر كونه مرادا بها ، فيترك بالأصل ، والاحتياط ظاهر لا يترك.

وأيضا الظاهر أنّ كلّ صيغة صحيحة متعارفة في العرف بالقواعد المقرّرة توجب وجوب الردّ مثل السلام فقطّ ، كما هو متعارف بين بعض الناس بحذف الخبر ، فإنّه جائز ، ولصدق التحيّة عليه أيضا على ما فسّرت ، ويحتمل العدم للأصل ، وعدم كونه متعارفا شرعا وعرفا عامّا ، وعدم العلم بكونه مرادا في الآية لأنّها غير صريح في العموم ، لأنّها مهملة ، وإن كان ظاهرها عرفا عامّا ، ثمّ إنّ الظاهر وجوب الردّ بالمثل ، أو بالأحسن كلّيّا لا خلاف فيه ، ويدلّ عليه الأخبار أيضا فالإجماع والخبر مؤيّدان للآية ، والظاهر أيضا أنّه فوريّ على ما يظهر من كلامهم ويدلّ عليه الفاء ، فلو ترك يأثم ويبقى في ذمّته ، مثل سائر الحقوق ، وهذا مؤيّد لفوريّة حقوق الناس فتأمّل ، وليس ببعيد ، لأنّه المتعارف والمطلوب من المسلّم عليه.

وأيضا قالوا : يجب الأسماع وهو أيضا ليس بواضح الدليل ، بل بعض الأخبار الصحيحة صريحة في عدم وجوب الأسماع (١) وأنّه يكفي أن يجيب في نفسه بحيث لا يسمع المسلّم إلّا أن يكون إجماعيّا فتؤوّل الأخبار وأيضا ظاهرهم أنّ الوجوب كفائيّ وظاهر الدليل خلافه بل الوجوب العينيّ ، لأنّه المتبادر من الأمر الّذي للوجوب لأنّه إذا خوطب به كلّ واحد يفهم وجوبه عليهم ، مع عدم دليل مسقط عن البعض يفعل البعض ، لكنّ الظاهر إجماع الأمّة على ذلك ، ولأنّه إنّما سلّم سلاما واحدا ، فليس له إلّا عوض واحد ، ولكنّ الظاهر أنّه إنّما يسقط بفعل من كان داخلا في المسلّم عليهم ، ويكون ذلك مكلّفا بالجواب ، فلا يسقط بردّ من لم يكن كذلك فلو خصّص البعض من جماعة ، لم يجب الردّ إلّا على من خصّص ، ولا

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٤٠.

١٠٣

يسقط عنه بردّ غيره ، وأيضا لو ردّ غير المكلّف ولو كان داخلا فيهم لا يسقط عن الباقين ، لأنّه قد وجب الردّ عليهم ، ولم يأت أحد به ، إذ لا يجب على غير البالغ فهو بمنزلة العدم ، ويمكن أن يقال فلو سلّم عليهم وهو داخل ومقصود أيضا بالسّلام فكأنّ المسلّم ما أوجب الردّ بل جاء بكلام يريد عوضه بواجب وغير واجب فكأنّه ما أتى بالموجب أو أنّه لمّا قصد السلام على غير المكلّف فكأنّه سلّم على غير المكلّف وحده فتأمّل.

وأيضا لو سلّم غير البالغ المميّز الّذي يقصد التحيّة فظاهر الآية وجوب ردّه كالبالغ ، وقيل لا يجب لعدم كونه مكلّفا وأفعاله شرعيّة ، وشرطيّة المكلّفيّة والشرعيّة غير ظاهرة ، ولو قيل إنّ أفعال الصبيّ شرعيّ كما هو الظاهر فالاجزاء والوجوب قويّ والاحتياط واضح. ثمّ إنّه معلوم أنّ وجوب الردّ إنّما يكون في السلام المشروع ، ولكنّ الظاهر عموم المشروعيّة حتّى يحصل المانع ، فيجب الردّ حال الخطبة والقراءة والحمّام والخلاء ، فانّ الظاهر استحباب ذلك كلّه ومشروعيّته إلّا أن يكون ثوابه أقلّ من بعض الأفراد الأخر ، نعم إن ثبت كراهية السلام في هذه المواضع بمعنى كونه مرجوحا من عدمه ويكون الجواب مخصوصا بالمستحبّ والراجح لم يجب الردّ ولكن ظاهر الآية العموم ، ولهذا قيل بوجوب ردّ سلام الأجنبيّة مع القول بالتحريم فتأمّل ، والظاهر أنّ الكراهة بهذا المعنى لا بالمعنى الأقلّ ثوابا من فرد آخر ، كما قال بعض الأصحاب أن لا كراهة في العبادات إلّا بهذا المعنى ، وظاهر الأصحاب الوجوب كلّيا فكأنّه بالإجماع وبالعموم العرفيّ المفهوم من الآية والرواية ، ويؤيّده ما ورد من الردّ في الصلاة فيدلّ على المشروعيّة بل الوجوب إذ السلام منهيّ عنه فيها ، فلو لم يكن واجبا لم يردّ وهو مذكور في الرواية الصحيحة بقول السلام عليكم بمثل ما قال المسلّم ، فالظاهر الوجوب فتأمّل واحفظ.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الردّ بالمثل شامل لقوله السلام عليكم إذا قاله المسلّم من غير إشكال ويؤيّده الرواية المتقدّمة وغيرها ، وعمل الطائفة ، والظاهر أنّه كذلك

١٠٤

وعليكم السلام بتقديم الخبر ، لعدم التفاوت بين التقديم والتأخير ، ولما تقدّم في الرواية المذكورة في مجمع البيان والكشّاف والبيضاويّ وكذا بالتنكير والتعريف وسلامي وسلام الله ونحو ذلك على الظاهر ، وأنّ الأفضليّة تحصل بضمّ ورحمة الله وبركاته مع عدمها في الأوّل ، وأنّ الإنسان مخيّر في الردّ بينهما بظاهر الآية وغيره ، ولكن خصّص الأحسن بالمسلم ، فما قيل إنّ معنى الآية أنّ الأحسن للمسلم ، والمثل للكافر الكتابيّ خلاف ظاهر الآية ، والأصل عدم وجوب العوض بأحسن ، فكلاهما في المسلم يجوز ، والأحسن حسن ، وفي الكتابيّ يمكن المثل لما تقدّم من الروايتين مع احتمال تخصيص الأمر بالمسلم ، فلا يجب ردّ الكتابيّ أيضا كالحربيّ لعدم حسن التحيّة عليهم ، بل يجب البغض وعدم المحبّة لمن حارب الله ورسوله وينبغي تتبّع ما في الرواية مثل وعليك ، فتأمّل.

ثمّ إنّه ذكر البعض أنّ السلام على المصلّي مستحبّ وليس بمكروه كأنّه للعموم وأنّه إذا سلّم عليه يجب الردّ ، ولو ترك يمكن أن يبطل صلاته إن كان وقت السلام مشغولا بذكر من أذكار الصلاة كالقراءة ، فإنّ ذلك حرام لفوريّة الجواب فيكون كلاما أجنبيّا منهيّا ، والنهي في العبادة مبطل لها كما ثبت في الأصول وأنت تعلم عدم صراحة العموم ، ولهذا قيل بالكراهة في الخلاء والحمّام للعاري وعلى تقديره فالوجوب حينئذ مقدّما على أفعال الصلاة ممنوع ، لوجوب الموالاة في القراءة فلا فوريّة (١) وعلى تقدير وجوبه قد يكون مساويا مخيّرا بينه وبين الموالاة ، وعلى تقدير الرجحان فتحريم الكلام فرع أنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه الخاصّ وقد حقّقناه في موضعه ، ثمّ إنّه على تقدير ذلك ينبغي أن يكون النهي شاملا للأفعال أيضا كالأذكار إذا منعت من الرّواح إلى أن يردّ إذا سلّم وذهب فيبطل الصلاة مطلقا إلّا إذا علم عدم إمكان ردّه ، ولم يشتغل قبله بشيء ينافيه ، إلّا أن يقال لا يجب الذهاب إلى أن يردّ وتبطل ، فلو تعارضا سقط وجوب

__________________

(١) في النسخ ، مثلا فورية ، والظاهر أنه تصحيف.

١٠٥

الردّ ، ويتعيّن الاشتغال بها حينئذ فيحتاج إلى الدليل وأيضا ينبغي أن يقول بالبطلان بناء على تقديره إذا تكلّم بذكر في وقت يمكن الردّ وإن لم يكن ذاكرا حين سلّم عليه ، بل ذكر بعد أن ذهب وراح المسلّم إلّا أنه يمكن أن يردّ السلام من غير إبطال للصلاة بأن يصيح حتّى يصل إليه الردّ فكأنّه المراد.

ثمّ إنّ كون الكلام الأجنبيّ منهيّا في الصلاة لا يستلزم بطلانها لأنّه نهي مبطل إذ النهي في العبادة معناه أن يكون المنهيّ نفس العبادة فيبطل حينئذ فلو تكلّم الإنسان في الصلاة بكلام أجنبيّ منهيّ عنه بالعرض كالتسليم لم يدلّ على البطلان ، نعم لو تكلّم بجزء واجب منهيّ عنه ، واكتفى بذلك ولم يتداركه في وقته ، بطل ذلك الجزء ، وببطلانه يبطل الكلّ من جهة ترك الجزء ، لا من جهة أنّ النهي في العبادة مبطل ، ففي الصلاة المذكورة على تقدير تسليم النهي عن كلمة وكلام حين ترك الردّ لو عاد بعده في وقت ما فات الموالاة الّتي هي شرط وأعاد ذلك الكلام لم تبطل صلاته إلّا أن نثبت أنّ كلّ كلام أجنبيّ حرام ومبطل ، وإن كان قرآنا وذكرا وذلك غير ثابت ، بل في النهي ما يدلّ على اختصاص ذلك بغير القرآن ، وكذا لو أتى بالأذكار المستحبّة فتأمل جدّا هذا.

الثانية (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١).

قيل : المراد بنسكي سائر العبادات ، فهو تعميم بعد تخصيص ، وقيل أفعال الحجّ ، والمراد بالمحيا والممات العبادات الواقعة حال الحياة والّتي تقع بعد الموت بالوصيّة ، مثل التدبير (٢) أو كون نفس الحياة والموت لله أي العبادة خالصة له ، والحياة والممات خاصّة به لا يقدر عليهما ولا يفعلهما غيره ، (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي بالقول المذكور أو بالإخلاص في الأمور الّذي فهم منها ، وقد استفيد منها النيّة ووجوب كون العبادة لله لا لغيره ، فيفهم بالمفهوم تحريم الشرك الظاهر مثل عبادة

__________________

(١) الانعام : ١٦٢.

(٢) تدبير العبيد.

١٠٦

الأصنام والكواكب ، والخفيّ وهو الرياء والسمعة ، ويشكل إدخال قصد حصول الثواب وعدم العقاب بالعبادة فيه ، فانّ فعلها لوجوبها حسن بل واجب عندهم وهو مستلزم لذلك وما نقل عن أمير المؤمنين (١) عليه الصلاة والسلام فمن خصائص مثله ، على أنه لا يدلّ عليه بل يدلّ على أنّ فعله عليه الصلاة والسلام ما كان لذلك بل لكون الله أهلا له وكذا لا يفهم أنّ الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام فيكون كلّ مسلم مأمورا به ، ولا يدلّ أيضا على كون العبادات شكرا لله وهو ظاهر.

وفي دلالتها على أنّ صحّة الصلاة بل سائر العبادات متوقّفة على معرفة الله ووحدانيّته ، وكونه مربّيا وكونه منشئا للعالمين ، وعالما وقادرا وحكيما فانّ العلم بكونه مربّيا ومنشئا لهم يستلزم العلم بكونه عالما وقادرا وحكيما خفاء نعم يمكن الاستدلال بها على وجوب المعرفة ، وتوقّف الصحّة عليها للمأمور بذلك القول ، فإنه يفهم أنه يجب قول ذلك ، ومعرفة القول وفهمه وصدقه مع التعلّقات متوقّفة عليها ، وأبعد منه توقّفها على معرفة تلك الأمور بالدّليل سيّما مع القول بأنّه بدون ذلك مسلم في الظاهر إذ لا يشترط في صحّة الصلاة غير الإسلام والايمان ويمكن فهم عدم جواز إسناد خلق شيء من العالم إلى غيره مثل الكواكب والعقول والأفلاك.

الثالثة: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢).

حصر ولاية الخلق في الله ورسوله والّذين آمنوا : الّذين يقيمون الصلاة ويتصدّقون حال صلاتهم راكعين ، الظاهر من الوليّ هو المتولّي للأمر كلّه ، والأولى بهم من أنفسهم ، ومن بيده أمورهم مثل الله ورسوله والامام ، إذ لا معنى للحصر في المذكورين بغير هذا المعنى ، مثل المولى والناصر والمحبّ ، وكون

__________________

(١) وهو قوله المشهور : ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، راجع البحار ج ٤١ ص ١٤ من طبعته الحديثة.

(٢) المائدة : ٥٥.

١٠٧

الوليّ بغير هذا المعنى في الآية السابقة (١) مع بعدها على تقدير تسليمه لا يدلّ على كونه هنا أيضا كذلك ، وكذا في الآية المتأخّرة (٢) وقال علىّ القوشجي في شرحه للتجريد : اتّفق المفسّرون على أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام حين تصدّق بخاتمه في الصلاة راكعا ويدلّ عليه الروايات من الخاصّة والعامّة (٣) وسوق الآية ، واختصاص الأوصاف المذكورة به عليه الصلاة والسلام بالإجماع ، والجمع للتعظيم ، وترغيب الناس في التصدّق ، ولأنّه نقل في أخبارنا أنّه وقع مثل هذا الفعل من كلّ من الأئمة الأحد عشر من ولده عليهم الصلاة والسلام والحصر إضافيّ بالنسبة إلى من يتوقّع أنّه وليّ مثله في ذلك الزمان ، ويكفي للحصر علمه تعالى بأنّه يقع التردّد ، بل يجزم جماعة بخلافه ولا يحتاج إلى ثبوته حين النزول إن ثبت عدم ثبوته حينئذ له عليه الصلاة والسلام فانّ لله أن يخبر بأنّه الإمام حين الاحتياج وهو بعد فوقته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير فصل وهو ظاهر ، وأنه بعد وجود أداة الحصر وانحصار الأوصاف فيه عليه الصلاة والسلام واتّفاق المفسّرين على أنّه في حقّه عليه الصلاة والسلام يدلّ على اختصاصه بها فلا معنى لجعل (وَهُمْ راكِعُونَ) عطفا أو جعله بمعنى خاضعون والاعتراض بأنّه قد يكون بمعنى الناصر وغيره ممّا أشرنا إليه وبأنّه ليس في حقّه للجمع وللحصر وهم لا يقولون به (٤) كما قال علىّ القوشجىّ ، مع أنّه لو صحّ لكان اعتراضه على الله تعالى فإنّه قال اتّفق المفسّرون على أنّه في حقّ عليّ عليه الصلاة والسلام حين تصدّق بخاتمه في الصلاة وهو راكع.

__________________

(١) يعنى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الاية.

(٢) يعنى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) الاية.

(٣) راجع بحار الأنوار ج ٣٥ ص ١٨٣ ـ ٢٠٦.

(٤) أى : «الشيعة لا يقولون بانحصار الإمامة والولاية فيه بل يقولون بإمامة الأئمة الاثني عشر» وقد علم جوابه أيضا مما مر في كلامه. منه رحمه‌الله.

١٠٨

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) كأنّه قال فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون ، وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه ، وتنويها بذكرهم ، وتعظيما لشأنهم : وتشريفا لهم بهذا الاسم ، وتعريضا يمن يوالي غير هؤلاء ، فإنّهم حزب الشيطان ، والحزب بمعنى القوم فالآية تدلّ على جواز النيّة في الزكاة قصدا فقطّ ، والتصدّق ونيّته في الصلاة وتسمية التصدّق زكاة لأنّ الظاهر أنّ الّذي فعله ما كان زكاة واجبة ، وإنّ كانت واجبة فتدلّ على جواز التأخير في الجملة وإخراج القيمة ، قال أخطب خوارزم في الفصل السابع عشر في بيان ما أنزل الله من الآيات في شأنه : أخبر الإمام إلى قوله فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما وليّكم الله ورسوله إلى قوله وهم راكعون ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع ، فبصر بسائل فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال نعم خاتما من ذهب (١) فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعطاكه؟ قال ذلك القائم وأومأ بيده إلى عليّ عليه الصّلاة والسلام فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أيّ حال أعطاك؟ قال أعطاني وهو راكع ، فكبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قرأ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية فأنشد حسّان بن ثابت في ذلك :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكلّ بطيء في الهوى ومسارع

أيذهب مدحي في المحبّر ضائعا (٢)

وما المدح في جنب الإله بضائع

__________________

(١) لعل الذهب زيادة غلطا من الراوي أو من الماسخ أو من السائل ولهذا ما وجد في غيره بل الموجود الفضة في مجمع البيان في غير هذه الرواية ، ويحتمل أن يكون عنده غير لابس له ، أو صار ذهبا لما أعطاه السائل ، منه رحمه‌الله.

أقول : روى الحديث في المجمع عن أبي القاسم الحسكانى وفيه «خاتم من فضة» راجع ج ٣ : ٢١٠ ، وأخرج القضية في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٣ عن جمع من أصحاب المجاميع وليس فيها ذكر الذهب ولا الفضة.

(٢) في نسخة البحار ، أيذهب مدحي والمحبر ضائع ، وفي المجمع : أيذهب مدحيك المحبر ضائعا» وفي نسخة سن : للمحبين ضائعا» وما جعلناه في المتن أشبه بنسخة عش فان الظاهر من نسخته «بالمحبر» «في المبحر» خ ل ، لكن الكاتب أراد تصحيحه فأصلحه «بالمحبين» لقصور فهمه لمعنى المحبر ، والتحمير ، التزيين والتحسين.

١٠٩

فأنت الّذي أعطيت إذ كنت راكعا

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

فبيّنها في محكمات الشرائع

ثمّ روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناده (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (١) هم يا عليّ أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين ونقل في هذا الكتاب مرارا أنّ المراد بخير البريّة هو عليّ عليه الصلاة والسلام ، ونقل أنّه كان إذا أقبل قالت الصحابة هذا خير البريّة ، وكانوا يدعونه به.

الرابعة: (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) اى أظهرها فالهمزة للإزالة (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٢).

قيل : معناه أقم الصلاة لذكرك إيّاها فإن فاتتك ثمّ ذكرت فصلّها أيّ وقت كان ، فأراد بذكري ذكر الصلاة ، لاستلزام ذكرها ذكره ، أو بحذف المضاف ، وفهم المعنى المذكور من غير ضمّ الخبر (٣) مشكل ، ومعه لا يحتاج إليه في ذلك نعم يؤكّده.

الخامسة: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٤).

أي جعل كلّ واحد منهما خليفة الآخر للّذي أراد أن يذّكّر نعمة الله فيهما أو يشكره عليها فيهما ، وحاصله جعل ذلك إرادة [أن يراد] ذكره وشكر نعمة

__________________

(١) البينة : ٨.

(٢) طه : ١٤.

(٣) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فان الله تعالى قال أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» راجع سنن ابى داود ج ١ ص ١٠٣ ، الدر المنثور ج ٤ ص ٢٩٣.

(٤) الفرقان : ٦٢.

١١٠

فيهما استدلّ بها على مشروعيّة فعل فائت اللّيل نهارا والعكس ، فانّ معناها اللّيل خليفة النهار فيما يصحّ أن يقع فيه ، وبالعكس ، وفهمه من مجرّدها مشكل كسابقتها فافهم (١).

السادسة: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الى قوله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (٢).

قيل : استدلّ بها على أنّ تارك الصلاة مستحلا مرتدّ يجب قتله ، لأنّه تعالى علّق المنع من قتلهم على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولا شكّ أنّ تركهم الصلاة كان على وجه الاستحلال ، لعدم تحقّق اعتقاد وجوبها من المشرك والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ، ويكفي في حصول نقيضه فوات واحد من المجموع ، ولا يخفى ما فيه فافهم.

السابعة: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٣).

أمّا اللغة فالعبادة هي أقصى غاية الخضوع كما مرّ في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والخلق هو الفعل والإيجاد على تقدير واستواء ، والباقي ظاهر.

وأمّا الإعراب فلعلّكم تتّقون ، جملة حاليّة عن الخالق ، لكن على طريق التشبيه بالراجي لاستحالة حقيقة الرجاء منه ، أو عن المخلوقين أو عن العابدين وأما كونها علّة فتكون بمعنى كي فيكون موافقا لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) كما يظهر من مجمع البيان ففيه أنّه نقل في الكشّاف وتفسير القاضي أنّ لعلّ ما جاء بهذا المعنى فعلى تقدير التسليم يحتمل كون ما ذكر في مجمع البيان محصّل المعنى ، ومعناها المجازيّ ، والمنع المذكور فيهما يكون باعتبار

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٧ ص ١٧٨ ، الدر المنثور ج ٥ ص ٧٥.

(٢) براءة : ٥.

(٣) البقرة : ٢١.

(٤) الذاريات : ٥٦.

١١١

الحقيقة «الّذين» عطف على مفعول خلقكم ، وغلب الخطاب على الغيبة في لعلّكم أو حذف «وإيّاهم» للظهور.

وأمّا المعنى فهو الأمر وإيجاب مطلق العبادة على كلّ الناس المخلوقين مسلما كان أو كافرا حرّا أو عبدا إلّا ما أخرجه الدليل من الصبيان والمجانين ، والمتّصف بالمانع من العبادة ، وأمّا الاستنباط فهو أنّها تدلّ على وجوب العبادة في الجملة ، ومشروعيّتها مطلقا فلا يحتاج إلى التوقيف ، فتصلح النافلة دائما والصوم كذلك وإعادة العبادة والقضاء وغير ذلك من أنواع العبادات ، وكون الكافر مكلّفا والعبد كذلك حتّى يثبت المنع ، وأمّا دلالتها على أنّ العبد لا يستحقّ بعبادته ثوابا لأنّها تدلّ على أنّ الوجوب المذكور للشكر على النعم المعدودة عليهم ، على ما ذكره القاضي ومثله قال في مجمع البيان فغير ظاهرة ، لجواز كون ذكر النعم المعدودة للترغيب والتحريص على الفعل ، والمنع من الترك ، لأنّ الآمر إذا كان ذا نعم كثيرة ، وذكر نعمه عند الأمر ، يكون ذلك أتمّ وأعلى في حصول الأمر فيزيد للمأمورين رغبة في الفعل ، وحثّا في عدم الترك ، نعم يمكن كون ذلك المعنى أيضا ولكن مع قيام هذا الاحتمال ما صارت الدلالة عليه واضحة ، نعم لا بدّ من دليل على إثبات استحقاق الثواب عليها ، غير هذا الأمر ، لقيام ذلك الاحتمال وذلك موجود ولعلّه إجماع الخاصّة والآيات والأخبار الكثيرة ، والدليل المذكور في أصول الكلام (١) ويؤيّده أنّ المنعم الغنيّ المطلق يمنّ على العباد في مواضع كثيرة بهذه النعم ، وإنّما هو المناسب مع عدم إرادة العوض ، فلا ينبغي كونها سببا وموجبا للعبادة فتأمّل.

الثامنة: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢).

أمّا الإعراب ، فالّذي إمّا منصوب بأنّه صفة بعد صفة للربّ ، أو بالمدح ، و

__________________

(١) من وجوب شكر المنعم عقلا.

(٢) البقرة : ٢٢.

١١٢

الأرض والفراش مفعولا جعل ، والسماء والبناء عطف عليهما ، و «من» الأولى ابتدائيّة ، والثانية تبعيضيّة ، ويكون الرزق حينئذ حالا أو مفعولا له ، أي حال كونه رزقا ، أو ليكون رزقا ومرزوقا لكم ، أو بيانيّة مقدّمة على المبيّن ، وهو الرزق كما يقال أنفقت من الدراهم ألفا وأنزل عطف على جعل ، وماء مفعوله وأخرج عطف عليه ، ورزقا مفعوله ، وضمير به راجع إلى الماء ، ولكم صفة رزقا والفاء في «فلا» للتفريع إمّا على اعبدوا ، أو على لعلّ ، أو على الّذي خلقكم و «أندادا» مفعول فلا تجعلوا ، وأنتم تعلمون جملة حاليّة من فاعل «فلا تجعلوا» ومفعوله إمّا محذوف ، أو مقدّر وهو أنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره تعالى أو أنّه لا ندلّه.

وأمّا اللغة فالفراش هو البساط ، والبناء هو المبنيّ وهو هنا قبّة وفي الأصل أعمّ من أن يكون بيتا أو قبّة كذا في الكشّاف ، والندّ المثل الّذي يكون ضدّا.

وأمّا المعنى فباعتبار ضمّها إلى الاولى هو الأمر بعبادة الله الموصوف بالصفات المذكورة ، والنهي عن الإشراك به ، والإشارة إلى قطع عذرهم بالجهل ، لعدم القدرة ، ولعدم ما يوصلهم إليه لوجود العلم والتمييز فيهم ، ووجود ما يوصلهم من خلق هذه المذكورات الّذي لا يقدر عليه غيره ، سيّما الضدّ الّذي يجعلونه شريكا له ، وقائما مقامه من الأصنام ، فإنّها لا تقدر على شيء ولا تنفع ولا تضرّ.

وأمّا الأحكام المستنبطة منها ، فهي إباحة السكون في أيّ جزء كان من الأرض على أيّ وجه أراد ، والصلاة فيه ، وسائر العبادات كذلك ، وطهارتها أيضا ، واستعمال الماء في أيّ شيء كان على أيّ وجه اتّفق ، وطهارته ، بل طهوريّته أيضا لأنّها من جملة انتفاعاته المتعارفة المطلوبة منه ومقام الامتنان يعمّ جميع ذلك مع إباحة جميع الثمرات المخرجة به للرزق ، قيل : الثمرة أعمّ من المطعوم والملبوس والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ، وفيه تأمل إذ الثمرة المخرجة هي الرزق لا غير ، فما ذكر أنّها أعمّ من الملبوس غير ظاهر حقيقة ، ولكنّه لا يبعد شمولها

١١٣

للكلّ فانّ القطن مثلا ثمرة شجرة ، والإبريسم يحصل من ورق الشجر ويكون المراد بالرزق ما يعيش به الإنسان ويؤيّده ما ذكره في مجمع البيان في تفسير الآية الثالثة بعد هذه ، في بيان (كُلَّما رُزِقُوا) من أنّ الرزق عبارة عمّا يصحّ الانتفاع به ولا يكون لأحد المنع منه ، فيدخل الجميع فيه.

وتحريم الشرك (١) وثبوت الوحدانيّة وأنّ الجاهل معذور على تقدير عدم القدرة على العلم أو عدم الدليل الموصل إليه ، وذلك من تقييد النهي بالحال (٢) بالعلم الّذي مرّ تفسيره فيعلم منه عدم التكليف بما لا يطاق ، فيبطل مذهب من يقول به وأمّا دلالتها على كون العبادات شكرا وعدم استحقاق الثواب لأنّ الصّفات المذكورة للآمر الّذي هو الله تفيد علّيّتها للتكليف بها ، على ما ذكره القاضي ههنا وفي الآية السالفة على وجه يفهم اعتقاده لذلك أنّه الحقّ ، فباطل لما مرّ في السالفة والظاهر أنّه ما ذهب إليه من الطائفة المحقّة ، بل من مطلق المسلمين إلّا قليل ، وليس بمذهب مشهور من المتعبّدين بالشريعة. فإنّ الثواب والعقاب قريب أن يكونا من ضروريّات دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كلّ الأديان ، وبهما يثبتون الحشر والنشر ، وعليه يدلّ كثير من الآيات والأخبار بل الإجماع ، لأنّ هذا المذهب منسوب إلى أبي القاسم البلخيّ فقطّ على ما ذكره في شرح التجريد الجديد وحاله أيضا ليس بظاهر الله يعلم.

ثمّ اعلم أنّ في الآية الثالثة بعد هذه الّتي ذكرناها ، دلالة على إبطال قوله حيث قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) الآية حيث يعلم تعليل حصول هذه النّعم العظام للإنسان بالإيمان والعمل الصالح فيكون مستحقّا لها وهو ظاهر كدلالتها على خروج العمل الصالح عن الإيمان ، وكذا في غيرها أيضا من الآيات.

__________________

(١) أى ومن الأحكام المستنبطة تحريم الشرك.

(٢) يعنى قوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

١١٤

(النوع الثامن)

فيما عدا اليوميّة من الصلوات وأحكام تلحق اليوميّة أيضا وفيه آيات :

الاولى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

الثانية: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)

الثالثة: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١).

خصّ الخطاب بالمؤمنين أي المسلمين لأنّهم المنتفعون بإيجاب الصلاة الخاصّة وهي صلاة الجمعة عليهم بعد سماع الأذان ، لقوله تعالى «اسعوا» أي اذهبوا وامضوا على ما روي ، وعبّر بالسّعي ، الّذي يفيد المبالغة في الذهاب ، للمبالغة في الفعل وعدم الترك ، لأنّه قد روي أنّ المستحبّ هو الرّواح إلى الصلاة بالسكينة والوقار لا بالسرعة ، وذكر الله هو الصلاة فكأنّه قال إليها إلّا أنّه عبّر عنها بالذكر إشارة إلى أنّها ذكر الله ، وأنّه ينبغي القصد بفعلها أنّها ذكر الله ، ويحتمل الخطبة.

وكأنّ تحريم البيع والشراء وقت وجوبها تعبّد وإن لم يكن مانعا عنها إذ يجوز الجمع بين المضيّ إلى الصلاة الواجب ، والبيع والشراء ، وهو ظاهر ، فلا ينبغي التعدّي إلى سائر ما يشبهه ، لأنّه قياس ممنوع ، من غير ظهور العلّة ، مع مخالفته للأصل ، وما يدلّ على إباحتها من العقل والنقل كتابا وسنّة وإجماعا ، ولا

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٩ و ١٠ و ١١.

١١٥

يبعد عدم الانعقاد ، وإن لم يكن النهي مطلقا دالّا على الفساد ، ليتمّ المطلوب والترغيب إلى الصلاة ، ولأنّ ما يدلّ على انعقاده هو إباحته ، فمع رفعها لا ينعقد مؤيّداً بأصل عدم انتقال المال إلّا بدليل ، وليس بظاهر كون العقد الحرام الّذي لا يرضى الله به دليلا موجبا لذلك فتأمّل.

وبالجملة انتقال مال البائع إلى المشتري وبالعكس الّذي الأصل عدمه يحتاج إلى الدليل ، ومجرّد البيع الّذي هو حرام وخلاف ما يرضى الله به غير ظاهر في ذلك ، مع أنّه قد يدّعى ظهور عدم الانعقاد من النهي ، كما ادّعى بعض الأصوليّين فتأمّل.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي السعي إليها وترك البيع خير لكم ، إن كنتم من أهل العلم والعرفان ، أو إن كنتم تعلمون الخير والشرّ ، تعلمون أنّ ذلك خير بالنسبة إليكم من عدمهما وما يتبعه.

ثمّ أباح الله بعد أداء الصلاة الانتشار وطلب الرزق به من فضل الله ورحمته ولطفه ، إشارة إلى أنّ التاجر والكاسب للرزق ، لا ينبغي أن يعتمد على كسبه وتجارته بل إنّما يطلب من فضل الله عليه ورحمته ، ويجعل الكسب والتجارة وسيلة وسببا لذلك وبسبب ترغيبه ، فالأمر هنا بعد التحريم للإباحة ، وإن كان في الأصل للوجوب ، للإجماع على عدم وجوب ذلك ، ويحتمل الوجوب في بعض الأحيان مثل الكسب للنفقة الواجبة.

ثمّ أشار في الآية الثالثة إلى ذمّ المسلمين ، وظاهر أنّهم الّذين كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم إذا رأوا أو علموا تجارة أو لم يعلموا بل ظنّوا بسبب سماع صوت دالّ عليها في الجملة وهو المراد باللهو ـ قيل كان للتجّار الّذين يجيؤن بالتجارة إلى المدينة طبل يضربونه بعد الوصول ، لاخبار الناس ، ـ ذهبوا إلى التجارة الموهومة القليلة الفائدة الفانية ، وتركوا تجارة باقية عظيمة ، وهي الصلاة معك ، تركا مستلزما للعقاب بترك واجب عظيم ، وقطعه المحرّم ، ولمفارقته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدنيا ، فإنّه روي

١١٦

أنّهم لمّا سمعوا صوت الطبل تركوه قائما في الصلاة وذهبوا إليها ، وقد علم سبب وحدة الضمير.

ثمّ أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول لهم أنّ ما عند الله من الخير الباقي وهو خير الآخرة والدنيا خير من التجارة المحقّقة والموهومة أو منها ومن اللهو إذ قيل ذهب بعضهم لمحض الطبل وبعضهم للتجارة وحينئذ يمكن أن يكون التقدير «وانفضّوا إليه» وحذف لدلالة المذكور عليه ، وأمثاله كثيرة ، وأنّ الله تعالى خير الرازقين فيرزق من غير أن يسرع إلى التجارة ، فلو ترك الذهاب لله ولعبادته لرزق خيرا ممّا تخيّل حصوله بسبب المسارعة إليها وترك العبادة.

ثمّ اعلم أنّ الّذي استفيد من الآية الشريفة ، هو وجوب صلاة الجمعة على كلّ مؤمن بعد النداء يوم الجمعة مطلقا وتحريم البيع حينئذ ثمّ إباحته بعدها وقد ذكروا لها شروطا وفروعا كثيرة في كتب الفقه فليطلب هناك غير أنّا نذكر أنّ أكثر الروايات الموجودة الآن في الكتب وأصحّها وأصرحها أنّ العدد المشترط في وجوبها هو الخمسة ، وهو قول أكثر الفقهاء المعروفين الآن ، وقال في مجمع البيان : والعدد يتكامل عند أهل البيت عليهم‌السلام بسبعة ، وهو في بعض الروايات وبعض الأقوال للشيخ مع أنّه يقول بالوجوب التخييريّ بالخمسة والحتميّ بالسبعة جمعا للأخبار وهو أعلم.

وقال أيضا في فضل السورة : منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ثوابه وجزاؤه على الله تعالى الجنّة (١) وما رأيت هذه في الكتب المشهورة إلّا في ثواب الأعمال (٢) للصدوق فإنّه نقلها في ثواب سور القرآن بإسناده وفيه محمّد بن حسان وهو مجهول وإسماعيل بن مهران وفيه خلاف ، وإن كأن الظاهر أنّه ثقة ، والحسن وهو مشترك والّذي يظهر من ثواب الأعمال أنّه ابن

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٢.

(٢) ثواب الأعمال ص ١٠٧.

١١٧

عليّ كأنّه ابن فضّال الله يعلم ، فالوجوب ما يثبت والاستحباب غير بعيد ، لما ثبت بالنصّ وبإجماع الأمّة العمل بالروايات في السنن والوصول إلى ما نقل فيها من الثواب وإن لم يكن كما نقل ، ولهذا أثبت الجمهور وأصحابنا الاستحباب والكراهة بالرواية الضعيفة فالجمهور وأصحابنا يتعبّدون بها ، وما ذكرها الصدوق القائل بوجوب قراءتها في ظهر يوم الجمعة (١) في الفقيه وما ذكرها القائل باستحباب الجمعة وسبّح اسم في المغرب والعشاء ليلة الجمعة ، وسندها غير واضح ، وآخرها صريحة في أنّ المراد القراءة في الصلاة وأوّلها ظاهر في ذلك فيحتمل إرادة قراءتهما في أوليي المغرب أو العشاء أو هما ، والظاهر الأخير ، وعليه حمل في المختلف رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال اقرأ في ليلة الجمعة الجمعة وسبّح اسم ربّك (٢) وتدلّ على العشاء الرواية عن الصادق عليه الصلاة والسلام فإذا كان العشاء الآخرة فاقرء سورة الجمعة وسبّح اسم ربّك ، واستحباب ذلك في ليلة الجمعة خصوصا في الصلوات سيّما الفرائض خصوصا العشاء غير بعيد ، كاختيار الجمعتين في الظهرين ، لهذه الرواية وغيرها ، وللخروج عن الخلاف المنقول ، ولا شكّ أنّ ذلك أحوط ، وكأنّ المراد الاستحباب ، لعدم القائل بالوجوب على الظاهر فتأمّل.

الرابعة: (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٣).

ظاهرها يدلّ على عدم جواز الصلاة في وقت من الأوقات على أحد من الكفّار الّذين ماتوا على كفرهم ، وكذا الوقوف على قبورهم للدعاء لهم ، وأنّ علّة ذلك هو الكفر ، وفيها إشعار بجواز ذلك للمسلمين مطلقا فتأمّل.

الخامسة: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٤).

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٠١.

(٢) راجع الكافي ج ٣ ص ٤٢٥. الخلاف ج ١ ص ٢٢٤.

(٣) براءة : ٨٥.

(٤) النساء : ١٠٠.

١١٨

أي إذا سافرتم فلا جناح عليكم أن تقصروا الصلاة الرباعيّة الفريضة بحذف ركعتي آخرها ، ويمكن ونافلتها أيضا ، والآية مجملة بيانها بالأخبار والإجماع فالسفر شرط لقصر الصلاة بالآية ، ودلّت عليه الأخبار أيضا والإجماع وأمّا الخوف فظاهر قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) يعني إن خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم أو دينكم ، أنّه أيضا شرط فلا قصر مع الأمن ، ولكنّه بالمفهوم الشرطيّ وهو وإن كان حجّة إلّا أنّه مشروط بعدم ظهور فائدة للتقييد سوى المفهوم كما بيّن في موضعه ، وقد يكون وقوع الخوف وقت النزول أو كونه الأغلب والأعمّ كما قيل وأمثاله في القرآن والسنّة كثيرة مثل (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ) (١) (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٢) وأيضا هو معتبر ما لم يعارضه أقوى من ذلك وهنا معارض بأقوى وأصرح منه من الإجماع ومنطوق الأخبار.

قال القاضي : وقد تظافرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن فترك المفهوم بالمنطوق وإن كان المفهوم حجّة أيضا لأنّه أقوى. ويدلّ عليه الخبر الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم (٣) أنّهما قالا قلنا لأبي جعفر عليه الصلاة والسلام ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : إنّ الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا : قلنا إنّما قال الله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أو ليس قد قال الله تعالى في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٤) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره الله تعالى في كتابه ، قالا : قلنا له : فمن صلّى في السفر أربعا

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) النور : ٣٣.

(٣) الفقيه ج ١ ص ٢٧٨.

(٤) البقرة : ١٨٥.

١١٩

أيعيد أم لا؟ قال : إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له وصلّى أربعا أعاد وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ، والصّلوات كلّها في السّفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات ، وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصّر وأفطر فصارت سنّة وقد سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما صاموا حين أفطر : العصاة. قال فهم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبناءهم إلى يومنا. هذا وفيها فوائد وأحكام كثيرة (١) لذلك نقلت فافهمها.

ثمّ إنّ ظاهر الآية يدلّ على القصر بمجرّد صدق السفر ، ولكن ثبت بالإجماع أنّ ذلك لم يكف فعند الشافعي مسيرة يومين ستّة عشر فرسخا وعند أبي حنيفة مسيرة ثلاثة أيام بلياليهنّ مسير الإبل ومشي الأقدام على القصد ، ولا اعتبار بإبطاء الضارب المسافر وإسراعه قال في الكشاف : كأنّه أربعة وعشرون فرسخا ولكن لا يناسب إدخال الليل إذ يمكن قطع ثمانية فراسخ في يوم واحد معتدل يوم صوم ، ولهذا ما اعتبره القاضي بل قال أربعة برد للشافعي وستّة لأبي حنيفة ، والبرد جمع بريد وهو أربعة فراسخ ، وعند أصحابنا بريدان وهو ثمانية فراسخ يوجب القصر ودلّت عليه الروايات الكثيرة الصحيحة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وهو أولى ، لأنّ ظاهر الآية أنّه يكفي مطلق السفر وما يصدق عليه ولا شكّ أنّه ممّا

__________________

(١) وهي كون القصر عزيمة وواجبا كالتمام ، وكون الأمر للوجوب ، وكون نفى الجناح لا ينافي الوجوب العيني ، وكون التأسي واجبا ، وكون السعى واجبا ، ووجوب إعادة الصلاة الباطلة بالزيادة مع العلم بعدمها أداء وقضاء ، وكون الجاهل معذورا في الإتمام ، ووجوب التقصير في جميع الصلوات بحذف الركعتين الأخيرتين إلا المغرب ، وكونها ثلاثة فيه وفي الحضر وكون مسيرة يوم أربعة وعشرين ميلا ، وهي ثماني فراسخ ، فكل ميل ثلث فرسخ ، وكون ذلك موجبا للتقصير ، ووجوب الإفطار ، وتسمية الواجب بالسنة ، وكون ترك ذلك عصيانا ، وكونهم عليهم‌السلام عالمين بالغيب وهو بإعلام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم ، منه رحمه‌الله.

١٢٠