زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

والنسيان فلا يجوّزونهما عليهم فيما يؤدّونه عن الله تعالى وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه ويسهو عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل ، وكيف لا يكون كذلك وقد جوّزوا عليهم النوم والإغماء ، وهما من قبيل السهو ، وهذا يدلّ على عدم الخلاف في ذلك عند الإماميّة فتأمّل فيه و «حتّى» ههنا أيضا يحتمل ما قلناه فتأمّل.

فالمراد بالخوض في الآيات الكفر بها والاستهزاء بها كما بيّن ، فهاتان الآيتان تدلّان على اجتناب الكفّار حال كفرهم بل الفسّاق حال فسقهم ، لأنّهم ما صرّحوا بأنّ [المراد من] «الّذين» هم الكفار بل الّذين يخوضون في الآيات بما لا يجوز ، فهو قد يكون فسقا فقط ، وإن كان ظاهر الآية الأولى يدلّ على أنّه الكفر فتأمّل.

(إِنْ تُبْدُوا) (١) أي تظهروا (خَيْراً) أي حسنا جميلا من القول والفعل بالنسبة إلى من أحسن إليكم بل أعم (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تفعلوا ذلك سرّا وخفية (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي تصفحوا عمّن أساء إليكم مع القدرة على الانتقام ، ولا تجهروا له بالقول بالسّوء ، ولا بأدنى من ذلك وأقوى (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) صفوحا مع القدرة على المكافاة ، فإنّه يعفو مع ذلك ذنوبا كثيرة ، فأنتم محتاجون إلى العفو فينبغي أن تفعلوا ذلك بالطريق الأولى لأنّكم إن عفوتم عفيتم وإن رحمتم رحمتم وهو ظاهر عقلا وشرعا ، وحذف جزاء (إِنْ تُبْدُوا) وأقيم مقامه ما يفهم منه ذلك مع وضوحه والتعليل ، ففيها حثّ للمظلوم على العفو بعد ما رخّص له في الانتقام حملا على مكارم الأخلاق كما أشرنا إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) (٢) الشرطيّتان صفتان لأشياء ، قيل : أي لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تكاليف شاقّة عليكم إن أفتاكم بها يغمّكم كما سيجيء في حكاية سراقة ، وإن تسألوا عنها في زمان الوحي وما دام الرسول بين أظهركم تبد لكم تلك التكاليف الشاقّة ، فتؤمرون بها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط

__________________

(١) النساء : ١٤٩.

(٢) المائدة : ١٠١.

٣٤١

فيها (عَفَا اللهُ عَنْها) يمكن كونها صفة أخرى لأشياء أي لا تسألوا عن الأشياء الّتي عفا الله عنها ، ولا تعاقبون عليها ، ولم تكلّفوا بها.

روي أنّه لمّا نزل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١) قال سراقة بن مالك أكلّ عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أعاد ثلاثا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، فنزلت فالالحاح في السؤال غير ممدوح ، بل ينبغي البناء على الظاهر ، وترك التدقيق المضرّ وقد يفهم ذلك من حكاية البقرة كما هي مذكورة في محلّها ويحتمل أن يكون ضمير «عنها» للمسئلة المفهومة من السؤال أي لا تسألوا وقد عفى عمّا فعلتم منها ، ولكن لا تعودوا فظاهرها أنّ السؤال المتقدّم بل السؤال مطلقا عن الأشياء الّتي يظنّ إن ظهر أنّ ظهورها يسوء للعموم حرام ، لأنّه ظاهر النّهي ، ويحتمل أن يكون للكراهة كما يفهم من الشرطيّتين ، ولا شكّ أنّ الاجتناب أحوط (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بعقوبة ما تفرطون ، ويعفو عن كثير (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢) الضمير للمسئلة المفهومة قيل (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلّق بسألها ، وليس بصفة لقوم ، ولا حال عنه ، لأنّ ظرف الزمان لا يكون صفة جثّة ولا حالا عنها ولا خبرا عنها ، وفيه تأمّل إذ ليس المعنى إلّا على كونها وصفا للقوم ، فلا يتعلّق بالسؤال ، فعلى تقدير تسليم ما ذكره ، يمكن تأويل القوم بحيث يوجد فيهم معنى ، ولا يكون جثّة محضة مثل الموجودين في ذلك الزمان (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا ومنكرا «بها» متعلّق بكافرين.

وفي هذه الآية وأمثالها إشارة إلى أنّ الجاهل معذور ، وأنّ عقاب العالم أعظم فافهم.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) (٣) ردّ وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهليّة وهو أنّهم كانوا إذا أنتجت الناقة عندهم خمسة أبطن آخرها ذكر

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) المائدة : ١٠٢.

(٣) المائدة : ١٠٣.

٣٤٢

بحروا أذنها أي شقّوها فخلّوا سبيلها ، فلا تركب ولا تحلب ، وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وإذا ولدت شاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لآلهتهم الذكر ، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره ولا يمنعوها من ماء ولا مرعى ، وقالوا قد حمي ظهره ، ومعنى (ما جَعَلَ) ما شرع ووضع ، ولهذا تعدّى إلى مفعول واحد وهو البحيرة وما عطف عليه ، و «من» زائدة.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي الكفّار يفترون على الله الكذب بجعل الحلال حراما وبالعكس ، ويقولون الله جعله كذلك ولا يعرفون الحلال من الحرام ، والمبيح من المحرّم ، والأمر من غيره ، ولكن يقلّدون آباءهم ولا يسمعون المعقول كما يفهم من قوله (إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الواو للحال والهمزة دخلت عليها إنكارا للفعل على هذه الحالة ، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالّين ، والمعنى : الاقتداء إنّما يصحّ بمن علم أنّه مهتد عالم ، وذلك لا يعرف إلّا بالحجّة فلا يكفي غيرها من التقليد.

واعلم أنّ في هذه الآيات دلالة على أنّ تحريم شيء وتحليله بغير دليل شرعيّ حرام فالبدعة حرام فانّ كلّ ما يجعل الإنسان على نفسه من إخراج مال عن الانتفاع بقوله وفعله لا يخرج بذلك عمّا كان وإن جعل في مقابلة نعمة مثل شفاء عن مرض ما لم يكن عليه دليل شرعيّ بنذر ونحوه ، وأنّ جعل ذلك من عند النفس بغير دليل افتراء على الله بالكذب ، وأنّ التقليد غير جائز في مقابلة الدعوة إلى الله وإلى الرّسول ، بل مطلقا ما لم يكن المقلّد مهتديا فيدلّ على جوازه مع العلم بأنّه مهتد.

ففيه جواز التقليد في الجملة ، وذلك غير بعيد ، ولكن ليس بتقليد حقيقة لأنّه لم يعلم أنّه مهتد وأنّ من اتّبعه كذلك إلّا مع دليل يدلّ على أنّ المتبوع والمقلّد هاد ومهتد ، وفي اتّباعه هداية ورشد ، وحينئذ هو خارج عن التقليد المذموم ، بل

٣٤٣

عن التقليد ، فإنّه حقيقة تابع للدّليل ، إذ لا فرق في اتّباع الدليل بين أن يكون المتّبع شخصا أو غيره ولهذا قالوا التقليد هو قبول قول الغير بغير دليل على القبول وأنّ تقليد الأنبياء بل تقليد المجتهدين ليس بتقليد ، بل استدلال كما في المجتهد لتحقيق مسئلة بدليل وإنّما يقال له التقليد بمعنى آخر غير المعنى الّذي هو مذموم وغير مجوّز.

فتقليد المجتهد حسن وجائز ، بل واجب بعد وجود دليل على ذلك كاجتهاد المجتهد ، وهو ظاهر ومبيّن في الأصول ، وهو المراد بالتقليد المفهوم «من أَوَلَوْ كانَ» الآية وأمثاله والّذي لا يجوز ومذموم كما يدلّ عليه قوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) وأمثاله أي لا تقل ولا تفعل إلّا ما تعلم جوازه ، فالمراد به التقليد بغير دليل معلوم ، فإنه التقليد ، وبه يجمع بين جواز التقليد وعدم جوازه ، وجواز العمل بالظنّ وعدم جواز العمل والتكليف بالعلم ، أي العمل بالظنّ بمحض الاشتهاء والتقليد ، ويراد بالتكليف بالعلم أعمّ من الظنّ الحاصل من دليل كما للمجتهد ، لا بحمل ما يفيد الظنّ ، وجواز التقليد على الفروع ، والتكليف بالعلم وعدم جواز الظنّ والتقليد على الأصول الكلاميّ كما هو المشهور إذ لا دليل عليه ، ولعدم الفرق ، نعم لو ثبت أنّه لا بدّ في الأصول من العلم اليقيني في جميع مسائله وفي الفروع يكفي مطلق الظنّ ، لتمّ ذلك ، وهو مشكل ، وتخصيص بعض الظنون دون بعض يحتاج إلى تأويل وتصرّف مؤوّل إلى ما قلناه ، على أنا قد ادّعينا حصول العلم بالتقليد للمقلد في الفروع وغيره ، إذا كان عن دليل كتقليد المعصوم كما قالوه للمجتهد بأنّه يقول : هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّ ما أفتى به المفتي حقّ وواجب العمل ، والمقدّمة الأولى مفروضة ، والثانية ثابتة بالدّليل ، وبالفرض أيضا فالنتيجة علميّة فتأمل.

وقوله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢) يدلّ على عدم جواز

__________________

(١) أسرى : ٣٦.

(٢) الانعام : ١١٦.

٣٤٤

العمل بالظنّ في الأصول ، لا الفروع الّذي مبناه على الظنّ ، لأنّ معناه على ما في الكشّاف إن يتّبعون إلّا ظنّهم أنّهم شركاء لله ، وإن هم إلّا يخرصون ويقدّرون أن يكونوا شركاء تقديرا باطلا. لأنّ صدر الآية دلّ على نفي صلاحية شيء للربوبيّة فانّ قوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) صريح في ذلك.

ويدلّ على عدم جواز تقليد الجاهل والمفضول ومتبوعيّتهما وثبوتها للمهتدي قوله (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (١) يعني أم الّذي يهدي إلى الحقّ حقيق بالاتّباع والمتبوعيّة ، فأحقّ بمعنى أصل الفعل أم الّذي لا يهتدى بنفسه أو لا يهدي غيره إلّا أن يهديه غيره ، فالأوّل على قراءة «يهدّي» بتشديد الدال وفتح الهاء أو كسرها ، كان أصلها يهتدى قلبت التاء دالّا وأدغمت فيها ، وحرّكت الهاء بالفتحة بنقل فتحة التاء إليها للخفّة أو بالكسر ، لالتقاء الساكنين. وعلى قراءة التخفيف أيضا فإنّ «يهدي» بمعنى يهتدى كثير والثاني على قراءة التخفيف فقطّ ، فإنّه من يهدي المتعدّي بنفسه وهو كثير كتعديته باللّام ، والاستفهام على سبيل الإنكار يعني معلوم أنّ الهادي بنفسه حقيق لا غير (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) يعني ما تحكمون أنتم إلّا بالحقّ ، لو أنصفتم ، أي معلوم أنّ الهادي بنفسه أحقّ.

فيمكن أن يستدلّ بها على وجوب اتّباع الله تعالى الخالق دون مخلوقة ، وكذا على وجوب اتّباع العالم دون الجاهل ، وكذا على اتّباع الأفضل فيما هو أفضل به ، دون المفضول ، خصوصا إذا كان تعلّمه من هذا الأعلم والأفضل ، وإن كان المفضول والجاهل متمكّنان من العلم بما علمه العالم والأفضل بالتعلّم فيستخرج منه عدم جواز تقليد الجهّال والمفضول ، مع تقدير وجود الأفضل وإن كان أورع ، ولهذا قال به بعض العلماء وكذا تقديم الأفضل في الصلاة وكذا الرواية ، ويمكن الشهادة وإن سلّم أنّ الآية في منع الكفّار عن اتّباع

__________________

(١) يونس : ٣٥.

٣٤٥

الأوثان دون الله كما قال في الكشاف وتفسير القاضي فإنّ سبب الورود ليس بمخصّص بل المدار والاعتماد على ظاهر اللّفظ كما هو الحقّ المثبت في الأصول ولا شكّ في عموم اللّفظ وأنّ العالم والأفضل يهدي بنفسه ، بل ظاهر «أن يهدي» أنّها في غير الأوثان لعدم قابليّتها للهداية ، وهو ظاهر ، فيمكن أن يستخرج عدم جواز الاجتهاد للنبيّ والامام ، حيث يقدران على تحصيل العلم من الله ، وكذا عدم الاجتهاد لمن يقدر على الأخذ بالعلم منهما ، بل عدم جواز الأخذ بالظنّ مطلقا مع القدرة على العلم.

ويدلّ عليه (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١) قال في الكشاف : المراد بالأكثر جميع الكفّار المذكورين سابقا قاله في تفسير القاضي أيضا وقال فيه أيضا : أو المراد من ينتمي منهم إلى تميّز ونظر ولم يكتف بالتقليد الصرف ، وفيهما تأمّل إذ إطلاق الأكثر على الجميع بعيد ، ولا بدّ للكلّ ظنّ بل الّذي يقنع بمحض التقليد يجزم بذلك فكان المراد غير القليل الّذي هو نادر جدّا ولا اعتداد به أصلا ، ووجوده وعدمه سواء ، أو أنّ للبعض جزما إلّا أنّ ذلك أقبح إذ الجزم بمعلوم البطلان ومن غير دليل باطل ، إلّا أنّه يمكن أن يراد أنّ الأكثر يظهرون العلم والاعتقاد مع أن ليس لهم إلّا الظنّ ، أو أنّ المراد بطريق الاجتهاد والأقيسة الباطلة ، فإنّ الكلّ وإن كان لهم ظنّ لكنّه ليس من اجتهاد وقياس ، وتأمّل ونظر ، بل مجرّد تقليد الآباء ، وكأنّه مراد القاضي.

وقد يتوهّم من ظاهر الآية أنّها تدلّ على المنع من العمل بالظنّ واتّباعه مطلقا لظاهر قوله (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي) فإنّ المتبادر منه عمومه وإن كان مفردا محلّى باللام ، وليس للعموم على الظاهر ، وإن كان الكلام مع الكفّار بالنسبة إلى المعتقدات ، بل أصول الدّين ، ودفع الظنّ في مثل ذلك ، فلا يجوز العمل والتعويل عليه إلّا مع دليل أقوى أو مساو دلالة على الجواز من دلالتها على المنع ، كما ثبت

__________________

(١) يونس : ٣٦.

٣٤٦

ذلك في المسائل الفروعيّة اجتهادا وتقليدا بالعقل من لزوم الحرج والضرر المنفيّين بالعقل والنقل ، والتكليف بما لا يطاق وببعض الآيات والأخبار ، بل بالإجماع ، إذ قد انقرض القائل بمنع التقليد وإيجاب الاجتهاد عينا إلّا أن يقال الاجتهاد علميّ فإنّ دليل العمل به قطعيّ ، ولكن في القول بمثله في التقليد أيضا تأمّل فتأمّل فيهما.

ويمكن أن يقال : المراد بالظنّ ظنّهم المتقدّم ، فيكون الألف واللّام عوضا عن المضاف إليه فتدبّر ، أو يقال : إنّ الظنّ لا يغني من العلم شيئا يعني إذا كان المطلوب علما لا يقوم الظنّ مقامه ، وهو ظاهر فتأمّل.

وقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (١) كأنّ المعنى يبغضهم ، يدلّ على تحريم الاستكبار والتكبّر وما يدلّ عليه كثير مثل (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢) أي بئس مأوى ومنزل من تكبّر في الدنيا على الناس يوم القيمة.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) (٣) أي ادع يا محمّد الناس إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بالمقالة المحكمة الصحيحة وهي البرهان الموضح للحقّ ، والمزيل للشبهة ، وقال في مجمع البيان : إلى دين الله ومرضاته. أو بالقرآن ، وقيل بالمعرفة بمراتب الأفعال والأحوال (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) هو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والترهيب في فعله ، وفي ذلك تليين القلب بما يوجب الخشوع (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج ، وتقديره بالكلمة الّتي هي أحسن والموعظة الحسنة أي ادعهم إليه بالمقدّمة الظنّية الّتي تفيد وتعرف أنّها تنفعهم.

وفي الكشاف : يجوز أن يراد بها القرآن أي ادعهم بالكتاب الّذي هو حكمة وموعظة حسنة ، ويحتمل إرادة مطلق الدليل الإقناعيّ كما مرّ وأن يراد منها خرق العادات والمعجزات ، فيكون الأوّل مقدّمات عقليّة والثاني محسوسة (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادعهم بالقياس الجدلي الّذي هو إيراد مقدّمات مسلّمة للخصم

__________________

(١) النحل : ٢٣.

(٢) النحل : ٢٩ ، الزمر : ٧٢ ، غافر : ٧٦.

(٣) النحل : ١٢٥.

٣٤٧

وإن لم يكن حقّة أي أحسن طرق المجادلة والمباحثة والمماراة بحيث لا يكون فيها مكابرة ولا صياح بحيث لا يفهم المخاطبة ولا إعراض ولا شتمية ولا يقول لا نفهم كما هو العادة بين الجهلة المتسمّين بالعلماء والطلبة ، وردّ ما هو غير حقّ من مقدّمات بطريق حقّ حتّى يزول شبهتهم لا بالسكوت والمكابرة والردّ بالصياح وأنّه ظاهر لا يحتاج إلى الجواب وغير ذلك ، وبالجملة يكون في غاية الرفق واللّين من غير فظاظة ولا تعنيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي الله يعلم الخيّر السالك للطريق الحقّ المطيع له ، والقابل للحقّ ، والمنكر له الضالّ الّذي لا يؤثر فيه شيء فيجازي كلّا بعمله ، وليس عليك إلّا ما تقدّم ، وليس عليك الهداية إليه. في الكشاف : ربّك أعلم بهم ، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ، والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، فكأنّك تضرب منه في حديد بارد.

وفي هذه الآية إشارة إلى جواز المماراة الحسنة ، والبحث ، وبيان الحقّ بطريق الحجّة والبيان ، وإشارة إلى قانون الميزان الثلاثة الأقسام المقبولة من البرهان والخطاب والقياس الجدلي ، ولمّا كان القياس الشعريّ غير مقبول ومنهيّا عنه ما ذكره هاهنا ، بل نهى عنه في قوله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) (١) على ما قيل ، وكذا السفسطيّ ، والاحتياج في البحث عن المعرّف هنا والقول الشارح ظاهر ، فإنّه ممّا يتوقّف عليه القياسات ، فصارت الميزان مقبولا بالكتاب كذا قيل ، ففيها دلالة على جواز المماراة الحسنة ، دون الباطلة ، وكذا في سورة الكهف (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) (٢) كما دلّ عليه الأخبار الكثيرة مثل لا تمار فإنّ المؤمن لا يماري ، أعاذنا الله وإيّاكم عن أمثالها.

وقالوا في قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) دلالة على عدم كون الحسن والقبح عقليّين ولا دلالة فيه بيّنته في الأصول من عشرة أوجه ، وقلت بل فيها دلالة على كونها عقليين إذ سوقها لبيان أن ليس لله العقاب والذمّ

__________________

(١) يس : ٦٩.

(٢) الكهف : ٢٢.

(٣) أسرى : ١٥.

٣٤٨

لأحد على فعل قبل بعثة الرسول ، وبيان قبح ذلك القبيح له ، وأنّ ذلك العقاب غير جائز عند العقلاء ، بل ذلك مذموم وقبيح ، إذ للمعاقب اعتراض معقول لا دفع له ، بأن يقول لو لا أرسلت إلينا رسولا ، وهو عين الحسن والقبح العقليّين ، وأن ليس لله ما يفعل ، وإن كان قبيحا ، وأن لا قبيح إلّا ما قبّحه بل لا يقبّح إلّا قوله لا تفعل ولا يحسّن إلّا قوله افعل ، وهو ظاهر وإلّا فلا معنى حينئذ لقوله لو لا أرسلت وكان عقابهم معقولا ، بل لا معنى للحساب والميزان فتأمّل.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١) قال في الكشاف : وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظنّ الغالب ، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطا وفيه تأمّل فتأمّل.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) في الكشاف أو يدخلوكم في ملّتهم بالإكراه العنيف ، ويصيّروكم إليها ، والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم ، يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إن دخلتم في دينهم في مجمع البيان : قيل من اكره على الكفر فأظهره فإنّه مفلح ، فكيف يصحّ الآية ، والجواب يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه ، ويجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقيّة في إظهار الكفر بمعنى لو أظهر باللسان وإن لم يكن من القلب يكون مأثوما وكافرا لا ينفعه الايمان بعده ، وفيه بعد عقلا ونقلا فالأوّل متعيّن وظاهر الآية كما قال في الكشّاف إن صرتم إلى ملّتهم لن تفلحوا أبدا يعني باختياركم بعد تكليف هؤلاء لكم ، ففيه دليل على عدم قبول توبة المرتدّ فتأمّل ، ويحتمل التقييد بما دام كنتم في دينهم غير راجع إلى دين الحقّ وهو ظاهر فتأمّل.

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلّا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه ، وهو أن تقصّ عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ، ولا تزيد ، من غير تجهيل لهم ، ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم ، كما قال :

__________________

(١) الكهف : ١٩.

٣٤٩

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هذه تدلّ على جواز البحث والجدل في العلم بطريق ظاهر حسن ، وتحريمه وعدم جوازه لا على ذلك الوجه المرضيّ الحسن ، فهي مخصّصة لما دلّ على النهي عن ذلك وتحريمه ، مثل لا تمار فإنّ المؤمن لا يماري ، وهو ظاهر.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١) في الكشّاف كان من الجنّ كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين ، كأنّ قائلا قال : ماله لم يسجد؟ فقال كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه ، والفاء للتسبيب أيضا : جعل كونه من الجنّ سببا في فسقه يعني أنّه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم ، لم يفسق عن أمر الله [كسائر الملائكة] لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجنّ والإنس ، كما قال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢) ومعنى فسق عن أمر ربّه خرج عمّا أمره به من السجود وقال أو صار كافرا بسبب أمر ربّه الّذي هو قوله سبحانه (اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا مبنيّ على مذهب المعتزلة أنّ كلّ ذنب كفر فالظاهر أنّ معنى الآية ففسق بسبب ترك أمر ربّه فترك أمر ربّه ففسق وهو ذنب وخروج عن الطاعة ، موجب للعقاب.

ففيها دلالة على كون الأمر للوجوب كما في قوله تعالى في الأعراف (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٣) الآية ، حيث وبّخ على ترك السّجود والمأمور به بمجرّد ترك الأمر ، وهو أحسن ممّا استدلّوا به وهو ظاهر.

بقي هنا سؤال هو أنّ ظاهر الآية كون إبليس غير ملك ، وقد صرّح في تفسيره به ، ولم يكن داخلا في المأمورين بالسجود فلا يحسن الاستثناء ولا معنى للذنب والتوبيخ فيمكن أن يقال إنّه ما كان داخلا فيهم ، وإنّما عبّر بالملائكة تغليبا أو كان ملكا ولكن لمّا كان شأن الملك أن لا يعصي ربّه وقد عصى ربّه فكأنّه ليس بملك

__________________

(١) الكهف : ٥٠ ،

(٢) الأنبياء : ٢٧.

(٣) الأعراف : ١١ و ١٢.

٣٥٠

بل جنّ ، ولم يثبت كون كلّ ملك معصوما الله يعلم.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (١) خطاب لموسى وهارون بأنّ يكلّما فرعون ويكلّفاه بالايمان بالله ، ولكن بقول لين ملائم أي ارفقا به في الدّعاء والقول ، ولا تغلّظا له في ذلك ، وقيل معناه كنّياه وكنيته أبو الوليد وقيل أبو العباس وقيل أبو المرّة ، قال في مجمع البيان وفي هذا القول دلالة على وجوب الرفق في الدعاء إلى الله ، وفي الأمر بالمعروف ، ليكون أسرع إلى القبول ، وأبعد من النفور ، فلا بعد في دخول التعليم والمباحث العلمية وغيرهما من تعليم الخير فيه ، وهو ظاهر وفّقنا الله وإيّاكم لذلك ، قال في الكشّاف والقول اللّين نحو قوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) لأنّ ظاهره الاستفهام والمشهورة وعرض ما فيه الفوز العظيم ، وقيل معناه : عداه شبابا لا هرم من بعده ، وملكا لا ينزع منه إلّا بالموت ، وأن يبقى له لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وزاد في مجمع البيان : وإذا مات دخل الجنّة فأعجبه ذلك ، وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلمّا قدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه وأنّه يريد أن يقبل منه ، فقال هامان قد كنت أرى أنّ لك عقلا وأنّ لك رأيا! بينا أنت ربّ وتريد أن تكون مربوبا؟ وبينا أنت تعبد وتريد أن تعبد؟ فقلبه عن رأيه ، وفي الواقع صدق هامان لو كان له عقل ما شاوره في هذا الأمر فإنّ هامان أيضا ليس له عقل.

وقال أيضا في الكشاف وقيل لا تجبهاه بما يكره والطفا له في القول ، لما له من حقّ تربية موسى ، ولما ثبت له من مثل حقّ الأبوّة. والأوّل أحسن فإنّ لطفه وكرمه وتأديبه عباده يقتضي الأمر بالتلطّف ، ولين الكلام ، ولأنّه أقرب إلى التأثير لا حقّ له يقضي فتأمّل ، ثمّ قال في (لَعَلَّهُ) الترجّي لهما ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما ، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ، ولا يخيب سعيه ، فهو يجتهد بطوقه ، ويحتشد بأقصى وسعه.

يعلم من هذا الأسلوب من التأديب في دعوته إلى الايمان نهاية شفقته تعالى بعباده وكمال اهتمامه بإيمانهم باختيارهم ، وخلاصهم من عقابه ، وتعبّدهم له

__________________

(١) طه : ٤٤ ،

٣٥١

لينتفعوا به من الأمر بالقول اللّين ، مع التصريح بالرجاء حتّى لا يقصّرا في الدعوة كما بيّن ، ثمّ علّله بقوله (يَتَذَكَّرُ) : ويتأمّل فيبذل النصفة من نفسه ، والإذعان للحقّ (أَوْ يَخْشى) أن يكون الأمر كما تصفان فينجرّ إنكاره إلى التهلكة ، ولهذا قال في مجمع البيان وكان يحيى بن معاذ يقول هذا رفقك بمن يدّعي الربوبية فكيف رفقك بمن يدّعي العبوديّة وقال في الكشاف وجدوى إرسالهما مع العلم بأنّه لن يؤمن إلزام الحجّة ، وقطع المعذرة (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) (١) ففيه المبالغة كما ظهرت وإظهار الشفقة واللطف وإبطال دعوى أنّه لا يريد من الكافر إلّا الكفر ، وأن ليس الحسن والقبح إلّا شرعا بل قول افعل ولا تفعل ، وهو ظاهر [البطلان] فافهم.

واعلم أيضا أنّ في قبول موسى معارضة فرعون بسحر السحرة معجزة دلالة واضحة على كون الحسن والقبح عقليّين ، وبطلان إفحام الأنبياء عليهم‌السلام ، وعدم صحّة الجواب بأنّه نحن نقول يجب عليك النظر سواء تنظر أولا تنظر ، وأنّ شرط التكليف هو العقل ، وإمكان المعرفة ، لا حصول العلم بمكلّف به ، لكلّ مكلّف مكلّف ، وإلّا دار وهو ظاهر ، وهو في آيات شتّى مثل (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى قالَ أَجِئْتَنا) الآية (٢).

«وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً (٣) أي اذكريا محمّد يونس بن متى وقت ذهابه عن قومه ، حين ضاق خلقه من وعظهم ودعوتهم ، وعدم اتّعاظهم وقبولهم ، حال كونه مغضبا أي أغضبهم بمفارقته لهم ، ولخوفهم نزول العقاب عليهم عند مفارقته لهم ، وقرئ «مغضبا» ويحتمل أن يكون المعنى باغضا لهم أيضا مع أنّه ظنّ أنّ ذلك يجوز له ، حيث ما فعل إلّا لله فهو بغض لله ، ولعلّ كان الأولى له الصبر ، وانتظار الاذن والفرج من الله ، فما صبر (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ) أي ظنّ أنّ الله تعالى ما قدر عليه وما فرض له المعاتبة والتعنيف عليه أو ظنّ أنه لم يفعل الله معه فعل القادر

__________________

(١) طه : ١٣٤ ،

(٢) طه : ٥٦.

(٣) الأنبياء : ٨٧.

٣٥٢

ولم يستعمل قدرته في عتابه لحسن ظنّه بالله أو مثّل عدم فعله تعالى ـ بسبب أنّه كان جائرا له ـ بمن لا يقدر عليه ، فهو تمثيل واستعارة قاله في الكشاف.

وقال في مجمع البيان ظنّ أن لن يضيّق عليه ، فتأمّل ، وهذا مرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام قال الجبائي ضيّق الله عليه الطريق حتّى ألجأه إلى ركوب البحر ثمّ قذف فيه فابتلعته السمكة وقيل استفهام وتقديره أفظنّ أن لن نقدر عليه؟

(فَنادى) أي ذو النون (فِي الظُّلُماتِ) ظلمة بطن الحوت ، وظلمة اللّيل ، وظلمة البحر ، أو أنّ الحوت الّذي بلعه بلعه حوت آخر فصارت ظلمات بطنين وظلمة الليل أو شدّة الظلمة فكأنّها ظلمات كثيرة (أَنْ لا) أي بأن لا (إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أو أي لا إله فأن بمعنى أي وفي الأوّل با مقدّرة (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من الّذين وجد منهم الظلم ، قاله على سبيل الخشوع والخضوع ، لأنّ جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم ، ولم يكن في بطن الحوت على جهة العقوبة لأنّها عداوة والنبيّ ليس بعدوّ لله ، بل على جهة التأديب فإنّه يجوز للمكلّف وغيره كالصّبيّ ولغير العدوّ كذا في مجمع البيان.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي ليست النجاة بمخصوصة به بل ننجي كلّ مؤمن مبتلى دعا به ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له ، وهو صريح في قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وفي الكشاف : عن الحسن ما نجّاه والله إلّا إقراره على نفسه بالظلم.

ففي هذه الآية الشريفة دلالة على الترغيب والتحريص على الصبر والتحمّل وعدم ترك الذكر والوعظ وعدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمبالغة في ذلك جدّا وكثيرا ، لعدم الأثر ، وعدم ترك ما أمر الله به إلّا بإذنه ، لا بظنّ عدم التأثير ، فينبغي عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمجرّد ظنّ عدم التأثير كما هو المشهور فإنّه يحتمل إصابة عذاب وعقاب عظيم بذلك ، كما فعل بذي النون عليه‌السلام.

فتدلّ على أنّه لا بدّ أن يكون الإنسان على خوف عظيم ، إذ فعل به عليه

٣٥٣

السلام ما فعل ، مع كون فعله ترك الأولى ، مع ظنّ أنّ فعله كان لله ، فكيف الظنّ بنا إلّا أن يكون من جهة عدم الاعتداد والاعتبار بنا ، فيخلّينا وأنفسنا فنعوذ بالله من ذلك أيضا ، وعلى الترغيب على الإقرار بالذنوب والظلم ، وأنّ له دخلا في استجابة الدعاء ، وعلى تكرار هذه الآية الشريفة عند الكرب ، ودفع الهموم والغموم ، كما ورد به الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام.

فائدة

نقل أنّ حيّا (١) من الأنبياء لهم اسمان ذو النون ويونس ، وإسرائيل ويعقوب وعيسى ومسيح ، ومحمّد وأحمد ، وذو الكفل وإلياس ، وقيل ذو الكفل هو زكريّا ، وقيل يوشع بن نون وكأنّه سمّي بذلك لأنّه ذو الحظّ من الله والمجدود على الحقيقة وقيل كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم.

وأيضا يدلّ على استجابة الدعاء والترحّم لو قال الإنسان في دعائه ما نقل عن أيّوب عليه‌السلام (وَأَيُّوبَ) (٢) أي أذكره (إِذْ نادى) أي وقت ندائه (رَبَّهُ أَنِّي) بأنّي (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) بالفتح الضرر في كلّ شيء ، وبالضمّ الضرر في النفس ، من مرض وهزال (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وربّه بغاية الرحمة ولم يصرّح بالمطلوب فاستجاب له بقوله (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) فرجع أيّوب إلى الصحّة وأعطاه الأموال والأولاد كما كانت بل أكثر ، وهو مسطور في التفاسير ، ويدلّ على تحريم الافتراء على الله بأنّ له شريكا مثلا أو ولدا أو زوجة ونحو ذلك ، وكذا على تحريم إنكار الحقّ بعد العلم به ، وظهوره عنده ، فتدلّ على تحريم المجادلة في البحث ، وإنكار الحقّ إذا كان في يد الخصم ، وتزييفه والجدال والمراء حتّى يحصل بيده ما يمكن أن يوجّه كلامه ، ويزيّف كلام خصمه كما هو المتعارف في زماننا هذا.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ

__________________

(١) خمسا خ ل.

(٢) الأنبياء : ٨٣.

٣٥٤

أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (١) استفهام إنكار فكأنّه جعل المجادل الّذي يرى الحقّ في يد خصمه وينكر ولا يصدّقه والمفتري على الله كافرا فتأمّل. في مجمع البيان أي لا ظالم أظلم ممّن أضاف إلى الله ما لم يقله من عبادة الأصنام وغيرها ، (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ) أي بالقرآن ، وقيل بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحتمل العموم فيهما كما هو الظاهر (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي جاهدوا الكفّار ابتغاء مرضاتنا وطاعتنا ، أو جاهدوا أنفسهم في هواها خوفا ، وقيل معناه : اجتهدوا في عبادتنا رغبة في ثوابنا ورهبة من عقابنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الموصلة إلى ثوابنا عن ابن عبّاس ، وقيل : لنوفّقنّهم لازدياد الطاعة ليزداد ثوابهم ، وقيل معناه : والّذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنّة ، وقيل معناه والّذين يعملون بما يعلمون لنهدينّهم إلى ما لا يعلمون (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والمعاونة في دنياهم ، والثواب والمغفرة في عقباهم وبالله التوفيق للعمل والعلم.

ومن وصيّة لقمان لابنه أنّه (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) و (أَقِمِ الصَّلاةَ) في أوقاتها بشرائطها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) (٣) فيهما أو في الدنيا مطلقا ، ومعلوم راجحيّة هذه الأمور ، بل وجوبها. والصبر أيضا بمعنى تحريم عدم الرضا ، وإظهار ما يوجب لسخط الله ، ووصّى الله تعالى بين وصايا لقمان ، ولعلّه تركها (٤) لكونه أبا إشارة إلى أنّه لا بدّ من ذلك أيضا وأنّ وصيّته مثل وصيّة الله في وجوب الاتّباع وقد بالغ في ذلك حيث عمّ الوصيّة بهما ، وما خصّه بشيء دون آخر.

ويحتمل أن يكون المراد (حُسْناً) كما في موضع آخر ، وحيث فسّر الوصيّة بهما بالشكر لله بالحمد ، والطاعة بامتثال الأوامر وترك المناهي ، وشكرهما بالبرّ والصلة بل الطاعة ، فكأنّهما شقيق الله في وجوب الطاعة والشكر ، وأداء الحقوق

__________________

(١) العنكبوت : ٦٨ و ٦٩.

(٢) لقمان : ١٣.

(٣) لقمان ١٧.

(٤) يعنى ترك متن الوصية حيث قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ولم يقل حسنا كما في العنكبوت : ٧. فتأمل.

٣٥٥

فالتقدير : ووصّينا الإنسان بنا وبالوالدين ثمّ فسّره بقوله (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) فأنّ مفسّرة فإنّ المعنى وأمرنا الإنسان بي وبوالديه أي قلنا له : اشكر لي ولوالديك ففيه مبالعة زائدة بالوالدين لا يمكن فوق ذلك بأن جعل الوصيّة إليهما وصيّة إليه وشكره شكرهما ، وغير ذلك ، وأكّد ذلك خصوصا جانب الأمّ لكثرة حقوقها ومشقّتها ، بقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) وهي جملة حاليّة مقدّرة ، وعطف عليه (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي ضعفا على ضعف أو ثقلا على ثقل ، فانّ الحمل كلّما يزداد زيادة يزداد ثقلا وضعفا ، وكذا رضاعه طول الحولين فإنّه موجب لمشقّة زائدة مع حضانته في تلك المدّة.

ومعنى (فِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطامه في انقضاء الحولين وبعد مضيّهما ، فيدلّ على أنّ الحولين غاية الرضاع ولا يكون رضاع فوقهما ، فلا يكون محرّما أيضا ، ولكن جوّز الأصحاب رضاع شهر أو شهرين بعدهما للأخبار أو الإجماع والاحتياط في الأوّل ، ويمكن حمل ذلك على الضرورة ، نعم يحتمل الأقلّ لقوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (١) ثمّ أكّد المبالغة في ذلك بالوعيد بقوله «و (إِلَيَّ الْمَصِيرُ») أي مرجع المطيع والشاكر لي ولهما ، والعاصي وكافر النعمة والعاقّ لهما ، إليّ ، فاجازي كلّا بعمله ، وبما يستحقّه.

ثمّ بالغ مرّة أخرى بما هو بمنزلة الاستثناء أي تطعهما إلّا في الكفر حيث قال (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي إن بذلا جهدهما في أن تعبد غيري وتشارك معي معبودا غيري فلا تطعهما في ذلك ، فانّ ذلك طاعة فيما ليس لك به علم ، فانّ العلم به محال ، فإنّه محال ، فأشار إلى نفيه بنفي العلم ، وفيه إشارة إلى وجوب متابعة العلم ، وعدم متابعة غيره ، يعني لو كان له علم في ثبوت الشريك لكان جائزا ويجب عليكم تبعيّة الوالدين في ذلك ، فكيف غيره ، ولكن ذلك محال ، وأكّده مرّة أخرى بعده بقوله (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) يعني مع كونهما كافرين وجاهدا في كفرك ، لا تترك الإحسان معهما ، بل

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

٣٥٦

استعمل معهما معروفا حسنا جميلا بخلق جميل واحتمال ما يصل إليك منهما وبرّ وصلة وما هو مقتضى العرف ، والحسن الجميل في الدنيا مع قطع النظر عن آخرتهما أو افعل بهما ما يقتضيه الكرم والمروّة والإحسان (وَاتَّبِعْ) في ذلك وغيره (سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) يعلم أنّ له رجوعا ومصيرا (إِلَيَّ) ويعتقد أنّ العاقبة إلىّ وهو سبيل المؤمنين لا سبيل الكفّار ، وزاد ذلك بقوله (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبالجملة فيها المبالغة أكثر من أن يبيّن كما مرّ في تفسير قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فتذكّر (١).

ثمّ في الآية من الفروع وجوب الرضاع في عامين لا أكثر إلّا أن يثبت بدليل وعدم كون ما زاد رضاعا محرّما لعدم كونه شرعا ، والمحرّم إنّما هو الشرعيّ فتأمّل ، فقول أبي حنيفة إنّ مدّة الرضاع ثلاثون شهرا باطل ، فإنّه مخالف لظاهر الآيتين فافهم ، ولهذا رجع من قوله صاحباه وقالا بقول الشافعيّ والأصحاب أنّه حولان وكون أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر بضمّ قوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٢) فإنّك إذا أخرجت الحولين الكاملين من ثلاثين شهرا للرّضاع ، يبقى ستّة أشهر للحمل فتأمّل ، ووجوب شكر نعمة المنعم ، منه طاعة الوالدين ، وبرّهما ، وتحريم العقوق ، وثبوت ذلك بالنسبة إلى الكافرين ، وعدم متابعته في أيّ شيء كان فافهم.

ومن وصيّته (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (٣) أي ولا تمل وجهك من الناس تكبّرا ولا تعرض عمّن يكلّمك استخفافا ، في الكشاف أي أقبل على الناس بوجهك تواضعا ولا تولّهم شقّ وجهك وصفحته كما يفعل المتكبّرون ، في مجمع البيان قيل : هو أن يكون بينك وبين الإنسان شيئا ، فإذا لقيته أعرضت عنه (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) بطرا وخيلاء أي لا تمرح مرحا أو يكون مرحا حالا ، فالمصدر بمعنى الفاعل ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل المرح والأشر ، كما يمشي كثير من الناس كذلك لا لكفاية مهمّ دينيّ أو دنيويّ ، ونحو قوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) (٤) (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي

__________________

(١) بل سيجيء في كتاب المكاسب.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) لقمان ١٨.

(٤) الأنفال : ٤٧.

٣٥٧

متكبّر فخور على الناس ، والمختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور المصعّر خدّه كبرا كذا في الكشاف.

ومن وصيّته (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١) في الكشاف أي اعدل فيه حتّى يكون مشيا بين مشيين لا تدبّ دبيبا المتماوتين أي الميّتين الّذين لا حركة لهم أو الضعيفين لكثرة العبادة ، ولا تثب وثب الشطّار ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه وأقصر ، فإنّ أنكر الأصوات أي أوحشها وما استوحشت النفوس منه أكثر من غيره من الأصوات هو صوت الحمار ، وقيل أقبح الأصوات صوت الحمار.

وهذه الأمور وإن كانت من وصيّة لقمان إلّا أنّ الله أعطاه الحكمة ، ونقل وصيّته بحيث يدلّ على استحسانه والرضا به ، فكلّ ما يدلّ على التحريم منها يكون حراما ، وكذا غيره إلّا أن يخرج بدليل ككلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ظاهر ، في مجمع البيان : أمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والنطق ، وروي عن زيد بن عليّ عليه‌السلام أنه قال أراد صوت الحمير من الناس ، وهم الجهّال ، شبّههم بالحمير كما شبّههم بالأنعام في قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام هي العطسة المرتفعة القبيحة ، والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلّا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن ، فيدلّ على عدم قبح رفع الصوت بالدعاء ، والقرآن مطلقا مع قوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٢) وقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣) فتأمّل.

وتدلّ على أنّ التقوى وهو الإتيان بالمأمور به ، والانتهاء عن المعاصي ، والقول السديد أي قولا حقّا عدلا موجب لإصلاح الأعمال وغفران الذنوب : قوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ

__________________

(١) لقمان : ١٩.

(٢) الأعراف : ٥٥.

(٣) الأعراف : ٢٠٥.

٣٥٨

ذُنُوبَكُمْ) (١) والمراد حفظ اللّسان في كلّ باب لأنّ حفظه وسداد القول رأس الخير كلّه ، والمعنى واتّقوا الله وراقبوه في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم ، فإنّكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبّل حسناتكم ، والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيّئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضيّة.

وفي قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) مقتا تمييز للدلالة على أنّ هذا القول مقت عظيم كأنّه حقير دونه كلّ عظيم ، وهو أشدّ البغض مبالغة ، وتوبيخ كثير على القول بشيء دون العمل به ، فتدلّ على [لزوم] كون الواعظ متّعظا ، والظاهر خلافه كما هو المشهور ، فيمكن أن لا يكون المنع من القول ، بل من عدم العمل بعد تحريض الناس عليه وترك نفسه (٣) وهو قبيح عقلا أيضا كما يظهر من هذه الآية ، وعن بعض السلف أنّه قيل له حدّثنا فسكت ثمّ قيل له : حدّثنا فقال تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فأستعجل مقت الله؟ وأن يكون المراد النهي عن قول لعمل لا يعمله يعني بعد بشيء وفي نفسه عدمه فيدلّ على تحريم خلف الوعد حينئذ لا مطلقا ، مع احتمال الإطلاق فتأمّل ، أعاذنا الله وإيّاكم عنه ، ووفّقنا للعلم والقول والعمل.

__________________

(١) الأحزاب ٧٠ و ٧١.

(٢) الصف : ٣.

(٣) لكنه خلاف نص الآية الشريفة : فإن «مقتا» هو تميز «كبر» وفاعله «أن تقولوا» بتقدير المصدر ، فمعنى الآية الشريفة أن قولكم بما لا تعملونه ممقوت عند الله تعالى من كبائرا لمقت ، وهذا المعنى مؤيد بالعقل والنقل : أما النقل فروايات في ذلك ، وأما العقل فنكير العقلاء على من كان واعظا غير متعظ.

٣٥٩
٣٦٠