زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

(كتاب الجهاد)

والآيات المتعلّقة بها على أنواع :

(الأول في وجوبه)

وفيه آيات :

الاولى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

أي فرض الله تعالى وأوجب عليكم الجهاد مع الكفّار والحال أنّ ذلك شاقّ عليكم ، فأطلق المصدر على المفعول للمبالغة ، بمعنى أنّه مخالف لطباعكم وصعب عليكم من جهة أنّ البشر خلق على أن يحبّ السهولة والحياة والمستلذّات ، والجهاد ينافي ذلك كلّه. أو يكون بمعنى أنّه كان كرها لكم قبل التكليف والأمر به ، أو يكون بمعنى الإكراه مجازا كأنّهم أكرهوا عليه لشدّة مشقّته مثل (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) (٢).

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) معناه تكرهوا (شَيْئاً) في الحال بالنّظر إلى الطّبع (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في المآل كما تكرهون الجهاد لما فيه من المخاطرة بالرّوح ، وهو خير لكم لأنّ لكم في الجهاد إحدى الحسنيين إمّا الظفر والغنيمة مع ثواب المجاهدين وإمّا الشهادة والجنّة في الحال ، من غير انتظار للقيامة ، كما هو المشهور في الشهداء (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) مثل أن تحبّوا ترك الجهاد لمحبّة الحياة

__________________

(١) البقرة : ٢١٦.

(٢) الأحقاف : ١٦.

٣٠١

والمستلذّات المتوهّمة ، وهو في الحقيقة شرّ لكم لأنّه يمنعكم من السعادات الدنيويّة والأخرويّة ، وكذا جميع التكاليف ولعبادات المقرّبة والمناهي المبعّدة المهلكة ، والله يعلم مصالحكم ومنافعكم ، وما يضرّكم وما ينفعكم ، فيمنعكم عن المضرّات ، ويرغّبكم في المنافع والفوائد ، وهي مخفيّة عليكم بظاهر نظركم ، وما تعلمونها لقلّة تدبّركم ، وكثرة الشهوات الّتي تسترها ، والكسل الّذي يزيّن عدمها ، ولوازم البشريّة الّتي تعكسها ، فهي صريحة في وجوب الجهاد على الإجمال والتفصيل مبيّن في الكتب الفقهيّة.

الثانية: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١).

أي يسئلونك يا محمّد عن القتال في الشهر الحرام ، هل هو جائز أم لا؟ ـ والسائلون أهل الشرك على جهة التعيير على المسلمين باستحلالهم القتال في شهر رجب بناء على زعمهم لا حقيقة ، كما يفهم من سبب النزول ، وقيل السائلون المسلمون ليعلموا الحكم ، فقتال بدل عن الشهر بدل الاشتمال إذ الزمان مشتمل على ما فيه ـ قل إنّ القتال في الشهر الحرام ذنب كبير وإثم عظيم لكنّ الصدّ عن سبيل الله أي المنع من الحجّ وغيره من العبادات كما تفعلون ، والكفر بالله وصدّ المسجد الحرام وإخراج أهل المسجد وهم المسلمون من المسجد الحرام كاخراجكم المسلمين من مكّة حتّى هاجروا إلى المدينة أكبر وأعظم ذنبا ووزرا عند الله. فصدّ نكرة موصوفة

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

٣٠٢

مبتدأ وكفر كذلك عطف عليه والمسجد الحرام كذلك بتقدير صدّ ، ويحتمل عطفه على سبيل الله ، وفيها قصور لأنّ حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا مع كون المقدّر ، المعطوف عليه ، قليل ، بل غير معلوم الوقوع ، والفصل بين المجرور وما يتعلّق به بالمعطوف عليه بعيد ، وقيل عطف على المجرور في «به» أي وكفر بالمسجد الحرام فعطف على المجرور من غير إعادة الجارّ وهو جائز بل واقع في القرآن العزيز مثل قوله تعالى (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (١) بجرّ الأرحام وقول الكشّاف والقاضي إنّه ضعيف ، باطل ، فإنّه من السبعة المتواترة وفي أشعار الفصحاء أيضا واقع فينبغي القول به إذ لا دليل على نفيه لا عقلا ولا نقلا ، وما ذكراه من أنّه يلزم العطف على ما هو كبعض الكلمة ، لا يصلح دليلا عليه ، بحيث يلزم تأويل الآيات والأشعار.

والكفر بالمسجد عدم اعتقاد كونه معبدا (وَالْفِتْنَةُ) أي الكفر فإنّه فتنة في الدين (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) الّذي وقع في الشهر الحرام من المسلمين (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) يعني أنّ الكفّار يقاتلونكم أيّها المسلمون دائما حتّى يرجعوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك (وَمَنْ يَرْتَدِدْ) من المسلمين (عَنْ دِينِهِ) ولم يتب حتّى مات على الارتداد فأولئك صارت أعمالهم باطلة كأن لم يكن ، ولم ينتفعوا بها في الدنيا والآخرة.

وسمّى الهلاك حبطا لأنّه في الأصل كلا إذا أكله الماشية يلحقها الفساد في بطنها ، ويقال : حبطت الإبل يحبط حبطا إذا أصابها ذلك ، قاله في مجمع البيان (٢) وقال فيه إيضا معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم تكن لايقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به ، لأنّ إحباط العمل وإبطاله عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الّذي يستحقّ به الثواب ، وليس المراد أنّهم استحقّوا على أعمالهم الثواب ثمّ حبطت لأنّه قد دلّ الدليل على أنّ الإحباط على هذا الوجه لا يجوز.

أقول : المشهور بين الأصحاب أنّ مذهب الإحباط والتكفير باطل ، وقد ادّعي

__________________

(١) النساء : ١.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ص ٣١١.

٣٠٣

عليه الإجماع وقد استدلّ عليه في التجريد سلطان المحقّقين بدليل عقليّ ونقليّ أمّا العقليّ فهو أنّه لا معنى لكون ذنب قليل محبطا لعبادة عظيمة ، وبالعكس ، حتّى لو فعل الإنسان دائما جميع العبادات إلى قرب موته ثمّ إذا فعل أدنى صغيرة تبطل تلك بالكلّية ، ويستحقّ به العقاب الدائم ، وبالعكس ، وهو ظاهر البطلان ، ومذهب بعض المعتزلة وأمّا إسقاط المساوي بالمساوي وإبقاء الزيادة كما هو مذهب البعض الآخر منهم فلا يدلّ دليله العقليّ عليه.

وأمّا النقليّ فهو مثل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وفي دلالته أيضا تأمّل إذ من فعل خيرا وأسقط له به عقاب يصدق أنّه رآه وبالعكس ، وبالجملة الأخبار والآيات متظافرة متكاثرة في وقوع الإحباط فإنكاره لا يمكن ، فلا بدّ من التأويل لو صحّ عدم جوازه ، والتأويل الّذي في مجمع البيان غير واضح ، إذ لا معنى لوقوع الفعل على وجه يستحقّ فاعله الثواب والمدح إلّا الإتيان على الوجه المأمور به شرعا ، يعني الإتيان به مع جميع الشرائط المعتبرة في صحّته حين الفعل ، وقد فرض الإتيان على هذا الوجه ثمّ ارتدّ ، ومنع هذا الإتيان في جميع الصور الّتي أطلق عليه الإحباط بعيد ، ومعلوم أنّ عدم الارتداد فيما بعد ليس من شرائط صحّة الفعل حين إيقاعه كما ذكره القاضي بل مطلقا عند الأصحاب إلّا ما نقل عن الشيخ الطوسي رحمه‌الله أنّه يبطل الحجّ بالردّة وضعّفه الأصحاب وتدلّ الآية أيضا على ضعفه وعلى تقديره أيضا لا ينبغي توقّفه على التوبة كما يظهر من مجمع البيان.

والظّاهر أنّ هذا التأويل إنّما يصحّ على أنّ المسلم ما يرتدّ ولكن ذلك غير واضح وأيضا إنّه ما يجري فيما إذا كان إحباط بعض الأعمال البدنيّة بالبعض ، مثل أنّ شرب الخمر يحبط كذا وكذا ، والزّنا كذا وكذا ، وأنّ الصّلاة تكفّر ذنب كذا وكذا ، والحجّ كذا وكذا ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فلا يبعد حمل قول الأصحاب ببطلان الإحباط والتّكفير على اللّذين ذكرناهما في الأوّل وادّعينا

٣٠٤

ظهور بطلانهما ، وإن أرادوا غير ذلك فغير واضح الدّليل كما عرفت.

نعم يمكن أن يقال لا استبعاد فيما نحن فيه أن يستحقّ الإنسان ثوابا ويكون وصوله إليه موقوفا على عدم صدور منافيه منه من الردّة أو يكون البقاء على الايمان شرطا لاستمراره وانتفاعه به ، ويكون الإحباط عبارة عن عدم ذلك.

فدلّت الآية على تحريم القتال والجهاد في الشّهر الحرام ، وتحريم الصدّ عن سبيل الله ، وما عطف عليه ، وعلى التحريض والتّرغيب على القتال وعدم جواز الارتداد ، وعلى أنّ الإحباط بالردّة موقوف على الموت عليها كما هو مذهب الشّافعيّ فمذهب الحنفيّ وهو أنّه الإحباط بالردّة مطلقا وإن رجع ذكره في الكشّاف خلاف ظاهر الآية سيّما مع القول بالمفهوم كما هو مذهبه.

وعلى قبول توبة المرتدّ ، حيث قيّد الخلود في النّار بالموت على الارتداد والكفر ، وهو أعمّ من الفطريّ وغيره ، فلا يبعد القول بقبول توبة الفطريّ أيضا بمعنى صحّة عباداته واستحقاقه الجنّة ، دون خلود النّار ، كما هو مقتضى العقل ، لأنّه مكلّف بالعبادات والايمان ، وهو بدونها محال على الله تعالى ، ولا ينافيه عدم سقوط بعض الأحكام مثل القتل بدليل شرعيّ وأمّا النّجاسة فبعيدة إلّا أن يقال بالنسبة إلى غيره ، وأمّا بالنسبة إلى نفسه فيكون طاهرا إذ لا معنى لنجاسته مع صحّة عباداته المشروطة بها ، كما رجّحناه ، إلّا أن يقال أنّ الآية نزلت في أوائل الإسلام ، وما كان هناك مسلم فطريّ.

وقيل في سبب نزولها أنّه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة من المسلمين وأمّر عليهم عبد الله بن جحش الأسديّ وهو ابن عمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك قبل قتال بدر بشهرين ، ليرصد عير قريش ، فوجودها وفيهم عمرو بن الحضرميّ وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير ، وكان فيها تجارة الطّائف ، وكان ذلك في غرّة شهر رجب وهم يظنّونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : استحلّ محمّد الشهر الحرام فشقّ ذلك على أصحاب السّريّة ، وقالوا ما نبرح حتّى تنزل توبتنا ، فنزلت ، وردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العير والأسارى.

٣٠٥

وعن ابن عبّاس لمّا نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغنيمة وهي أوّل غنيمة في الإسلام ، والسّائلون هم المشركون كتبوا إليه تعييرا وتشنيعا وقيل : إنّ تحريم القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) و (قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٢) وفي صلاحية الأخيرة للنّاسخيّة تأمّل ، إذ ليست بصريحة في كلّ مكان ، ولا في كلّ زمان ، وفي الأولى بالنّسبة إلى الثّاني كذلك ، وبعد التسليم ، التّخصيص خير من النسخ وأيضا بعض أحكامها باقية ، فلا يكون منسوخة قال في مجمع البيان وعندنا أنّه على التحريم فيمن يرى لهذه حرمة ولا يبتدؤننا فيها بالقتال فيكون التحريم مخصوصا بهذين بدليل من إجماع أو خبر ، وتركنا تفصيل أحكام القتال لوضوحها في الكتب الفقهيّة مع عدم الاحتياج إليه ، ولهذا تركنا أكثر الآيات المشتملة على بعض أحكام الجهاد ولكن ذكرنا البعض تبعا للأصحاب ولبعض الفوائد.

الثالثة: (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣).

تدلّ على وجوب الجهاد ، وعلى نفي الضرر والحرج كما يدلّ عليه الخبر والعقل أيضا ولكن فيه إجمال.

الرابعة: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٤).

أي قاتلوا الكفّار في دين الله وطريقه الّذي بيّنه لكم ليعبدوا الله عليه ، أي قاتلوهم لإعلاء كلمته وإعزاز دينه حتّى يسلكوه ويرجعوا إليه ، قيل : أمروا بقتال الرجال الّذين يقدرون على القتال عادة دون النساء والصّبيان والشيوخ

__________________

(١) براءة : ٥.

(٢) البقرة : ١٩٠.

(٣) الحج : ٧٧.

(٤) البقرة : ١٨٧.

٣٠٦

وقيل المراد قتال أهل مكّة الّذين حاربوا المسلمين من قبل ، وذلك موافق لما قيل من سبب نزول الآية ، حيث قيل : إنّها نزلت في صلح الحديبية ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خرج هو وأصحابه في العام الّذي أرادوا فيه العمرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبية ، فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ، ثمّ صالحهم المشركون على أن يرجع في العام المقبل ويخلو له مكّة ثلاثة أيّام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء ، فرجع إلى المدينة فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا يفي لهم المشركون وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فأنزل الله الآية أي قاتلوا الّذين يقاتلونكم دون الّذين لم يقاتلوكم ، وقيل معناه الكفرة كلّهم وإن لم يقاتلوا المسلمين ، فإنّهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده ، ولا تعتدوا بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد أو المفاجأة ، من غير دعوة إلى الإسلام ، أو القتل الّذي لا يجوز مثل المثلة أو قتل النّساء والصّبيان وغيرها ، وبالجملة لا تفعلوا ما لا يجوز (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ولا يريد لهم الخير بل يريد إيصال الشرّ إليهم فتدلّ الآية على وجوب القتال في الجملة ، وعدم جواز التعدّي والظلم ، ولا يبعد تعميمها بحيث يشمل وجوب القتال مع المحارب الّذي يقاتل الإنسان على ماله ونفسه ، وتحريم التعدّي في أخذ المال والنفس ، وعدم جواز مقاتلة من لا يريد ذلك وترك وهرب ، وسائر ما ذكر في الكتب الفقهيّة.

الخامسة: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١).

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

٣٠٧

قيل : نزلت في رجل من الصّحابة قتل رجلا من الكفّار في الشهر الحرام فعيّروا المؤمنين بذلك ، فبيّن سبحانه أنّ الفتنة وهو الشرك أشدّ وأعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز ، ثمّ أمر الله وأوجب قتال الكفّار حيث وجدوا وأدركوا في الحلّ والحرم والشهر الحرام وغيره إلّا ما يخرج بالتخصيص وأصل الثقف الحذق في إدراك الشّيء علما أو عملا وهو متضمّن لمعنى الغلبة وإخراجهم من مكّة في مقابلة إخراجهم المسلمين عنها.

وأخبر أنّ الفتنة أي المحنة الّتي يفتتن بها الإنسان ، من الإخراج عن الأهل والوطن أشدّ من القتل أو أنّ شركهم في الحرم أشدّ كما دلّ عليه سبب النزول ، أو أنّ صدّهم المسلمين في الحرم أشدّ من قتلكم إيّاهم ، ولا تبتدؤهم بالقتل في الحرم حتّى لا يلزمكم هتك حرمة الحرم ، فان ابتدؤكم بالقتال فجازوهم به ، فانّ الوبال عليهم ، حيث ابتدءوا به ، وأنتم تجازون وتعدلون ، فليس عليكم به بأس ، ولا يلزمكم هتك الحرم ، ومثل هذا الجزاء هو جزاء الكفّار بالقتل في الحرم وإخراجهم عن الوطن والأهل والمال.

فدلّت على وجوب قتال الكفّار ، وعلى وجوب إخراجهم عن مكّة ، كما قاله الفقهاء أيضا ، بل أعمّ من ذلك حيث قالوا لا يجوز إسكانهم في جزيرة العرب لقوله عليه‌السلام لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، وكأنّ لهم غيره من الأخبار وتفصيل المسئلة في الفقه.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) أي إن امتنعوا عن الكفر والقتل والإخراج وتابوا فانّ الله يغفر لهم ما أسلفوا ويرحمهم ، فدلّت على قبول التوبة من قتل العمد أيضا لأنّ الشرك الّذي هو أعظم منه تقبل التّوبة عنه ، فالقتل بالطريق الأولى كذا في مجمع البيان ، وفيه تأمّل فإنّه على بعض التفاسير والاحتمال ، ومع ذلك يشكل بأنّ قتل العمد حقّ الناس وأنّه ورد فيه الخلود في النار ، وهو يشمل التائب أيضا فلا يلزم من سقوطه سقوطه ، لأنّ الله قد يسقط حقّه بالتوبة ، ولا يسقط حقّ

__________________

(١) البقرة : ١٨٩.

٣٠٨

غيره ، إلّا أن يكون المراد بعد الخروج عن الحقّ الّذي للمقتول ، وتقبل توبته من جهة فعله الحرام العظيم ، وخصّ ما يدلّ على خلوده النّار بغير التّائب.

ثمّ بيّن الوجوب في آية أخرى بعدها (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١) فبيّن الله تعالى غاية وجوب القتال بأنّها عدم الفتنة أي الشرك وكون الطاعة والانقياد لله تعالى فقط ، فان امتنعوا عن الكفر وأذعنوا بالإسلام وقبلوه (فَلا عُدْوانَ) أي لا عقوبة (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي ليس عقوبة القتل والإخراج في الدّنيا وعقوبة الآخرة بالنّار وغيرها على الدّوام إلّا على الظالمين أي الكافرين المقيمين على الظلم والكفر ، وفيها أيضا دلالة على عدم جواز القتل بل السبي وغيره بعد الإسلام ، فلا يجوز استرقاقهم أيضا بعد الإسلام ، ولا أخذ ما لهم بل شيء من العقوبات من الاسترقاق وأخذ المال وغيرهما.

السادسة: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٢).

الشهر الحرام هو الّذي فيه تحرم القتال ونحوه والحرمات جمع حرمة ، وهي ما يجب حفظه ، ولعلّ المراد به هنا ذو القعدة ، وهو شهر الصدّ عام الحديبيّة والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة سرد وواحد فرد ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب ، قيل التقدير قتال شهر الحرام بقتاله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل لا تقدير بل معناه هذا الشهر الحرام بالشهر الحرام الّذي منعتم رسول الله عن الطاعة والطواف أي حصل ما أردتم في ذلك فيه (٣) وقريب منه مضمون (الْحُرُماتُ قِصاصٌ)

__________________

(١) البقرة : ١٩٠.

(٢) البقرة : ١٩١.

(٣) أي ما أردتم من القتال في ذلك الشهر العام الماضي ، حصل في ذاك الشهر بعينه في هذا العام.

٣٠٩

يعني لمّا صدّوا رسول الله ومنعوا المسلمين عن عباداتهم في مكّة حصل لهم مكافأته في ذلك الشهر بعينه ، في العام المقبل ، وكأنّ قوله (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) احتجاج عليه أي كلّ ذي حرمة يجري فيه القصاص والمكافاة ، فمن هتك حرمة شهركم بالصدّ فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة ، واقتلوهم إن قاتلوكم أو أنّ معناه أنّ القتل في الشهر الحرام حرام ، والحرام للمسلمين لا يجوز إلّا قصاصا.

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي ظلمكم فاعتدوا عليه بمثله أي جازوه بظلمه ، وافعلوا به مثل ما فعل ، والثاني ليس باعتداء وظلم ، بل عدل إلّا أنّه سمّي به للمشاكلة لوقوعه في صحبته مثل «اطبخوا لي جبّة وقميصا» (١) في جواب من قال أيّ شيء نطبخ لك (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب المعاصي ، فلا تظلموا ولا تمنعوا عن المجازات ولا تتعدّوا في المجازات عن المثل والعدل وحقّكم.

ففيها دلالة على تسليم النفس ، وعدم المنع عن المجازاة والقصاص ، وعلى وجوب الردّ على الغاصب المثل أو القيمة ، وتحريم المنع والامتناع عن ذلك ، وجواز الأخذ بل وجوبه ، إذا كان تركه إسرافا [فلا يترك] إلّا أن يكون حسنا وتحريم التعدّي والتجاوز عن حقّه بالزيادة صفة أو عينا ، بل في الأخذ بطريق يكون تعدّيا ، ولا يبعد أيضا جواز الأخذ خفية أو جهرة من غير رضاه على تقدير امتناعه من الإعطاء كما قاله الفقهاء من طريق المقاصّة ، ولا يبعد عدم اشتراط تعذّر إثباته عند الحاكم ، بل على تقدير الإمكان أيضا ، ولا إذنه بل يستقلّ وكذا في غير المال من الأذى ، فيجوز الأذى بمثله من غير إذن الحاكم ، وإثباته عنده ، وكذا القصاص إلّا أن يكون جرحا لا يجزي فيه القصاص ، أو ضربا لا يمكن حفظ المثل ، أو فحشا لا يجوز القول والتلفّظ به ممّا يقولون بعدم جوازه مطلقا مثل الرّمي بالزنا وغيره وحيث إنّ الجهاد لم يقع إلّا مع الامام وحينئذ لا يحتاج إلى معرفة أحكامه فتركنا باقي الآيات المتعلّقة به ، مثل (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ

__________________

(١) كما قال الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

٣١٠

الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (١) وكذلك قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) الآية (٢) وقوله تعالى «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ إلى قوله أَجْراً عَظِيماً (٣)» وقوله (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) الآية (٤) وقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) الآية (٥) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ) الآية (٦) و «يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا (٧)» الآية و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٨) الآية وكذلك (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) (٩) والآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) (١٠).

ولكن نتمّه بآيات لها فوائد كثيرة ، ومناسبة ما به.

الاولى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) (١١).

أي سافرتم للغزو والجهاد فميّزوا بين الكافر والمؤمن ، والمراد لا تعجلوا في القتل لمن أظهر لكم إسلامه ظنّا منكم بأنّه لا حقيقة لذلك (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي حيّاكم بتحيّة الإسلام ، وقرئ السلم أي استسلم لكم وانقاد فلم يقاتلكم مظهرا لكم أنّه من أهل ملّتكم (لَسْتَ مُؤْمِناً) أي ليس لأيمانكم حقيقة وإنّما أسلمت خوفا من القتل (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي المال والمتاع الّذي لا بقاء له ، لأنّ جميع متاع الدنيا عرض زائل ويقال لأنّ الدنيا عرض حاضر ومنه العرض المقابل للجوهر (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي في مقدور الله تعالى نعم ورزق إن أطعتموه فيما أمركم ، وقيل معناه : ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن

__________________

(١) النساء : ٧٥.

(٢) النساء : ٧٠.

(٣) النساء : ٧٣.

(٤) براءة : ١٢١.

(٥) براءة : ٩٢.

(٦) براءة : ١٢٤.

(٧) براءة : ٣٠.

(٨) الأنفال : ١٦.

(٩) الأنفال : ٦٥.

(١٠) براءة : ٧٣ ، التحريم : ٩.

(١١) النساء : ٩٤.

٣١١

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي كفّارا فهداكم الله ، وقلتم لا إله إلّا الله محمّد رسول الله فخلّيتم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بإظهار دينه فأظهرتموه بعد الكتمان من أهل الشرك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم (فَتَبَيَّنُوا) أعادها للتأكيد بعد ذكره أوّلا كالنتيجة بعد ذكرها (إِنَّ اللهَ كانَ) لم يزل (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عليما قبل أن تعلموا ، ولا يخفى عليه أنّ قصدكم ليس إلّا ابتغاء عرض الحياة الدنيا.

والمشهور أنّها نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة فلقوا رجلا قد ألجأ بغنم له إلى جبل ، وكان قد أسلم ، فقال لهم السلام عليكم لا إله إلّا الله محمّد رسول الله فبرز إليه أسامة فقتله واستاقوا غنمه ، وفيها دلالة على قبول الايمان ممّن قال بلفظه من غير تعرّض له أنّه مكره أو قاصد لذلك ، وهل هو حقيقة أم لا؟ وعدم التجسّس بل سائر الأمور بالطريق الأولى ، ويدلّ عليه تحريم التجسّس بالكتاب والسنّة والإجماع ، وعلى عدم الجرأة في الأمور ممّا يحصل عنده والسرعة في الحكم والعلم والعمل ، بل لا بدّ من التثبّت والتوقّف حتّى يظهر حقيقة الأمر ، وعدم العمل بالظنّ في الحال ، كما في خبر الفاسق ، الّذي دلّ عليه الكتاب والسنّة والإجماع.

وأيضا تدلّ على عدم اعتبار الدليل في الايمان وعلى عدم اعتبار العمل فيه ، وعلى أنّه يكفي لصدقه مجرّد الشهادتين ، بل القول له بأنّه ليس بمؤمن منهيّ فافهم ولعلّها تدلّ على عدم المؤاخذة في الدنيا بمثل هذا القتل ، ولكنّ القواعد الفقهيّة تقتضي الدية والكفّارة ، على ما تقدّم في الآية المتقدّمة أنّ الخطاء يقتضي ذلك ولا شكّ أنّ ذلك خطاء فكأنّه عفي عنه في أوّل الإسلام ، لعدم جرءة الكفّار ، وعدم امتناع المسلمين عن القتل والقتال ، أو أنّ الدية سقطت لعدم وارث مسلم ، أو كان عاجزا عن الكفّارة ، أو آذاها ، أو ما كانت واجبة بعد.

قال القاضي : وقيل نزلت في المقداد مرّ برجل في غنمه وأراد قتله فقال لا إله إلّا الله فقتله فقال ودّ لو فرّ بأهله وماله ، وفيها دلالة على صحّة إيمان المكره وأنّ المجتهد قد يخطئ وأنّ خطاءه مغتفر انتهى وليس بواضح فإنّه لم يظهر كونه

٣١٢

مجتهدا ، ومعلوم أنّ كلّ من فعل شيئا خصوصا مثل هذه الأمور ليس بمجتهد ولم يعلم صحّة الإيمان عند الله إلّا أن يريد بها كونه مانعا وحاقنا لدمه وأيضا لم يعلم كونه مكرها إلّا أنّ سوق الكلام يدلّ على أنّه يعلم أنّه لو لم يؤمن لقتل وهو ظاهر فانّ الكفّار يقاتلون ويخوّفون بالقتل والضرب والنهب ، ليسلموا ، وإنّهم لو أسلموا لقبل ظاهرا ، بل في نفس الأمر أيضا ، إذا صار اعتقادا وعلما ويقينا وهو ظاهر.

الثانية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (١).

يحتمل الماضي والمضارع فيكون تتوفّاهم بحذف إحدى التاءين ، ويؤيّد الأوّل قراءة «توفّتهم الملائكة» (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال عن المفعول ، أي أنّ الّذين أماتتهم الملائكة حال كونهم ظالمين على أنفسهم بالعصيان بترك الهجرة الواجبة ، وموافقة الكفّار بإظهار عدم الأيمان ، فإنّها نزلت في جماعة من أهل مكّة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة (قالُوا) الضمير للملائكة حال عنهم بتقدير قد وخبر «إنّ الّذين» «أولئك» ويكون دخول الفاء لتضمّنه معنى الشرط ، ويحتمل كونه خبرا بتقدير «لهم» و «فأولئك» عطف عليه ، أي قالت الملائكة لهم حين توفّتهم (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم توبيخا وتبكيتا بأنّهم لم يكونوا في شيء من الدين ، حيث تركوا الهجرة الواجبة مع القدرة ، وتركوا إظهار الإسلام لعدم مبالاتهم بالشريعة (قالُوا) مجيبين معتذرين (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي غير قادرين على الهجرة ، لعدم المؤنة على السفر أو غير قادرين على إظهار الإيمان لضعفهم (قالُوا) أي الملائكة تكذيبا لهم على الأوّل (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) يعني كنتم قادرين على الهجرة ، وعلى الثاني بأنّكم كنتم قادرين على الإظهار فلم لم تهاجروا عن مكّة (فَأُولئِكَ) أي الّذين توفّتهم الملائكة وقالوا كنا إلخ (مَأْواهُمْ) ومسكنهم (جَهَنَّمُ) لتركهم الهجرة وإظهار إعلام الدين

__________________

(١) النساء : ٩٧.

٣١٣

ومساعدة الكفّار (وَساءَتْ مَصِيراً) أي بئس المصير مصيرهم ومأويهم.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) الّذين لا يقدرون على المهاجرة وإظهار الدين (مِنَ الرِّجالِ) العاجزين (وَالنِّساءِ) كذلك (وَالْوِلْدانِ) الأرقّاء منهما لأنّهم عاجزون عنها أو الصغار فإنّهم عاجزون عن السفر لصغر سنّهم ، أو غير البلغ من الذكور ، فيكونون غير مكلّفين ، ويكون إظهار ذلك إشارة إلى أنّ أولادهم غير مكلّفين بالمهاجرة مع عجزهم ، والاستثناء منقطع ، لعدم دخول المستضعفين بالمعنى المتقدّم في (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي) ولا «في أولئك» لعدم كونهم مكلّفين بالمهاجرة ، لكونهم معذورين وعدم قدرتهم كما بيّن بقوله عزوجل (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) صفة للمستضعفين لعدم كونهم معيّنين ، وإن كانت في صورة التعريف.

قال في الكشاف : لأنّ الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف ، فليس شيء بعينه كقوله «ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني (١)» أو حال عنهم ، واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة ، مثل الغنى والقدرة على السفر ، وما يتوقّف عليه (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) عطف على ما قبله ، واستهداء السبيل معرفة الطريق والمسلك بنفسه أو بدليل (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فهم معذورون ولكن جاء بلفظ عسى كلمة الأطماع ، ولفظ العفو الدالّ على أنّ لهم أيضا ذنبا وأكّده بقوله (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) للمبالغة في عدم جواز ترك المهاجرة ، وترك إظهار شعائر الايمان والموافقة مع الكفّار ، حتّى أنّ ذلك موجب للعقاب لمن فعل ذلك عجزا أو خوفا وعدم القدرة على المهاجرة ، وعدم التكليف ، ولكن لهم طمع وتوقّع عفو قطعا لأطماع غيرهم.

فالآية دلّت على أنّ ترك المهاجرة مع القدرة ، كبيرة وأيّ كبيرة ، حين فرض المهاجرة ، واستثنى العاجزين ، ويمكن أن تكون منسوخة بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا هجرة بعد الفتح ، إن كان متواترا ، والأولى جعله مخصّصا لها ومقيّدا ولو قيّدت بفرض الهجرة لا يحتاج إلى شيء ، ولكن تكون مجملة غير مبيّنة إلّا بمنفصل.

__________________

(١) بعده : فمضيت ثمة قلت لا يعنيني.

٣١٤

وقال القاضي : في الآية دليل على وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكّن الرجل فيه من إقامة أمر دينه ، وفي الكشّاف : هذا دليل على أنّ الرجل إذا كان في بلد لا يتمكّن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب ، أو علم أنّه في غير بلده أقوم بحقّ الله وأدوم على العبادة حقّت عليه المهاجرة وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنّة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيّه محمّد صلوات الله عليهما. وفي الدلالة خفاء فإنّها مقيّدة بكون الهجرة فريضة كما تقدّم ، قال في الكشّاف : «الّذين» هم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.

وقوله تعالى (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يعني يموتون حين كونهم ظالمين أنفسهم فالوعيد متعلّق بمن يموت وهو ظالم بترك الهجرة الواجبة ، بحيث صار سببا لموافقة الكفّار ومساعدتهم ، وترك إظهار الإسلام بل إظهار الكفر كما يفهم من سوقها ومن الكشاف والقاضي ويمكن أن يكون مع عدم اعتقاد جوازها وحلّيتها ، حيث صار الحكم (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) وذلك ليس إلّا فيما يكون كفرا.

وبالجملة غاية ما يفهم منها وجوب المهاجرة في مادّة خاصّة بسبب خاصّ ، ولم يعلم منه أنّ كلّ هجرة واجبة وكلّ تارك لها ظالم ، إلّا أن يقاس باستخراج العلّة وإثباتها في الفرع وأنّى له ذلك ، ولهذا إنّ ترك هذه الهجرة كبيرة ، وفيه ما تقدّم من المبالغات الّتي كادت أن لا توجد في غيرها فكيف يكون غيرها كذلك مع أنّه نقل أن لا هجرة بعد الفتح ، فما بقي ذلك الحكم حينئذ وعلى تقدير الدلالة على الأوّل في الجملة كيف يدّعى دلالتها على الثاني أي قوله «أو علم إلخ وكأنّه لذلك قال «وحقّت» وما صرّح بالوجوب والفرض ، لأنّ لفظة حقّت بمعنى الأولى والأحسن هو الشائع والكثير ، وهو حقيقة فيه.

ولكنّ البيضاويّ صرّح بالوجوب ، وكأنّه نظر إلى القياس ، فالدلالة على تقدير إمكان استخراج القياس وصحّته لا يتمّ عند أصحابنا ، حيث لا يقولون به ، وكأنّه لذلك ما ذكره في مجمع البيان ويؤيّده جواز النقيّة بل وجوبها فيعمل بها

٣١٥

ويقيم في بلادها من غير إظهار شعائر الإسلام ، ويظهر خلافها على وجهها ، ولهذا ما شرط البعض عدم المندوحة فيما ورد فيه النصّ بخصوصه للتقيّة ، كالكتف وغسل الرجلين نعم لو آل الأمر إلى عدم إظهار الإسلام ، ولزوم إظهار الكفر ، والموافقة معهم في ذمّ الشرع ، ومساعدتهم ، يجب الفرار منهم ، وإن لم يفهم من الآية للعقل والنقل ويمكن فهمه منها أيضا بالقياس.

والحاصل أنّه إذا علم أنّ الكون في بلد حرام لعدم إمكان فعل وقول ما يجب عليه مطلقا ، وليس بمعذور فيه ، وليس ممّا فيه التقيّة ، وليس له بدل بحيث لا يعاقب بالكون ، فيجب الفرار والهجرة إلى محلّ يتمكّن من ذلك ، ولكن إثبات ذلك مشكل لأنّ كلّ واجب مشروط بالإمكان ، وعدم المانع والضرر ، فمع عدم الإمكان ووجودهما لا يجب ذلك الأمر ، بل يكون حراما ، فلا يعلم عدم جواز الكون حينئذ ولهذا يجوز السفر إلى محلّ التيمّم وإلى محلّ يأخذون الأموال بغير اختيار إلّا أنه معلوم في بعض الأمور مثل الكون في محلّ لا يتمكّن فيه من فعل الصلاة مع إمكانها في غير ذلك المحلّ مع القدرة إليه.

وقد يعلم من كلام بعض الأصحاب في تحريم السفر يوم الجمعة بعد الزوال مع وجوبها ، أنّ كلّ ما يوجب لسقوط الواجب فهو حرام ، ويفهم من بعض الأخبار أيضا مثل الرواية المشتملة على أنّه وقع شخص في أرض لم يوجد فيها إلّا الثلج قال عليه‌السلام : يتيمّم به ولا يعود إلى مثل هذه الأرض الّتي توبق أهلها ولكن ما قالوه ممنوع بل منقوض والرّواية محلّ التأمّل إذ يجوز التيمّم والذهاب إلى موضع لا يكون فيه الماء للوضوء إلّا أن يقال التيمّم بما يباح أوّلا وبالذات مثل التراب يجوز ، وكذا الذهاب إلى تلك الأرض وإيجاد أسبابه عمدا ، دون ما لا يجوز التيمّم به إلّا اضطرارا مثل الثلج أو تحمل على الاستحباب ولا شكّ أنّ الفرار إن لم يكن له مانع (١) وسبب ، راجح من البلد الّذي لم يتمكّن من إظهار جميع أحكام الإيمان والإسلام فيه ، إلى بلد يمكنه ذلك ، بل لو علم أنّه فيه أولى كما قاله في الكشّاف

__________________

(١) مال خ.

٣١٦

أولى وكأنّه إلى ذلك أشار ما نقل عن الشهيد قدّس الله سرّه أنّه يجب الفرار من بلد التقيّة إن صحّ بحمل الوجوب على الاستحباب أو على الوجوه المتقدّمة لسبب الوجوب فتذكّر وتأمّل.

ثمّ أشار إلى ثواب المهاجرة في سبيل الله بقوله (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١) ومثل قوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢) وكذلك (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣) والظاهر أنّ كلّ من سافر في طلب أمر لمرضاة الله فهو مهاجر في سبيله ، كما يدلّ عليه بعض الأخبار ، وظاهر الإضافة فليس بمخصوص بالجهاد وبالمهاجرين من بلاد الشرك ، فالسفر لطلب العلم داخل بل أفضل ، وكذا زيارة الأئمّة عليهم‌السلام بل الذهاب إلى صلة الرّحم وزيارة الإخوان في الله هو سبيل الله ، ونحو ذلك وهو ظاهر.

قال في الكشّاف : وقالوا كلّ هجرة لغرض دينيّ من طلب علم أو حجّ أو جهاد أو فرار إلى بلد يراد فيه طاعة أو قناعة أو زهد في الدنيا أو ابتغاء رزق طيّب فهي هجرة إلى الله ورسوله ، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره على الله.

والظاهر أنّ هذا حقّ وليس بمخصوص بالهجرة في آية (وَمَنْ يَخْرُجْ) بل في جميع الآيات الواقعة في ثواب الهجرة كما أشرنا إليه.

الثالثة: (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٤).

في الكشّاف معنى الآية أنّ المؤمن إذا لم يتسهّل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمشّ له أمر دينه كما يجب ، فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنّه فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض ، استوجبت له الجنّة ، وكان رفيق إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) النساء : ١٠٠.

(٢) النحل : ٤١.

(٣) الحج : ٥١.

(٤) العنكبوت : ٥٦.

٣١٧

ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل هي في المستضعفين بمكّة الّذين نزل فيهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وإنّما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتبّ بين ظهرانيّ الكفرة ، في مجمع البيان : بيّن تعالى أنّه لا عذر في ترك طاعته فقال : يا عبادي ـ الآية ـ فاهربوا من أرض يمنعكم أهلها من الايمان والإخلاص في عبادتي ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام معناه إذا عصي الله في أرض أنت فيها ، فاخرج منها إلى غيرها ، فيمكن أن يستدلّ بها على الهجرة من دار الكفر الّتي لا يقدر على إظهار شعائر الإسلام ، وكذا على الهجرة من الدار الّتي تكون كذلك فتأمّل.

الرابعة: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) (١) أي تركوا منازلهم ومواضعهم في حقّ الله ولوجهه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي من بعد ما ظلمهم أعداؤهم مثل المشركين وغيرهم (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي لنسكننّهم في الدّنيا بلدة حسنة أحسن ممّا اخرجوا وهاجروا عنه (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أعظم وأحسن ممّا أعطيتم في الدّنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي الكفّار أنّ الله يجمع للمهاجرين أجر الدّنيا والآخرة ، لرغبوا في دين الإسلام ، وتركوا أذى المؤمنين وإخراجهم ، إذ لو علم المؤمنون ذلك الجمع وما أعدّ لهم في الجنّة ، لازدادوا سرورا وحرصا على التمسّك بالدّين (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) هم الّذين صبروا على المهاجرة والمجاهدة ، وبذل النفس في سبيل الله ، وأذى المخالفين ، وهم الّذين يتوكّلون على ربّهم لا على الغير.

فهي دالّة على استحباب المهاجرة ووجوبها عن دار الكفر والخلاف لو ظلموا أو اذوا ولم يتمكّنوا من إقامة لوازم الدين ، وعلى كثرة الأجر في ذلك ، وعلى الصّبر والتوكّل ، وهو ظاهر وإن كانت نازلة في حقّ جماعة متخلّفين بعد مهاجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ، مثل بلال وصهيب وروي أنّ صهيبا قال للمشركين أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن

__________________

(١) النحل : ٤١.

٣١٨

كنت عليكم لم أضرّكم فخذوا مالي ودعوني ، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأنّ المراد بحسنة هي المدينة ، والمهاجر عنها هي مكّة ، حرم الله الّذي هو محبوب كلّ القلوب ، فكيف بقلوب من كان مسقط رأسه لعموم اللفظ ، وعدم التخصيص بالسّبب كما بيّن في الأصول ، فقول الكشّاف وغيره (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكّة ففرّوا بدينهم إلى الله ، إلى قوله : وقيل هم الّذين كانوا محبوسين معذّبين بعد هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّما خرجوا تبعوهم فردّوهم ، منهم بلال وصهيب وخبّاب وعمّار يحتمل أن يكون بيانا لسبب النزول لا حصر المراد فيهم.

الخامسة: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (١) الجمع والتذكير باعتبار المعنى (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنّصح والطلب إلى حكم الله (فَإِنْ بَغَتْ) «تعدّت» (إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ») حتّى ترجع إلى حكم الله (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) اعدلوا في كلّ الأمور (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين تدلّ على وجوب الإصلاح بين المؤمنين وأنّه إذا لم يصطلحوا يجب قتال الظالمة منهما حتّى يرجع عن الظلم إلى أمر الله العدل ، ويدلّ عليه أيضا قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) من حيث إنّهم انتسبوا إلى أصل واحد هو الايمان الموجب للحياة الأبديّة ، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ، ولذلك كرّره فقال (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير ، والتخصيص ، وخصّ الاثنين لأنّهما أقلّ من يقع بينهما ما يوجب الصّلح من الشقاق (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره وحكمه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على تقواكم.

السادسة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) (٢) الاية.

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الممتحنة : ١٠.

٣١٩

فيها أحكام منها إذا جاءت امرءة من الكفّار إلى المسلمين وادّعت الإسلام يجب أن تختبر ، فان علم أنّها مسلمة لا يجوز إرجاعها إلى الكفّار ، ومنها أنّ الكافرة الّتي أسلمت ليست بحلال للكفّار وبالعكس ، ومنها أنّه تحصل الفرقة بمجرّد الهجرة ولا يحتاج إلى الطّلاق ، ومنها وجوب ردّ المهر الّذي أعطيها ، ومنها أنّه يجوز نكاحهنّ للمسلمين مع إيتاء المهر ، وليس ذلك شرطا بل ولا ذكره وإنّما ذكر إشارة إلى أنّه لا يكفي المهر الّذي ردّ على زوجها من بيت المال ، وأنّ مجرّد الهجرة كافية ، ولا يمنع التزويج السابق ولا الكفر ، ومنها عدم جواز نكاح الكافرة للمسلم مطلقا منقطعا ودائما حربيّة وكتابيّة ، وفيه تفصيل مذكور في الفقه ، ومنها طلب المهر الّذي أعطيتم إن ذهبت منكم امرأة إلى الكفّار كما كانوا يطلبون منكم إذا جاءتكم امرءة منهم.

٣٢٠