زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

(كتاب)

(الدين وتوابعه)

وفيه آيات :

الاولى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) الى قوله ـ (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

خاطب الله المؤمنين بالشفقة لهم والاهتمام بحالهم ، وعدم انتفاع غيرهم ، بأنّه (إِذا تَدايَنْتُمْ) أي إذا داين بعضكم بعضا كذا في التفسيرين (بِدَيْنٍ) أيّ دين كان وبأي معاملة وقعت بينكم ، فشرط كونه مقيّدا بوقت معلوم مضبوط بالتسمية لا بمثل قدوم الحاجّ وبحيث يكون العوضان أو أحدهما دينا أي مالا في الذمّة مؤجّلا بمدّة ، لكن الدّليل دلّ على بطلان الأوّل عندهم وبقي الثاني ، وهذا بيان للمقصود ، وتفصيل لتداينتم ، لا بيان لمعناه اللغويّ حتّى يرد عليه أنّه فرق بين التفاعل والمفاعلة ، فإنّ الأوّل لازم والثاني متعدّ فلا يصحّ تفسير أحدهما بالآخر كما أورده في كنز العرفان على صاحب الكشّاف ، على أنّه قد يمنع حصر الأوّل في اللازم والثاني في المتعدّي ، ولعلّ فهم هذا التفصيل صريحا أوجب ذكر «دين» مع أنّه معلوم من قوله «تداينتم».

وفيهما ذكر : ليكون مرجعا لضمير فاكتبوه ، ولعلّ مقصودهم أنّ ذكر الدين غير مستحسن ، وإرجاع الضمير إلى المصدر تكلّف إنّما يرتكب للضرورة مع أنّ المقصود قد يكون التصريح بكتابة الدين الّذي تقع عليه المعاملة ، وذلك يفوت بتركه ، فلا يرد عليه ما أورده أيضا بقوله فيه نظر ، لأنّا نمنع وجوب ذكر

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٤٤١

الدين لاحتمال عوده إلى المصدر ، وقيل ليرتفع احتمال التداين بمعنى المجازاة كقولهم كما تدين تدان ، فيزول الاشتباه ، ولعلّ مراده من أوّل الأمر وإلّا يزول بملاحظة تتمة الآية ، وقيل : لمجرّد التأكيد كما في (طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) (فَاكْتُبُوهُ) أي اكتبوا الدين لأنه أوثق بالنسبة إلى صاحب الحقّ والمديون ، والشاهد أيضا ، وفيه مصلحة الدين والدنيا لهم ، فدلّت على أحكام :

الأوّل إباحة المعاملة بدين مؤجّل أخذا وإعطاء بأيّ نوع كانت المعاملة نسيئة وسلفا صلحا وإجارة وقرضا وغير ذلك ، والثاني اشتراط التعيين في الأجل بأن يسمّي أجلا أي أيّاما وشهورا وسنوات بأن يسمّي أجلا لا يقبل الزيادة والنقصان ، لا ما يقبل مثل حضور الحصاد وقدوم الحاجّ فيشترط اللفظ ، ولا يكفي كون ذلك مقصودا لهم فتأمّل ، والثالث عدم جواز التجاوز عن ذلك بأن يطالب قبله أو يؤخّر بعده ، وعدم لزوم الأخذ قبله إذ الظاهر أنّ فائدة الأجل وتعيينه ذلك إلّا ما أخرجه دليل [شرعيّ] ، مثل وجوب الأخذ قبله وعدم لزومه في القرض على ما قالوه.

والرابع استحباب الكتابة أو كونه للإرشاد لإجماعهم على عدم الوجوب ، ولأنّ الظاهر أنّ الغرض حفظ مالهم وصلاح حالهم ، فإذا رضوا بتركه يجوز لأنّه يجوز لهم أن لا يأخذوا أصلا فتأمّل ، ويحتمل وجود ما يدلّ عليه أيضا في الروايات قال في مجمع البيان : واختلف في هذا الأمر فقيل هو مندوب إليه وهو الأصحّ ويدلّ عليه قوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) إلخ فيه تأمّل إذ يدلّ على عدم الوجوب على تقدير الايتمان لا مطلقا ، بل يدلّ على تقدير عدم وجود الكاتب والشهود أنّه يجوز ترك الرهن والاكتفاء بالايتمان وهو ظاهر.

ويمكن جعل اشتراط ذكر الأجل لفظا خامسا فيمكن جعل اشتراط الصيغة في المعاملات سادسا ، إذ يفهم من اشتراط ذكر الأجل لفظا اشتراط الصيغة في المعاملة فتأمّل ، وأما إباحة الدين الغير المؤجّل كما يفهم من الكنز فمشكل ، إذ الظاهر

__________________

(١) الانعام : ٣٨.

٤٤٢

عدم دلالة هذه الآية عليه ظاهرا ، نعم هو مفهوم من غيرها ، وقد يقال يفهم ذلك بالطريق الأولى من إباحة المؤجّل فتأمّل وقد يقال أيضا : يستفاد من مفهومها عدم استحباب الكتابة لغير المؤجّل فيكون سابعا فافهم.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) أي يكتب بالسويّة لا يزيد ولا ينقص ، فبالعدل متعلّق بمقدّر صفة لكاتب أو حال عنه أو متعلّق به أو متعلّق بوليكتب ، ولا يمتنع أحد من الكتّاب من الكتابة مثل ما علّمه الله من كتبة الوثائق ، فيكون «كما» متعلّقا بمقدّر صفة لمصدر أي كتابا مثل كتاب علّمه الله إيّاه ، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته نفعا مثل النفع الّذي نفعه الله بتعليمها كقوله (أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (١) فليكتب الكاتب هذه الكتابة المعلّمة ويحتمل أن يكون كما علّمه الله تتمّة ما بعده ، أي فليكتب والأوّل أولى.

فدلّت على أحكام : وجوب الكتابة بالعدل ، يعني على تقدير كتابته ، وإن لم تكن عليه واجبة ، يجب أن يكتب بالعدل ولا يغيّر ، وتحريم الامتناع عن الكتابة مطلقا على الثاني ، فتكون الكتابة واجبة على من يقدر عليها ، والظاهر أنّه كفائيّ إذ الوجوب أعمّ وأنّ الفرض هو الكتابة من أي شخص تتأنّى كالشهادة ، وعلى الأوّل على تحريم الامتناع عن الكتابة المقيّدة فيكون معناه لازما لمعنى وليكتب ويكون تأكيدا مثل فليكتب ، ويحتمل أن يكون وليكتب أمرا للمعاملين بالدين باختيار كاتب بالعدل ، فعلى تقدير استحباب الكتابة واختيارها يكون اختيار الكاتب بالعدل واجبا كما في صورة وجوب الكتابة ، واشتراط تديّن الكاتب في الكتابة واشتراط فقهه بها على الوجه المأمور به الموافق للشرع.

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي وليكن المملل من عليه الدين والحقّ لأنّه المقرّ والمشهود عليه ، والإملال قيل هو الإملاء فيقرّ بلسانه بما عليه ليكتبه الكاتب (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي المملل قيل أو الكاتب وهو بعيد (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص

__________________

(١) القصص : ٧٧.

٤٤٣

(مِنْهُ شَيْئاً) أي من الحقّ أو ممّا أملل أي يملل على وجه لا نقص فيه بل بالعدل كما قيل في الكاتب (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي ناقصا مبذّرا يصرف ماله في غير الأغراض الصحيحة (أَوْ ضَعِيفاً) أي صبيّا أو مجنونا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أي الّذي لا ضعف في حاله وعقله ولا في تصرّفه لكنه لا يقدر على الإملال كما هو ، بحيث يفهمه الكاتب ، بأن يكون أخرس أو جاهلا باللغة (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) والوليّ هو الّذي يلي أمره مثل الأب والجدّ منه والأوصياء في الصبيّ والمجنون والمبذّر إن كان لهم الولاية عليهم ، وإلّا فالحاكم وأمينه ، ووليّ الشيخ المختلّ المترجم والذي يقدر على الإملال وليّ جاهل اللّغة والأخرس بشرط علمهما بالدين عليهما سواء كانا حاضرين على المعاملة أو فهما ممّن عليه الحقّ.

ولكن يشكل اكتفاء الكاتب حينئذ على مترجم واحد وقادر واحد ، فإنّهما في الحقيقة شاهدان على ما في ذمّته أو على إقراره فحينئذ لا بدّ من كون كلّ واحد اثنين عدلين على ما اعتبروه في غير هذا المحلّ إلّا أن يكونا ممّن يتعاطى المعاملة أو يكون الكاتب عالما بالحال ، وهو مشكل أيضا إذ حينئذ لا يحتاج إلى المملل وعلى تقدير تعاطيهما أيضا ما يقدر الكاتب أن يكتب كونه في ذمّة المديون بقولهما وهذا الاشكال وارد في الكلّ ، إذ بمجرّد إقرار الوليّ كيف يكتفي بثبوت المال في ذمّة المولّى عليه ، بل مع الشهود أيضا ، لأنّهم يعتبرون لإثبات المال في الذمّة بالشهود انضمام حكم الحاكم إليه.

وقيل : الضمير في (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) راجع إلى الحقّ أي صاحب الدين وهو بعيد ، والاشكال فيه أقوى إلّا أن يكتب الكاتب تذكرة له من لسانه ، لا أنّه ينفعه ويكون حجّة له ، وحينئذ يجوز كتابة مثله من لسان هؤلاء الّذين مضوا أيضا ولا إشكال فتأمّل.

فدلّت هذه على وجوب إقرار من عليه الحقّ ، لأن يكتب ويشهد عليه ، ووجوب كونه على ما هو عليه ، وكذا على الأولياء ، وعلى أنّ هؤلاء المذكورين من السفيه والضعيف ومن لم يقدر لا يمضى إقرارهم ، ولا يعتبر قولهم ، فلا يجوز

٤٤٤

معاملتهم وأنّ لغيرهم عليهم ولاية جبرا عليهم ، ومقبول قولهم فيهم وتصرّفهم في أموالهم ، فتجوز المعاملة معهم وهم المذكورون ، فإنّه علم أنّ لهم أولياء وليسوا غير هؤلاء المذكورين إجماعا فلا يكونون إلّا هم.

ثمّ اعلم أنّ هذه التأكيدات في أمر الكتابة تدلّ ظاهرا على أنّها معتبرة وحجّة شرعيّة مع أنّهم يقولون بعدم اعتبارها ، فكأنّه للإجماع والأخبار ، فتكون للتذكرة وهو بعيد ، ويمكن أن تكون حجّة مع ثبوت أنّه إملاء من عليه الدين وأنّه مكتوب بالعدل وما دخل عليه التغيير والتزوير بإقراره أو بالشهود ، ولهذا شرط الإملاء منه ، فدلّت على اعتبار الكتابة في الجملة ومثلها معتبرة عندهم فيخصّص عدم اعتبار الكتابة ودليله إن كان بغير ذلك ، فإذا قال شخص هذه وصيّتي وأعلم بجميع ما فيها مشيرا إلى صكّه ، ينبغي قبوله والشهادة عليه ، والعمل به ، والّذي يظهر من القواعد خلافه ، وهكذا ينبغي قبول قول أمثاله فافهم.

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أي اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان متّصفان بأن يكونا (مِنْ رِجالِكُمْ) المؤمنين (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي إن لم يكن الشاهدان (رَجُلَيْنِ) من رجالكم (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فليشهدوا ، فالشهود رجل وامرأتان ، فرجل فاعل فعل محذوف ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وامرأتان عطف عليه (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) بشهادتهم بأن ترضوا دينهم وأمانتهم كما يفهم من الرواية أيضا أي يكون الشاهد مطلقا سواء كان الرجلين أو رجلا وامرأتين ، من الّذين تعرفون عدالتهم ، ويظهر ذلك عندكم ، لا أن يكونوا في نفس الأمر عدولا.

فيدلّ على اعتبار العدالة ظاهرا وأنّ كلّ من يكون كذلك عند المستشهد فهو ممّن يصحّ استشهاده ، لأنّ الظاهر أنّه المخاطب ، لكنّ الظاهر أنّه ما يكفي للحكم والإلزام ، بل للخروج عن عهدة أمر الاستشهاد وأمّا للحكم فلا بدّ أن يكون كونه كذلك عند الحاكم أو عند المديون فتأمّل.

فدلّت على عدم كفاية الايمان والإسلام في الشاهد ، بل اعتبار العدالة فيه في الجملة ، وعلى وجوب الاشهاد على الدّين على الظاهر ، ويحتمل الأعمّ أي في

٤٤٥

كلّ ما يحتاج إلى الشهود من المعاملات وغيرها ، ولكن ظاهر الأصحاب عدمه فهو للإرشاد أو الاستحباب ، وعلى وجوب كون الشاهد من رجال المسلمين ، وهو مذهب الأصحاب وأكثر الفقهاء خلافا لأبي حنيفة ، فإنّه قال : يجوز سماع شهادة بعض الكفّار على بعض كذا في القاضي وعلى جواز شهادة رجل وامرأتين في الدّيون وقيل يجوز في مطلق الأموال فقط ، وهو مذهب الأصحاب والشافعي ، ويمكن حمل الآية عليه ومذهب الحنفيّة أنّها تجوز في كلّ شيء إلّا الحدود والقصاص ، وظاهر الآية الأوّل فكأنّ الغير ثبت بالإجماع أو الأخبار أو القياس أو حمل الآية على الأعمّ. وعلى وجوب سماع شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين كذلك ، والحكم بها لأنّ الظاهر أنّ الغرض من الاشهاد هو سماع الشهادة والحكم بها ، لأنّهما نفعه وعلى حصر الشاهد فيهما ظاهرا وكأنّ غيرهما ثابت بدليل آخر فيخرج هذه عن ظاهرها به فافهم.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) قيل إنّه علّة لاعتبار تعدّد المرأة في الشهادة أي التعدّد لأجل أنّ إحداهما إن ضلّت بأن نسيتها ذكّرتها الأخرى والعلّة في الحقيقة هي التذكير ولكن لمّا كان الضلال سببا له نزّل منزلته كقولهم أعددت السلاح أن يجيء عدوّ فأدفعه ، فكأنّه قيل إرادة أن يذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، وفيه إشعار بنقص ضبطهنّ.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) وهو خبر بمعنى النهي للمبالغة ، فظاهره تحريم امتناع الشاهد عن أداء الشهادة إذا طلبت منه ، ويحتمل تحريم ردّ التحمّل أيضا إذا نودي ، وتسميتهم بالشهداء لمجاز المشارفة (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي لا تملّوا من كثرة مداينتكم أو غيرها أن تكتبوا الدين أو الحقّ أو الكتاب ، قيل : كني بالسأمة عن الكسل ، لأنّه صفة المنافق ، ولذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يقول المؤمن كسلت. (صَغِيراً) كان الدين (أَوْ كَبِيراً) أو الكتاب مختصرا كان أو مطوّلا (إِلى أَجَلِهِ) أي إلى وقت حلوله الّذي سمّي في الدين أو أقرّ به المديون.

(ذلِكُمْ) أي الكتابة المفهومة من أن تكتبوا (أَقْسَطُ) أي أكبر قسطا وعدلا

٤٤٦

(عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أثبت وأعون على إقامتها ، قال القاضي : وهما مبنيّان من أقسط وأقام على غير قياس ، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، فيدلّ على حجّيّتها في الجملة على ما مرّ فتأمّل. إنّما قال بمعنى «ذي قسط» أي صار ذا عدالة مثل تأمر ولابن ، بمعنى ذا تمر وذا لبن لأنّ قاسطا قد يكون بمعنى جائر (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١) ولهذا جعله أوّلا من أقسط ، فكأنّه بمعنى أعدل ولعلّ الهمزة للإزالة كشكى وأشكى ، وعلى هذا القياس أقوم ، وكونه من أقام لا من قام ، ويحتمل كونه من قويم بمعنى ثابت ، فيكون بمعنى أثبت فتأمّل في عبارته ولعلّ وجه كونه على غير قياس عدم مجيء أفعل من المزيد فيه ، فيقال أشدّ إقساطا وإقامة.

وفيه أنّ ذلك ليس بمتّفق عليه ، فانّ سيبويه يجوّز ذلك من باب الإفعال خاصّة ، صرّح به المحقّق الرضيّ في شرح الكافية ، حيث قال : وعند سيبويه هو قياس عن أفعل ، مع كونه ذا زيادة ، ويؤيّده كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم للدينار ، وأولاهم بالمعروف ، وأنت أكرم لي من فلان ، وقلّة التغيّر لأنّك تحذف منه الهمزة وتردّه إلى الثلاثيّ ثمّ تبني منه أفعل إلخ وأشار إليه في الكشّاف أيضا حيث قال : فان قلت ممّ بني فعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من أقسط وأقام ، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم. فان صحّ عدم صحّة مجيئها من قسط وقام ويحتاج إلى التكلّف الّذي ذكراه بقولهما بمعنى إلخ تكون الآية دليلا على مذهب سيبويه ، وهو ظاهر ، وأيضا وجود غير القياس في القرآن العزيز غير معقول.

(وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي وأقرب في أن لا تشكّوا أنتم والشهود في جنس الدين وقدره ، وحلول أجله ، وهذه كلّها تأكيدا للكتابة ، وبيان فائدتها (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) والتجارة

__________________

(١) الجن : ١٥.

٤٤٧

الحاضرة تعمّ المبايعة بعين أو دين لكن غير مؤجّل بل كلّ معاملة بعين أو دين بيعا وغيره ، فالحاضرة أي الحالّة وإدارتها بينهم تعاطيها إيّاها وتداولها وتعارفها بينهم ، ونصب تجارة على أنها خبر تكون والاسم مضمر فيه أي تكون المعاملة أو التجارة المفهومة من سوق الكلام ، وحاضرة صفة لها ، وتديرونها كذلك أو حال. ورفعها على أن تكون تامّة أو هي اسمه والخبر تديرونها والاستثناء من التداين والتعامل أو الدين ، وفي القاضي أنّه استثناء عن الأمر بالكتابة وليس بجيّد وهو ظاهر.

فدلّت على عدم كون الكتابة في التجارة الحاضرة مأمورا بها بالمثابة الّتي كانت في الدين المؤجّل ، وعلى إباحة المعاملة بالدّين الحالّ والعين (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) هذا هو التبايع المذكور سابقا أي التجارة الحاضرة ، أو مطلق التبايع وهو الأظهر بل مطلق المعاملة ، فدلّت على وجوب الاشهاد عليها أو على التبايع مطلقا أو المعاملة مطلقا ، بأن يطلق البيع ويراد مطلق المعاملة ، ولكنّ الأكثر على الاستحباب كما هو ظاهر الأصحاب ، قال القاضي : والأوامر الّتي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمّة وقيل إنّها للوجوب ، ثمّ اختلف في أحكامها ونسخها وفيه تأمّل إذ الظاهر وجوب أداء الشهادة بل تحمّلها أيضا كفاية عندهم أيضا وكذا الكتابة بالعدل والإملال من صاحب الحقّ والوليّ وكذا بعض آخر فتأمّل.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أي الشاهد ويحتمل (لا يُضَارَّ) البناء للفاعل والمفعول كما في آية الرضاع ، وهو نهيهما عن إضرار المتداينين بترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتابة والشهادة أو نهي عن الضرر بهما مثل استعجالهم عن مهمّ ضروريّ وعن تحصيل المعاش وتكليف السفر إلى بلد القاضي والمدّعى عليه ، وتكليف الكاتب قلما أو مدادا أو قرطاسا وعدم الجعل له على القول به ، كما هو الظاهر من عدم الضرر والإضرار ، فيكون من بيت المال على تقديره وإلّا فمن مال صاحب الدّين كما قيل ، (وَإِنْ تَفْعَلُوا) الضرار وما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) خروج عن الطاعة لا حق بكم ضرره (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)

٤٤٨

أحكامه المتضمّنة للحكم والمصالح (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كرّر لفظة الله في الجمل الثلاثة لاستقلالها ، فإنّ الأولى حثّ على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه والثالثة لتعظيم شأنه ، ولأنّه أدخل في التعظيم من الضمير ، فدلّت على تحريم مطلق الإضرار بالمعنى الّذي مرّ وأكّده بأنّ فعله فسق وليس ببعيد فهم كون صاحبه فاسقا فلا يكون عادلا وعلى وجوب التقوى والوعد والوعيد.

الثانية: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (١).

أي إن وقع وثبت غريم ذو عسرة فكان تامّة ، وحاصله إن كان غريم من غرمائكم أي الّذي عليه حقّ ومال ذا عسرة أي فقر وعديم المال ، والجملة شرطيّة والجزاء (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي فالواجب أو فعليكم أو فلتكن نظرة ، والنظرة التأخير وهو اسم قائم مقام المصدر أي الانظار ، ومثله كثير ، والميسرة والميسور بمعنى اليسار ، والغنى والسعة ، كذا في مجمع البيان ، واختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : هو إذا لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد ، والظاهر أنّه يريد قوت يومه والعيال الّذي يجب عليه نفقته من الزوجة والمملوك والآباء والأولاد على ما ذكره الأصحاب وأيضا استثنى له ثياب تجمّله ومهنته وخادمه إن كان من أهله ، وداره وما عرفته ولعلّه بالاعتبارات والروايات كما في ثوب المهنة والدار ، وبالإجماع عندهم فبعدم ذلك تتحقّق الميسرة واليسار.

واختلف أيضا في الدين الّذي يجب إنظار صاحبه إذا كان معسرا فقيل مطلق الدين كذلك ، وهو ظاهر كلام الأصحاب بل ظاهر الآية ، والمرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وقيل : الحكم مخصوص بدين الربا كما هو ظاهر الآية ، وقيل الأمر مخصوص به والباقي كذلك بالقياس كذا في مجمع البيان (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) أي تصدّقكم بمالكم على الغريم بالإبراء أو بصيغة التصدّق ، والأوّل ألصق معنى

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠

٤٤٩

والثاني لفظا إذ لا يقال التصدّق في عرف الفقهاء لما في الذمّة بل الإبراء (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أكثر ثوابا من إنظاره أو ممّا تأخذونه بمضاعفة ثوابه ودوامه ، فإنّ مصدريّة وما بعده مبتدأ بتأويل المصدر ، وخير خبره (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حقيقة الخير والشرّ ، أو حقيقة التصدّق وثوابه ، وما فيه من الأجر الجزيل والذكر الجميل والانظار وما فيه ، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز ، تعلمون أنّ التصدّق خير لكم.

فبالحقيقة علمهم بأنّ التصدّق خير متعلّق على علمهم بالمعاني المذكورة لا خيريّة التصدّق في نفس الأمر ، كما هو الظاهر وهو ظاهر ، ففي الآية دلالة على أنّ التصدّق يطلق على الإبراء فيصحّ الإبراء بالتصدّق مطلقا إلّا أن يظهر دليل غير قولهم وأنّه خير من الانظار ، ولا استبعاد في أفضليّة المندوب على الواجب والظاهر أنّ أمثاله كثيرة ، ولا يمكن أن يقال إنّ التصدّق مشتمل على الإنظار أيضا ففي الحقيقة الجمع بين الواجب والندب خير من الواجب كما قيل ، إذ لا معنى للجمع بينهما ، إذ لا إنظار مع الإبراء ، وهو ظاهر ، ولعلّ المراد أنّ ترك المطالبة والتضييق على الغريم الّذي هو الغرض من وجوب الانظار يتحقّق مع إبرائه فهو موجب لكثرة الثواب ، يعني أنّه ما ترك واجبا وأتى بما هو الغرض منه ، ومع ذلك فعل فعلا مستحبّا فثوابه أكثر ، ولا قصور فيه بوجه ، وعلى أنّه إذا علم إعسار صاحبه لا يجوز الطلب والحبس بل يجب الانظار ، وعلى أنّ الإبراء حسن وخير وأنّ الانظار واجب ، وإن كان بالنسبة إلى فاسق بل كافر وغاصب مع غنائه وإعساره أيضا.

وبالجملة يدلّ على أنّ الإحسان حسن ، وإن لم يكن المحسن إليه من أهله ، ويدلّ عليه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله: اصنع المعروف إلى كلّ أحد فان لم يكن أهلا له ، فأنت أهل لذلك (١) وعموم قوله عليه‌السلام أيضا من أنظر معسرا ووضع عنه أظلّه الله في عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، وعنه أيضا عليه‌السلام من أنظر معسرا كان له بكلّ

__________________

(١) صحيفة الرضا عليه‌السلام ص ١٠

٤٥٠

يوم صدقة (١) ومن هذا الحديث ذهب بعضهم إلى أنّ المراد بالصدقة في الآية هو الانظار وهو بعيد ، ولا استبعاد أيضا في أفضليّة الإبراء من الإنظار مع بقاء المال في الذمّة وحصول كلّ يوم بل كلّ ساعة صدقة فيه ، مع أنّ القرض أفضل من الصدقة لاحتمال خيريّة هذه الصدقة بخصوصها بالنّصّ من الآية الشريفة والأخبار.

ثمّ أكّد سبحانه الترغيب إلى الطاعات سيّما الصدقة والانظار والترهيب عن فعل المعاصي بقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي يوم القيمة أو يوم الموت فتأهبّوا لمصيركم إليه (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تستوفي فيه اجرة كسبه خيرا أو شرّا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب الأعمال وزيادة عقاب المعاصي وعن ابن عباس أنّها آخر آية نزل بها جبرئيل عليه‌السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة أيّام وقيل ثلاثة ساعات كذا في القاضي والكشّاف والظاهر أنّ المراد هذه الآية أي (وَاتَّقُوا) إلى قوله (لا يُظْلَمُونَ).

وفي مجمع البيان : وروي عن ابن عبّاس وابن عمر أنّ آخر ما نزل من القرآن آي الربا ، والظاهر أنّ الأوّل أولى لبعد عدم هذا التحريم فيه إلى محلّ الفوت ، وأيضا هي المناسب لأن تكون آخر ما نزل ، ولهذا يفهم من كلامه أيضا في جامع الجوامع ذلك ، لأنّ كلامه مثل كلام الكشّاف فتأمّل.

الثالثة: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢).

«من» استفهاميّة مرفوعة بالابتداء ، و «ذا» خبره و «الّذي» صفة «ذا» أو بدله ، «وقرضا» مفعول مطلق بمعنى إقراضا «وحسنا» صفته ، أو بمعنى مقرضا محسنا فيكون حالا عن فاعل يقرض ، وكأنّ المعنى تحريص وترغيب على إقراض الله ولعلّ المراد بإقراضه الأعمال لوجه الله ، سواء كانت ببذل النفس كما في الجهاد

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٩٣.

(٢) البقرة : ٢٤٥.

٤٥١

أو السعي في تحصيل العلوم والواجبات ، أو السعي في قضاء الحاجات ، وسائر مرضات الله أو صرف المال في مثل الزكاة ونفقة العيال وصرفه لله على أيّ وجه كان قرضا كان أو غيره ، وكأنّه شبّه تقديم العمل الّذي يتعقّبه العوض والجزاء والثواب بالقرض الّذي هو قطع المال ودفعه ليعوّض به ، أو يكون المراد قرض المحتاجين لله قرضا حقيقيّا ولعلّ المراد بحسن القرض فعله مخلصا خاليا عن غير وجه الله مفهوما من قوله «يقرض الله» وبطيب النفس من غير كدورة وكسل ، وبغير منّ ولا أذى ، فيضاعفه بتجارته ضعفا كثيرا أي أمثالا كثيرة لا يقدّره إلّا الله قيل الواحد بسبعمائة ، وأضعافا جمع ضعف ، ونصبه على الحال من الضمير المنصوب أو المفعول الثاني لتضمّن المضاعفة معنى التصيير ، أو على المصدر على أنّ الضعف اسم المصدر وجمع للتنويع ويقيمون اسم المصدر مقامه ، ويجعلونه بحكمه ، وكأنّ تأنيث الكثيرة لكونها صفة للجمع وقرئ يضاعف بالنصب لكونه جواب الاستفهام لأنّ «من ذا» بمنزلة أيقرض الله أحد؟ فالتقدير فأن يضاعفه ، والله يقتر على بعض ويوسّع على بعض على حسب ما اقتضاء مصلحتهما ، فلا تبخلوا عليه تعالى بما وسّع عليكم ، ولا تهينوا من قتّر عليه فلا ينبغي لمن قتّر عليه أن يخرج عن الرضا ، ولا لمن وسّع عليه أن يتكبّر ، أو أنّه يقبض القرض ويوسّع في العوض أو أنّه يقبض على البعض بأن يميته ويبسط على الوارث (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالمرجع هو الله ، فيجازيكم على حسب أعمالكم ، وتجدون ما فعلتم له ولغيره.

ونحوها: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١) و (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (٢) وقوله تعالى (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) (٣).

__________________

(١) الحديد : ١١.

(٢) الحديد : ١٨.

(٣) التغابن : ١٧.

٤٥٢

أي إن تصرفوا المال حسبما أمر الله به صرفا حسنا مقرونا بالإخلاص ، وطيب النفس ، من غير أن يتبعه منّة وأذى يضاعفه لكم بالأجر العظيم والثواب الجزيل حتّى روي بالواحد عشرا إلى سبعمائة ، والاختلاف بسبب النيّة واستحقاق المنفق عليه وصلاحه وعلمه وقرابته وغير ذلك ، فيحتمل كون المراد قرضا عرفيّا فيكون دليل استحبابه بخصوصه والعموم فيكون دليلا عليه ، وعلى جميع الإحسان مثل كشف الكرب عن المسلم ، وقضاء حاجته ، وإدخال السرور عليه ، وما يدلّ عليه في الكتاب والسنّة كثير جدّا ويدلّ عليه العقل أيضا.

٤٥٣

واما توابع الدين فهي أنواع :

(الأول الرهن)

وفيه آية واحدة وهي :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (١).

يعني إن كنتم أيها المتعاملون بالدّين المؤجّل ـ بقرينة ولم تجدوا كاتبا فانّ الكتابة إنّما كانت فيه ويحتمل في مطلق المتعاملين بالدّين ، وقال في مجمع البيان أيّها المتداينون المتبايعون والتخصيص غير سديد ويكون (وَلَمْ تَجِدُوا) إلخ إشارة إلى شرط جريان الرهن في جميع أنواع الدين فإنّه لو وجد لم يحتج في المؤجّل إليه أو يكون إشارة إلى جريان الكتابة في مطلق الدين.

(عَلى سَفَرٍ) أي ثابتين في السفر فهو خبر «كنتم» أي إن كنتم مسافرين ولم يكن معكم من يكتب لكم ولا يشهد أيضا ، ذكره في مجمع البيان كأنّه يريد أنّ الله أشار بقوله (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) إلى فقد ما يوثق به الّذي مرّ فيما سبق ، وهو الكتابة والشهادة ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ، وهذا تكلّف ما يحتاج إليه مع أنّه يزيد شرط آخر للرهن مع أنّه ليس كذلك بالاتّفاق على الظاهر (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي فالوثاق بينكم برهان مقبوضة ، أو فالّذي يوثّق به رهان ، أو فليؤخذ رهان ، أو فعليكم رهان أو فرهان مقبوضة يقوم مقامه ، ويصحّ كونه مبتدأ لكونه موصوفا ، والرّهان جمع رهن بمعنى المرهون وكذا الرهن بالضمّ وهو ما يوثق به

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

٤٥٤

والظاهر أنّ اشتراط السفر وعدم وجدان كاتب لمشروعيّة الرّهن خارج مخرج الغالب ، وذكر لما هو الأحوج إليه ، إذ الظاهر عدم الخلاف في مشروعيّته بدونهما ، وما ذكره القاضي بقوله ليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الارتهان إلى قوله بل لإقامة التوثيق بالارتهان مقام التوثيق بالكتب في السفر الّذي هو مظنّة إعوازها مقتصرا للكشّاف غير ظاهر ، ولعلّ عدم الكاتب شرط عندهما ، وهو بعيد على أنّ كلامه يدلّ على مدخليّة السفر فتأمّل ، ويحتمل أن يكون مستحبّا حينئذ فقط وإن كان جائزا بالإجماع والخبر.

ثمّ إنّ ظاهرها الوجوب ، ولكنّ الظاهر أنّه ما ذهب إليه أحد فيحمل على الاستحباب أو الإرشاد مثل الكتابة والاشهاد ولا يبعد كون المخاطب بفعله والمرغّب فيه المريد من الّذي له الحقّ والّذي عليه كما في الكتابة والشهادة إذ نفعه يعمّهما ومعنى الرهن والقبض معلوم من كتب الفقه ، وكذا سائر الشروط.

فدلّت على إباحة الرهن بل كونه مرغوبا أخذا وإعطاء ، قيل : وعلى كون القبض شرطا لصحّة عقد الرهن وترتّب فائدته عليه ، قال القاضي : والجمهور على الاشتراط غير مالك ، وهو مذهب أكثر الأصحاب ، وقال في مجمع البيان : إن لم يقبض لم ينعقد بالإجماع ، وكأنّه يريد الأكثر أو لم يعتبر المخالف وهو بعيد ، إذ الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط والعلّامة وابن إدريس ذهبوا إلى عدم الاشتراط ، وقال في كنز العرفان : المحقّقون من الأصحاب عليه (١) وهو أيضا غير واضح.

واعلم أنّ دلالة الآية بمفهوم الوصف على مذهب الأكثر كما قيل غير ظاهر بل يمكن أن يكون دليل مذهب الأقلّ إلّا أن يكون الوصف للبيان كما يدلّ عليه رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لا يرهن إلّا مقبوضا (٢) وإن كان فيه محمّد بن قيس المشترك بين العدل وغيره ولكنّ الظاهر من فتوى الأكثر به مع عدم جواز الفتوى بخبر غير العدل أنّه هو العدل فتأمّل فيه.

__________________

(١) كنز العرفان ج ٢ ص ٦٠.

(٢) التهذيب ج ٢ ص ١٦٦.

٤٥٥

نعم يدلّ عليه أنّه روى عنه عاصم بن حميد وهو تلميذ الثقة فليس سبب الضعف اشتراكه كما قيل ، بل وجود حسن بن محمّد بن سماعة ، وعدم صحّة الطريق إليه ، والعمدة أنّ الوثيقة الشرعيّة المترتّب عليها الأحكام الشرعيّة الخاصّة مثل سقوط سلطنة المالك عن ملكه ودخوله تحت سلطنة غيره ، الأصل عدمهما لا يمكن استفادتها إلّا من الشرع لأنّه أمر شرعيّ يحتاج إلى دليل شرعيّ وإلى تلقّ منه ولا يكفي فيه الأصل والعقل والّذي علم أنّه كذلك بالإجماع والآية والخبر هو الرهن المقبوض ، وغيره بقي تحت العدم ، ولا يكفي أيضا فيه عموم مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إذ كون الرهن بدون القبض عقدا شرعيّا متلقّى منه داخلا تحته غير معلوم ولا مظنون ، مع ما ذكرناه من الوجه.

وأيضا إن كان المراد بالعقود الصحيحة فلا نسلّم صحّة العقد الواقع بدون القبض إذ لا نسلّم أنّ كلّ ما صدق عليه العقد في الجملة أنّه عقد صحيح أو الأصل فيه أنّه صحيح إذ لا شكّ في اعتبار الشرائط الزائدة عليه ، وليس حصولها معلوما ولا مظنونا وبالجملة إثبات الصغرى مشكل في هذه الصورة بمثل هذه وإن كان الأعمّ أو الفاسد ، فمعلوم عدم دلالته على عدم اشتراط القبض في العقد الصحيح ، على أنّه قد قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بها الأعمّ كما هو الظاهر ، فيجب الإيفاء بمقتضى مطلق العقد صحيحا كان أو فاسدا ، فالصحيح بمقتضى الصحّة ، والفاسد بمقتضى الفساد ، إذ للفاسد أيضا أحكام شرعا فتأمّل.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي إن وثق واعتمد صاحب الحقّ صاحبه الّذي عليه الحقّ بأن لا يجحده ولا ينقص ولا يماطل لم يستوثق برهن هذا هو الظاهر إذا الكلام على تقدير عدم وجدان الكاتب لأنّ الأمر بالرهن كان على ذلك التقدير ، وهذا مرتّب عليه ، قال الكشّاف والقاضي : واستغني لأمانته عن الارتهان ، وزاد في مجمع البيان نفي الكتابة ولا يبعد زيادة نفي الشهادة أيضا أي استغني لأمانته عن أخذ الرهن والكتابة والشهود (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي الّذي عليه الحقّ (أَمانَتَهُ) أي دينه الّذي ائتمنه عليه سمّاه أمانة لذلك ، والظاهر أنّه غير مشروط بالعدالة

٤٥٦

عقلا ونقلا ، وأداؤه إعطاؤه وإيصاله إلى صاحبه ، بغير جحود يحتاج إلى الإثبات ولا ينقص منه شيئا ، ويعطيه في محلّه من غير مطل وتسويف ، وأراد بالأمانة ما اؤتمن عليه فهو مصدر بمعنى المفعول (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة وخلاف أداء الأمانة أو مطلقا في مخالفة الله وفيه مبالغة زائدة.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أيّها الشهود عند الأداء وهو إذا ما دعوا ، فالمراد هم أو مع من عليه الحقّ فتكون شهادته على نفسه ، ففيه مسامحة مّا ، أو هو فقط ، فمسامحته أقلّ وألصق بما سبق (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) فانّ مع اسمه أي الضمير وخبره أي «آثم» و «قلبه» فاعله أو أنّ قلبه مبتدأ وآثم خبره مقدّم والجملة خبر إنّ خبر من ، فإنّه موصول مع صلته مبتدأ ولتضمّنه معنى الشرط صحّ دخول الفاء في خبره ، وهو للمبالغة في النهي عن ترك الشهادة ، فإنّه ما اكتفى بالنهي بل أعاده مرّة أخرى بأنّ من يفعل ذلك يأثم قلبه ، وإسناد الإثم إلى القلب لأنّ الكتمان فعله لأنّ العزم على الكتمان إنّما يقع بالقلب ، لأنّ إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذمّ كما أنّ إضافة الايمان إلى القلب أبلغ في المدح كذا في مجمع البيان (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من السرّ والكتمان وإظهار الحقّ (عَلِيمٌ) فيجازي الكلّ بحسب علم يعلمه ، ففيه ترغيب وترهيب.

فدلّت على وجوب أداء الدّين بغير نقص على ما مرّ ، على الّذي اؤتمن وترك أخذ الوثيقة منه ، ولعلّ الغرض من ذكره بخصوصه ، وشرط الأمانة في ذلك زيادة المبالغة والأولويّة وإلّا فهو واجب على كلّ من عليه حقّ الغير عند الطلب والقدرة إجماعا ، ومعلوم هنا أيضا أنّه مقيّد بهما لذلك ولأنّه كان محلّ الجحود والإنكار ، فأراد نفيه بخصوصه تأكيدا ومبالغة ، ويمكن استفادة أنّ مجازات المحسن بالإحسان حسن ، ويمكن كونه سبب التخصيص فافهم ، ويمكن كونه إشارة إلى وجوب أداء كلّ أمانة إلى صاحبها لا خصوصيّة له بدين ولا رهن ، ولا بالراهن والمرتهن ، فيشمل الرهن في يد الراهن والمرتهن وغيرهما والدين مطلقا ، ويحتمل أن يكون المراد إن كان الرهن بيد الراهن اعتمادا من المرتهن عليه وعلى أمانته أو بالعكس ، وعلى وجوب التقوى وعلى تحريم كتمان الشهادة.

٤٥٧

(الثاني الضمان)

ونقل فيه آيتان :

الاولى: (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (١).

الثانية: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (٢).

وأنت تعلم عدم دلالتهما على الضمان المشروع عند الفقهاء سيّما الأخيرة فدليلهم الإجماع والأخبار ، نعم في الأولى إشارة مّا إلى مشروعيّة الجعل وضمانه قبل الشروع في العمل في شرع من قبلنا ، قال البيضاويّ : فيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل وفيه تأمّل.

الثالث الصلح

ونقل فيه ستّ آيات :

الاولى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) (٣) أي أسرارهم وهو لا يتمّ إلّا بين اثنين كالدعوى (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فانّ في نجواه خيرا (أَوْ مَعْرُوفٍ) يعني به أبواب البرّ لاعتراف العقول بها ، ولأنّ أهل الخير يعرفونها (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي تأليف بينهم بالمودّة ورفع النزاع ، بل إيصال النفع إلى الناس مطلقا إصلاح بينهم في الجملة وظاهره إصلاح ذات البين ، ويحتمل العموم ولعلّ يؤيّده ما ذكره في مجمع البيان وقال عليّ بن إبراهيم في تفسيره : حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الله فرض التمحّل ، قال : فقلت : وما التمحّل جعلت فداك قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له وهو قوله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ

__________________

(١) يوسف : ٧٢ ،

(٢) القلم : ٤٠.

(٣) النساء : ١١٣.

٤٥٨

مِنْ نَجْواهُمْ) الآية قال : وحدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم (١).

الثانية: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (٢) وقد مرّ تفسيرها في باب الخمس.

الثالثة : قوله تعالى (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) (٣) أي إن يريد الحكمان إصلاحا أو صلاحا بين الزوج والزوجة يوفّق الله بينهما للصلاح والسداد ، ورفع الشقاق والنفاق ، أو يوفّق الله بين الحكمين ليتّفق كلامهما ، ولا يقع بينهما خلف حتّى يجتمعا على صلاحهما ، فيحصل ذلك بين الزوجين أو إن يريد الزوج والزوجة إصلاحا يوفّق الله بينهما أو بين حكميهما ليتّفقا على صلاح وسداد ، ولعلّ يوفّق الله بينهما خيرا.

فتدلّ على أنّه ينبغي الصلح بل أنّ مريد شيء مطلقا ينبغي أن لا يريد إلّا خيرا وأنّه إذا كان كذلك ويوافق ظاهره باطنه يحصل مطلوبه ، ولهذا قيل : وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح الله مبتغاه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بظواهر الأمور وبواطنها فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق على وجه الحكمة والمصلحة فلا بدّ من خلوص النيّة فإنّه لا يمكن إخفاء شيء عليه ، فلا ينفع إظهار الصلاح وإرادة النفاق ، وفيه وعظ للحكمين ، بأن لا يريدا في الظاهر والباطن إلّا الإصلاح ، بل لكلّ أحد بموافقة علانيته سرّه.

الرابعة : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) (٤) أي فلا حرج ولا إثم على كلّ واحد من الزوج والزوجة (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك مستعطفة له بذلك فتستديم المقام في حباله ، هكذا فسّر ، وفيه تأمّل لأنّه يلزم إباحة أخذ شيء للإتيان بما يجب عليه ، وترك ما يحرم عليه ، وإلجاء صاحب الحقّ بأن

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ١٠٩ تفسير القمي ١٤١.

(٢) الأنفال : ١.

(٣) النساء : ٣٤.

(٤) النساء : ١٢٧.

٤٥٩

يعطي شيئا حتّى يستوفي الحقّ ، وعدم الإثم وعدم الحرج حينئذ محلّ التأمّل.

ولا شكّ في تحريم الإعراض والنشوز إذا كان عمّا يجب عليه ، فيمكن أن يحمل على ترك بعض الأمور المتعارفة المتداولة بين الزوج والزوجة من التلطّف وحسن المعاشرة زائدة على الواجبات ، بأن يتركه وعمل بمحض الشرع المرّ إعراضا عنها وتوجّها إلى غيرها ممّا يجد فيها من المنفّرات فلا جناح حينئذ أن يستعطف المرأة فتبذل له ما يريد حتّى يتوجّه إليها بالمتعارف وحسن المعاشرة والمحبّة والمودّة الزائدة على الواجب وترك المحرّم ، أو أنّ المراد بأن يصلحا صلحا : لا يستلزم قبيحا.

ثمّ قال (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) معناه والصلح بترك [بعض] الحقّ خير من طلب الفرقة بعد الألفة أو من النشوز والاعراض وسوء العشرة ، أو هو خير من الخصومة في كلّ شيء ، والصلح خير من الخيور كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور ، فليس أفعل التفضيل بمعناه بل استعمله في معنى أصل الفعل ، وهو كثير ، هذا إذا كان بطيب من نفسها ، فان لم يكن كذلك ، فلا يجوز له إلّا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة والنفقة والقسمة وإلّا طلاقها.

فدلّت على الترغيب في حسن المعاشرة ، بحيث لا يتوقّع منهما النشوز والإعراض وعلى تقدير الوقوع ينبغي رفعهما ، وطلب إدامة النكاح دون الطلاق والمفارقة وأنّه ينبغي تركه ، وأنّه يجوز أخذ عوض ترك النشوز مع طيب النفس وأنّ الحقّ للزوجة مثلا ، وليس بحقّ من الله فباسقاطها مثل القسمة والنفقة يسقط ، ويفهم من ظاهر التفاسير أنّه يسقط بإسقاطها قبل وقته أيضا فدلّت على جواز إسقاط ما لم يجب فإذا أسقطت ليلتها أو وهبتها لغيرها قبل وقتها يسقط كما نقل فعل سودة بنت زمعة بالنسبة إلى عائشة فتأمل.

الخامسة : إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم (١).

السادسة : فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل (٢) مضمونهما الترغيب في المواساة

__________________

(١) الحجرات : ١٠.

(٢) الحجرات : ٩.

٤٦٠