زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

وقال البيضاويّ : وظاهره يدلّ على أنّ العدة بالإظهار وأنّ طلاق المعتدّة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر ، وأنّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشيء يستدعي النهي عن ضدّه ولا يدلّ على عدم وقوعه ، إذ النهي لا يستلزم الفساد كيف وقد صحّ أنّ ابن عمر لمّا طلّق امرأته حائضا أمره عليه‌السلام بالرجعة ، وهو سبب نزوله.

وفيه تأمّل أمّا أوّلا فلأنّه ينبغي أن يقول : «يجب» بدل «ينبغي» وكأنّه يريد به ذلك ، وهو لا ينبغي وثانيا فإنّه لا أمر للوجوب هنا إذ لا يجب الطلاق وثالثا فانّ ذلك فرع دلالة أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ ، وأكثر أصحاب الشافعيّة على خلاف ذلك فان كان مذهبه ذلك وإلّا فيكون منافيا لمذهبه ، فتأمّل كلامه في المنهاج فإنّه ظاهر في ذلك ، ورابعا فانّ الطلاق في الحيض ليس ضدّ الطلاق في الطهر.

وخامسا فانّ هذه الدلالة بالمفهوم ، وبما ذكرناه ، إلّا أن يتكلّف ويقال إنّه واجب بالنسبة إلى القيد ، أي لعدّتهنّ ، فتدلّ على الوجوب المستلزم لتحريم ضدّه ، وفيه مع التكلّف تأمّل لأنّه حينئذ ليس بواجب بالمعنى المقرّر بل بمعنى الشرط فيدلّ على عدم الوقوع لا التحريم فقط ، وهو لا يقول به ، أو الوجوب بالشرط أي يجب الإيقاع في الطهر على تقدير الإيقاع كما يقال مثل ذلك في الوضوء للصلاة المندوبة والقبلة وغير ذلك ، وهو بعيد عن الوجوب المصطلح الّذي يريد دلالته على تحريم الضدّ ، فإنّه لا يترتّب استحقاق العقاب ولا الذمّ على ترك الطلاق في الطهر بل إنّما يتحقّق بإيقاعه في الحيض وهو ظاهر ، وعلى تقدير التسليم فالظاهر أنّ دلالته على عدم الانعقاد أظهر من دلالته على التحريم ، وأنّه بالمفهوم لا بالوجه الّذي ذكره فافهم.

وسادسا فإنّه يمكن أن يكون الرجعة في خبر ابن عمر بالمعنى اللّغوي لا باصطلاح الفقهاء لما قاله إنّه سبب النزول ، فيكون الغرض تعليم الطلاق الصحيح المترتّب عليه أثره.

٥٨١

وسابعا فإنه لا ينبغي حينئذ الأمر بالرجعة ، إذ لا معنى للأمر بمراجعة امرأة مطلّقة بطلاق صحيح ، وقد تحقّق المفارقة لأنّه فعل حراما وغير جائز ، إذ لم يصر ذلك سببا له ، وهو ظاهر بل غير معلوم كونه حراما أيضا لعدم تحقّق الحكم إلّا بعده فالظاهر أنّ الأمر بالرجوع إنّما هو لعدم الصحّة.

وثامنا فإنّه روي في الكشاف أنّ الأمر بالرجوع لكون وقوع الطلاق ثلاثا في طهر واحد ، وتاسعا فإنّه قد يمنع الصحّة على وجه يدلّ على الصحّة. وإلّا لم يكن لقول سعيد بن المسيّب وجماعة من التابعين الّذين قالوا ببطلان الطلاق حينئذ على ما نقله عنهم في الكشّاف وجه ، فعلم عدم الاتّفاق على صحّة ذلك عندهم.

وعاشرا فإنّه على تقدير تسليم دلالة الخبر على الصحّة لا يستلزم [عدم] ظ دلالة الآية ظاهرا على عدمها ، ويمكن الاستدلال بها على عدم صحّة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد كما فعله في مجمع البيان ، لعدم وقوعها إلّا في العدّة الواحدة وأيّده بأخبار أهل البيت عليهم‌السلام وأقوال علمائهم ، وفيه تأمّل يعلم من محلّه ، وللطلاق أحكام وفروعات مذكورة في محلّها فلتطلب هناك.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كما ورد في آية أخرى كذا في القاضي والكشّاف ويحتمل مطلق العدّة المعتبرة بالدليل ليدخل المسترابة وغيرها (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) ضمن تطويل العدّة والإضرار بهنّ كذا في القاضي ويحتمل من فعل الماضي والمنهيّات وترك المأمورات مطلقا ، أو أحكام العدّة من جانب الرجل بالتطويل والإضرار ومن المرأة بالتقصير والانقضاء بدعوى خروجها كاذبة لئلّا يكون له الرجوع ولتتزوّج وغير ذلك (لا تُخْرِجُوهُنَّ) ظاهره تحريم إخراجهنّ على الزوج ما دمن في العدّة الرجعيّة مطلقا ، سواء كان برضاهنّ أم لا (مِنْ بُيُوتِهِنَّ) من البيوت الّتي هنّ ساكنات فيها وقت الطلاق ، سكون إقامة على وجه يكون مسكنهنّ عادة كما هو المتبادر (وَلا يَخْرُجْنَ) وكذا يحرم عليهنّ الخروج مطلقا وإن أذن لهنّ الزوج لعدم القيد في الآية الشريفة ، فذلك حقّ من حقوق الله عليهما ، وإن كان لكلّ واحد أيضا حقّ في ذلك. وفي القاضي أنّ المحرّم

٥٨٢

هو استبدادهنّ أمّا لو اتّفقا على الانتقال جاز ، إذ الحقّ لا يعدوهما ، وفيه ضعف واضح لما عرفت من عدم التخصيص في الآية مع التأكيد التامّ بذكر النهيين معا ، وتأكيده بما بعده وهو ظاهر ، ولا يجوز التخصيص في كلامه تعالى وأحكامه المنصوصة أو الظاهرة إلّا بالدليل وما ذكره غير مسلّم.

نعم في بعض روايات أصحابنا المعتبرة مثل حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا ينبغي للمطلّقة أن يخرج إلّا بإذن زوجها حتّى ينقضي عدّتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر ، ما يدلّ على جواز خروجهنّ باذن الزوج ، ولكنّ الظاهر أنّه ما عمل بها الأكثر ، فلا بدّ من التأويل ، وهو مفهوم من الإيضاح ، ويفهم من الاستبصار العمل بها ، ولكنّ الخروج عن الآية مع التأكيد والمبالغة بمثلها مشكل وقال في الكشاف إنّما جمع بين النهيين المشعر بأن لا يأذنوا ، وليس لاذنهم أثر ، وهو كلام جيّد ، نعم إن اضطرّت إلى الخروج لحاجة فالظاهر الجواز للحرج والضيق المنفيّين عقلا ونقلا ، فكأنّه مستثنى ، ومع ذلك قيّد الأصحاب بالخروج بعد نصف الليل والرّجوع قبل الصبح للرواية ، والظاهر أنّ الغرض دفعها بذلك وإلّا فالظاهر الجواز وقت الضرورة.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) مستثنى عن الأوّل ، أي إلّا أن تفعل المرأة فاحشة ظاهرة أو مظهرة ، قيل هي أن تبذو على الزوج وتؤذيه وتؤذي أهله وحينئذ يجوز الإخراج بهذا النصّ ، والضرر المنفيّ عقلا ونقلا ، وفي القاضي : فإنّه كالنشوز في إسقاط حقّها وفيه تأمّل إذ يفهم أنّ سبب سكناها كونها زوجة غير ناشزة والظاهر أنّه ليس كذلك بل سببه النصّ وإن لم تكن مستحقّة للنفقة لنشوزها بوجه لا يصدق عليه أنّه فاحشة ، ولهذا يجب أن تكون في البيت الّذي طلّقت وهي فيه ، وأنّه يجب السكنى وإن كانت بائنة ، مع عدم استحقاقها للنفقة والسكنى ، وهو ظاهر وهذا المعنى مرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام أو أن تزني وتفعل ما يوجب حدّها فتخرج إلى أنّ تحدّ ، والظاهر أنّها ترجع في الثاني دون الأوّل ويحتمل الرجوع فيه أيضا مع العلم بعدم حصول ما حصل أوّلا ، ويحتمل كون الفاحشة مطلق المعصية

٥٨٣

كما قيل ، ويحتمل الاستثناء عن الثاني مبالغة في النهي ، يعني لا يجوز لها الخروج ولا يقع منها إلّا أن تفعل فاحشة وهي الخروج قاله في القاضي.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) إشارة إلى جميع الأحكام المذكورة ، حتّى عدم خروج المرأة بإذن زوجها ، وظلم الخارج عن حدود الله مطلقا سواء كانت المذكورة أم لا نفسه باعتبار أنّه عرضها للعقاب وسخط الله وغضبه ، فهو يدلّ على جواز إطلاق الظالم على من فعل معصية ويمكن تخصيصها بكونها كبيرة ، ولكنّ الظالم له إطلاقات (١) وأفراد والغرض التأكيد والمبالغة في ترك المنهيّات ، وفعل المأمورات خصوصا الأحكام المذكورة (لا تَدْرِي) أيّها النبيّ أو لا تدري النفس عواقب الأمور والحوادث (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ) الطلاق (أَمْراً) رغبة في الرجعة برفع ما يكره من الجانبين ، فكأنّه إشارة إلى أنّ الخروج عن حدود الله تعالى شيء ينكر ويؤذى صاحبه ، وموجب للندامة في الدّنيا أيضا إذ قد تحصل الرغبة بالاجتماع ، وقد حصل ما لا يمكن ولا يحسن معه ذلك ، فالخروج عن حدود الله موجب للندامة في الدّنيا والآخرة والخسران فيهما وهو ظاهر.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي قربن آخر عدّتهنّ وشارفن على الخلاص منها (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فيجب إمّا الإمساك بالرجعة بطريق معروف حسن شرعا بحسن المعاشرة والإنفاق الحسن ، أو المفارقة بترك الرجعة وتخلية سبيلها وتركها بطريق حسن جميل ، لا بإضرار وغيظ وغضب ، بمعنى تحريم جعلها كالمعلّقة بأن يطلّق ولم يراجع ولم يخبر بالطلاق ، ويظهر الزوجيّة حتّى لا تتزوّج أو يراجع فيطلّق ثمّ إذا قرب الخلاص يفعل مثل ذلك للإضرار ونحو ذلك (وَأَشْهِدُوا) دليل على وجوب الشهادة لأنّ الأمر للوجوب كما ثبت في محلّه ، وعلى اشتراطها لأنّه للتعليم ، ولأنّ الظاهر أنّ من يقول بالوجوب يقول بالاشتراط وإلّا فمجرّد الأمر لا يدلّ على الاشتراط ويدلّ عليه أخبار أهل البيت وإجماع علمائهم أيضا والمراد بوجوب الإشهاد إيقاع المشهود به على وجه يعلم الشاهد ذلك لا الاخبار

__________________

(١) كما في قوله تعالى (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

٥٨٤

والاعلام أيضا بأنّه : اشهدا أنّي أفعل كذا ، وقد صرّح فيهما أيضا بذلك.

ثمّ إنّ المشهود به هو الطلاق لا الرجعة ولا تركها لهما أيضا ، ويؤيّده أنّ المقصود الأصليّ هنا ذكر الطلاق ، والباقي من توابعه ، فتوسّطت تلك بين أحكامه ، وأنّ الأمر للوجوب ، فلا يمكن إرجاعه إلى الرجعة والفرقة كما فعله في الكشاف والقاضي لعدم القائل بذلك ، فإنّ أبا حنيفة لم يقل بالوجوب أصلا والشافعيّ يقول بالوجوب في الرجعة دون الفرقة ، وقد صرح به فيهما ، بل لا معنى للإشهاد على ترك الرجعة إلّا بتأويل من عدم إيفاء حقوقها الّتي كانت عنده مثل المهر والنفقة ، فلعلّ مرادهما بالفرقة هو الطلاق ، وإن كان خلاف الظاهر ، ولهذا قال في مجمع البيان قال المفسّرون أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتّى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة ، ولا الرجل الطلاق وما ذكر قولا راجعا إلى الفرقة ورجّح ما ذكرناه ، لأنّه مرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام فعلى قولهما لا بدّ من الخروج عن ظاهر الأمر ، والحمل على الندب على قول أبي حنيفة وعليهما على قول الشافعيّ.

على أنّه قال القاضي وهو ندب كقوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعن الشافعيّ وجوبه في الرجعة ، وقد قال من قبل (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة أو الفرقة ، وفيه تعمية وإلغاز لا يفهم للزوم حمل لفظ واحد على معنييه ، وهو على تقدير جوازه مجاز ، وإن حمل على الأعمّ فمجاز أيضا مع الإجمال والألغاز ، فإنّه لم يفهم أنّ المراد مطلق الرجحان فيهما أو في بعض الأفراد الوجوب وفي الآخر الندب ، وأنّ كلّا منهما في أيّ قسم ، وإخراج الآية عن الظاهر ، وحملها على مثل هذا مشكل إلّا مع دليل واضح ، وليس مجرّد القرب والبعد موجبا لذلك ، فتأمّل.

ويؤيّد الوجوب أيضا المبالغة الكثيرة الّتي وجدت فيما بعد الآية بقوله (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) حيث تدلّ على أنّ الاشهاد والإقامة أو جميع الأحكام المتقدّمة كما قال القاضي وغيره يتّعظ وينتفع به المؤمن ، فيشعر بأنّ من لم يفعل

٥٨٥

ذلك ليس بمؤمن ومتّق ولم يجعل له مخلصا ومخرجا من كرب الدّنيا والآخرة ولم يرزقه من حيث لا يحتسب أي لم يخلف عليه ولم يعطه من حيث لا يخطر بباله ، وغير ذلك ممّا قيل في تفسير هذه الآية من النفع الكثير جدّا وبالجملة المتّقي بجمع الله تعالى له خير الدنيا والآخرة ويخلّصه من مضارّهما ، وكذا المتّكل على الله حيث أشار به إليه بعده (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وفيه إشعار بأنّ المتّقي متّكل فافهم.

وروي عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) الآية ، فما زال يقرأها ويعيدها وروي أنّ رجلا أسره المشركون فأتى أبوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة ، فقال له : اتّق الله واصبر وأكثر من قول «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ففعل الرجل ، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل قد غفل عنها العدوّ فاستاقها ، ومثل هذه المبالغات لا ينبغي في المندوبات.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أمر للشهود بإقامة الشهادة عند الاستشهاد والحاجة لله لا لغرض آخر مثل رضا المشهود له ومحبّته وبغض المشهود عليه ، وبالجملة لا بدّ من كونها لله كسائر الأعمال والأفعال ، لعلّ فيه إشارة إلى الترغيب على الصدق في الشهادة ، فإنّها لله فلا يفعل الكذب والإيقاع على غير ما هي عليه ، والظاهر أنّه على تقدير الصدق لو كانت الشهادة مشوبة بأغراض أخر يحصل غرض المشهود له وتصحّ دون ما وعد الله على الشهادة للشاهد ، بل يمكن العقاب فتأمّل ، ويفهم اعتبار القصد من مثل هذه الآية في العبادة لا النّية المعتبرة عند الفقهاء فافهم.

وقريب منها الثانية : وهي قوله تعالى :

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(١).

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٥٨٦

أي إذا طلّقتم أيّها الأزواج نساءكم فقرب انقضاء عدّتهنّ ، والبلوغ هنا بمعنى القرب ، يقال بلغ البلد إذا قرب منه ، والأجل آخر المدّة (فَأَمْسِكُوهُنَّ) أي راجعوهنّ بمعروف عند العقل والشرع ممّا يتعارف عند الناس أي أمسكوهنّ على وجه أباحه الله تعالى من الأخذ على وجه تقومون بمصالحها ، وما يجب عليكم من حقوقها (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي اتركوهنّ حتّى تنقضي عدّتهنّ فيكنّ أملكن أنفسهنّ.

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهنّ لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الإضرار بهنّ أو مضرّين فهو نصب إمّا على العلّة أو على الحال ، والضرار بتطويل العدّة كما روي أنّه كان الرجل يطلّق المرأة ويتركها حتّى تقرب انقضاء عدّتها ، ثمّ يراجعها لا عن حاجة ، ولكن لتطول العدّة فهو الإمساك ضرارا (لِتَعْتَدُوا) أي لتظلموهنّ أو لتلجؤهنّ إلى الافتداء (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعقاب الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي جدّوا في الأخذ واعملوا بآيات الله ، وارعوها حقّ الرعاية وإلّا فقد اتّخذتموها هزؤا ولعبا ويقال لمن لم يجدّ في الأمر إنّما أنت لاعب (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام وبنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله «وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» من القرآن والسنّة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقّهما والعمل بهما (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بما أنزل عليكم من الوعظ (وَاتَّقُوا اللهَ) معاصيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تهديد وتأكيد للوعظ. فدلّت على وجوب الرجعة والإمساك والمعاشرة بالمعروف ، أو التسريح والترك بالإحسان ، وعلى النهي عن الإمساك ضرارا تأكيدا للتحريم ، بعد أن علم ضمنا ، وعلى أنّ فاعل العدوان ظالم لنفسه ، وعلى تحريم أخذ آيات الله هزؤا وعدم الجدّ في فعل الأوامر ، وترك المناهي ، وعلى وجوب شكر النعمة ، والعمل بالكتاب والسنّة ، والعلم بأنّ الله عالم بكلّ شيء.

الثالثة : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ

٥٨٧

يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

يعني إذا طلّقتم النّساء وانقضت عدّتهنّ فلا تمنعوهنّ عن التزويج ، قيل : المخاطبون هم الأزواج الّذين يعضلون نساءهم بعد مضيّ العدّة ولا يتركونهنّ بتزوّجن عدوانا وقسرا للحميّة الجاهليّة بقرينة أنّ الخطاب كان لهم ، فيكون منعا لهم من عضلهم نساءهم ، فيكون (أَنْ يَنْكِحْنَ) مجرورا بتقدير «من» وإطلاق الأزواج على الحطّاب باعتبار أن يصيروا كذلك لحصول الرضا [والشرائط] وقيل هم الأولياء لما روي أنّها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى زوجها باستيناف عقد ، وقيل هما معا ، وقيل الناس كلّهم بمعنى أن لا يوجد فيما بينكم العضل فإنّه إذا وجد بينهم وهم راضون به ، كانوا كالعاضلين ، والعضل : الحبس والمنع والتضييق.

هكذا في التفسيرين ، ولا يحتاج إلى ذلك لاحتمال أن يكون الخطاب للناس بمعنى أن ليس لأحد منع المرأة من التزويج بالكفو إذا حصل التراضي بينهما ، ولا يحتاج أن يكون باعتبار عضل الوليّ أو الزّوج ورضا غيره به ، وعلى تقدير كون سبب النزول ما ذكر لا يلزم كون الخطاب للأولياء خاصّة لعموم اللفظ ، مع عدم تسليم كون الأخ وليّا وليس فيها دلالة عليهما ، فعلى التقادير علم عدم دلالتها على منع الوليّ المرءة عن الزواج بالكفو وعدم استقلالها ، وإن قلنا إنّ الخطاب للوليّ ، والأخ وليّ وسبب النزول حقّ إذ استقلال المرأة بالتزويج لا يستلزم عدم منع أحد لها قسرا وجورا وظلما بل الظاهر أنّه على ذلك التقدير يعلم أن ليس للوليّ منعها بل هي مستقلّة.

فقول القاضي : فيكون دليلا على أنّ المرأة لا تتزوّج نفسها إذ لو تمكّنت منه لم يكن لعضل الوليّ معنى ، ضعيف ، فلا يبعد أن يستدلّ بها على عدم جواز منع

__________________

(١) البقرة : ٢٣٢.

٥٨٨

الولي التزويج بالكفو كما يقوله الأصحاب ، بل كلّ من يمنع ذلك بعد حصول الرضا ولو أراد الأعلى دينا أو دنيا سواء كان قريبا أولا ، فتخصيص الأصحاب بالوليّ والاستثناء بقوله «إلّا أن يريد الأعلى» غير ظاهر ، وعلى تحريم الخطبة بعد الرضا على الخطبة لأنّه منع وعضل ، الله يعلم.

(إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) أي الخطّاب والنساء وهو ظرف لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما يعرفه الشرع ويستحسنه المروّة كأنّه صفة مصدر محذوف أي تراضيا كائنا بمعروف ، أو حال عن الضمير المرفوع أي تراضوا عاملين بالمعروف وفيه دلالة على عدم تحريم العضل إذا لم يكن بالكفو.

(ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع ، لكن على تأويل القبيل أو كلّ واحد واحد ، أو أنّ الكاف لمجرّد الخطاب ، والفرق بين الحاضر والغائب دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول على طريقة قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).

(يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تخصيص الوعظ الّذي هو الزجر والتخويف والتطميع بالمؤمن لأنّه المنتفع والمتّعظ به (ذلِكُمْ) أي العمل بمقتضى ما ذكر (أَزْكى) أي أنفع (ذلِكُمْ) وأقوى أي يجعلكم أزكياء (وَأَطْهَرُ) لقلوبكم من دنس الآثام (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع أو المصلحة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تأكيد لتصديق الأحكام وإشارة إلى اشتمالها على الحكم والمصالح ، فلو لم يظهر لهم الحكمة لا يجوّزون عدمها ، لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون الأمور الخفيّة لمصالح جليلة.

الرابعة : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ

٥٨٩

بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

ظاهرها الاخبار عن كلّ امرأة مفارقة لزوجها بالطلاق بالتربّص المدّة المذكورة أو في المدّة فثلاثة إمّا مفعول به أو فيه ، ولعلّ المقصود إيجاب العدّة على كلّ مطلّقة مدخول بها ذات القرء إذ العدّة المذكورة مخصوصة بها بالإجماع وغيره ، والنكتة في التعبير عن الأمر بالخبر هو التأكيد والمبالغة بالمسارعة إلى الامتثال فكأنّهنّ امتثلن الأمر بالتربّص ، فهو يخبر عنه موجودا ونحوه قولك في الدعاء رحمك الله.

كذا في التفسيرين ، ولا يبعد جعلهما مخصوصة بالمطلّقات الرجعيّات غير الحاملات أيضا ، لأنّ عدّتها وضع الحمل عند الأصحاب لأدلّتهم ، ولقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) إذ الظاهر أنّ تخصيص الضمير يقتضي تخصيص المرجع ، وإن كان فيه خلاف ، إذ الضمير عين المرجع ولا معنى لمغايرة أحدهما الآخر إلّا بالتكلّف ، وليس كذلك إعادة الظاهر ، وإرادة الخاصّ منه ، وهو ظاهر فالقياس عليه غير جيّد كما هو مذهب الشافعيّ وارتكبه القاضي ، بل الظاهر هو الأوّل كما هو مذهب بعض المحقّقين والحنفيّة ، وأيضا وجه التعبير غير ظاهر إذ قد يقتضي ذلك كونه ماضيا مثل رحمك الله على أنّ لفظة المسارعة لا تناسب.

وأيضا قول صاحب الكشّاف قلت بل اللّفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكلّه وبعضه ، وجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك في جواب قوله ، فان قلت كيف جازت إرادة المدخول بهنّ خاصّة واللّفظ يقتضي العموم ، لا يخلو عن مناقشة ، إذ المطلّقات عامّ لا مطلق لأنّه جمع معرّف باللّام ، وهو من صيغ العموم ، وقد صرّح هو أيضا بذلك مرارا ، نعم هو قابل للتخصيص فيخصّص بمنفصل كما أشرنا إليه ، وقالوا أيضا في ذكر التربّص بأنفسهنّ إشارة إلى أنّ العدّة والصبر عن التزويج صعب على النساء فكأنّهنّ يحملن بالقوّة والجور أنفسهنّ على الصبر في تلك المدّة والقروء جمع قرء بالفتح أو الضمّ ولا شكّ في إطلاقه على الحيض والطهر إمّا بالاشتراك

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

٥٩٠

أو الحقيقة والمجاز ، وأنّ المراد هنا هو الطهر عند الأصحاب والشافعيّ وزيد بن ثابت وعائشة وابن عمر وابن مالك وأهل المدينة إلّا سعيد بن المسيّب ، ولعلّ دليلهم نقل الإجماع والأخبار ، وإن كان بعضها يدلّ على أنّه الحيض والتأويل والجمع مذكور في محلّه.

وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي وقت عدّتهنّ واللّام للتوقيت إذ ظاهره وجوب وقوع الطلاق في زمان يحصل فيه العدّة ومعلوم بالإجماع عدم جواز الطلاق في الحيض ، ويبعد حملها على أن يستقبله العدّة وإن كان يجيء بعد مدّة طويلة كما حملها عليه صاحب الكشّاف ليوافق مذهب الحنفيّ ، ولوجوده بهذا المعنى في بعض الأخبار مثل دعي الصلاة أيّام أقرائك ، وليس ذلك دليلا وهو ظاهر ولعلّ النكتة في التعبير بالقروء الّتي هي جمع كثرة دون الأقراء الّتي هي جمع قلّة مع مناسبة جمع القلّة التنبيه على عدم إرادة الحيض حيث جمع بالأقراء القرء الّذي يكون المراد منه الحيض ، فتنبّه على أنّ كلا من جمع الكثرة والقلّة يستعمل في مقام الآخر.

وقال القاضي : ولعلّ الحكم لما عمّ المطلّقات ذوات الأقراء تضمّن معنى الكثرة فحسن بناؤها ، وفيه مناقشة إذ لا شكّ أنّ المراد الحكم على كلّ مطلّقة مطلّقة بأنّ عدّتها قروء وهو ظاهر ، فلا ينفع كثرتهنّ وهو ظاهر وأنّ القروء أطلق على الثلاثة الّتي أضيفت إليها ، وهي تميزها ، فليس ما يطلق عليه إلّا ثلاثة أقراء فلا يحسن وجودها في أفراد كثيرة من النساء ، ولعلّ مقصوده أنّه إذا جاز الحكم في كثير من النساء فصار أفراد ثلاثة الأقراء كثيرة فوجد أفراد جمع الكثرة فيه باعتبار أفراده ، فحسن ، وفيه تكلّف.

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) يعني يحرم عليهنّ أن يسترن ، ولا يظهرن ما في بطونهنّ من الولد والحيض استعجالا للعدّة ، وإبطالا لحقّ الرجعة وأخذا للنفقة ، وقيل في هذه دلالة على أنّ قولها مقبول في ذلك ، ولعلّ الوجه أنّه لو لم يكن كذلك لما حسن الإيجاب عليهنّ وتحريم الكتمان ، ولعلّه مؤيّد بالأخبار والإجماع وعدم لزوم الحرج والضرر المنفيّين عقلا ونقلا ، و

٥٩١

لعسر الاطّلاع عليهنّ غالبا إلّا من جهة قولهنّ ، وليس الغرض من التقييد بقوله (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) اشتراط نفي الحلّ بإيمانهنّ ، بل التنبيه على أنّ كمال الإيمان يقتضي عدم الكتمان وعدم فعل حرام ، وأنّ المؤمن لا يجترئ عليه ولا يفعله.

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) أي أزواج تلك المطلّقات أولى في تلك المدّة وزمان التربّص بردّهنّ ورجوعهنّ إلى النكاح والزوجيّة بغير نكاح مجدّد بل بمجرّد الرجوع إمّا لفظا أو فعلا كما هو المبيّن في محلّه ، بمعنى أن ليس لأحد أن يتزوّجهنّ ، وليس لهنّ أيضا أن يتزوّجن حينئذ بغيرهم ، فليس الرجوع إلّا للأزواج ، فأفعل هنا بمعنى أصل الفعل بمعنى هم حقيق بهنّ دون غيرهم ، أو أنّهم أحقّ بالردّ في زمان التربّص من التزويج بعده فتأمّل ، والبعول جمع بعل ، والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة جمع عمّ والخئولة جمع خال.

وليس الغرض من قوله (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) اشتراط تقييد الأحقيّة بإرادة الإصلاح ، فإنّهم نقلوا الإجماع على صحّة الرجوع وإن أرادوا الإضرار بل الإشارة والتنبيه على أنّه لا ينبغي بل لا يجوز الرجوع بقصد الإضرار بل يجب قصد الإصلاح ، بل لا يبعد جعله شرطا لجواز ذلك كما هو الظاهر وإن قلنا بصحّته بمعنى عود الزوجيّة بناء على الإجماع المنقول ، ولا ينفى حصول الإثم وفعل الحرام بذلك القصد والإضرار كما يظهر من مجمع البيان ، فقول القاضي وليس المراد منه شرطيّة قصد الإصلاح للرجعة ، بل التحريص عليه والمنع من قصد الضرار محلّ المناقشة ، فيؤول إلى ما قلناه.

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ولهنّ حقوق واجبة على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب واستحقاق المطالبة بها لا في الجنس ، لأنّ حقوق النساء على الرجال المهر : والنفقة والكسوة والمسكن والمضاجعة والدخول في الأوقات المقرّرة شرعا وترك الضرار كما روي أنّ الرجل كان يطلّق فإذا قرب خروج العدّة فيرجع وهكذا ، لئلّا تتزوّج قريبا وتستضرّ بعدم الزوج ، فنهى عن

٥٩٢

ذلك على ما فهم ممّا سبق ، وحقوق الأزواج عليهنّ في أنفسهنّ بأن يبذلن أنفسهنّ لهم ، ولا يمنعنهم ولا يتزيّنّ لغيرهم ، ولا يخرجن عن البيوت بغير إذنهم ، بل ولا يخرجن عن إذنهم حتّى لا يصمن ندبا ولا يحججن كذلك إلّا بإذنهم على ما ذكروه.

فهذا معنى قوله (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فإنّ حقوقهم عليهنّ في أنفسهنّ بهذه المثابة دون حقوقهنّ ، فحقوقهم زيادة على حقوقهنّ في الحقّ أو في الشرف والفضيلة فإنّه من جهة القوام ومتعلّق بأنفسهنّ بخلاف حقوقهنّ وهنا روايات مشتملة على بيان حقوق الجانبين مفصّلة وزيادة حقّ الزوج على حقّ الزوجة حتّى وقع في بعضها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كنت آمر أحدا يسجد لأحد لأمرت المرأة لتسجد لزوجها (١) ومن كثرتها عليها قالت امرأة بعد أن سمعت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قالت فما لي من الحقّ عليه مثله؟ قال لا ، ولا من كلّ مائة واحدة : والّذي بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا (٢) فمنه ومن أمثاله يعلم معنى قوله (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي) ومعنى (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فافهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي قادر على الانتقام ممّن خالف الأحكام (حَكِيمٌ) يشرع الأحكام بحكم ومصالح ولا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة والمصالح لأنّه عبث ولغو ولهو ، والله منزّه عن ذلك ، علوّا كبيرا ، وقد علمت ممّا سبق أنّ الآية الكريمة مخصوصة بالمدخول بها للإجماع والأخبار وقوله تعالى (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) لعلّها في غير المدخول بها ولغير ذوات الأحمال ، فإنّ أجلهنّ أن يضعن حملهنّ ، فلا معنى لارتكاب النسخ ههنا والقول بأنّه نسخ بعضها مع أنّه خلاف الاصطلاح وممّا لا ضرورة لارتكابه.

الخامسة : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٣).

ولمّا بين عدّة المطلّقة البيّن حيضها بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ

__________________

(١) رواه أبو داود وأحمد كما في مشكاة المصابيح ص ٢٨٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٥١١.

(٣) الطلاق : ٤

٥٩٣

بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أراد بيان عدّة المطلّقة غير البيّن حيضها لكبر أو صغر أو حمل غالبا فقال (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي يئسن من الحيض بحسب الظاهر ولم يتحقّق كونه لكبر ووصولها إلى حدّ يأس منه بالكلّية كما تقرّر في الشرع فحصل الشكّ في ذلك فيجب عليهنّ أيضا العدّة لعدم تحقّق الوصول إلى ذلك الحدّ للاستصحاب والأصل (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وكذلك من لم تحض مع الشكّ في كون ذلك للصغر الّذي لا حيض معه شرعا ، هكذا يفهم من الكشّاف ومجمع البيان حيث قدّرا هنا إن ارتبتم فعدّتهنّ أيضا ثلاثة أشهر ، وفيه تأمّل لأنّه قد تقرّر أنّه قبل التسع لا حيض بإجماعنا وأخبارنا والأصل عدم الوصول إليه ويمكن التقييد بمن تجاوز التسع ولم تحض ومثلها تحيض كما فعله الشيخ وغيره ويفهم من مجمع البيان أيضا فلا يكون المحذوف إلّا لفظ كذلك أي عدّتهنّ أيضا ثلاثة ، فحذف الخبر منه لدلالة الأوّل عليه ، عكس ـ

نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرأي مختلف

فلا عدّة على اليائسة والصغيرة

وقيل : معناها أنّ النساء اللّائي يئسن من المحيض وجهلتم عدّتهنّ فعدّتهنّ ثلاثة أشهر وكذلك من لم تحض فاليائسة والصغيرة مطلقا يجب عليهنّ العدّة مع الدخول وهي ثلاثة أشهر ، وهو مذهب العامّة ، وبعض الخاصّة كالسيّد السند ، وذلك غير بعيد ، ولكن يبعد المعنى الّذي قيل لقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إذ هو بعيد عن معنى الجهل مع عدم الاحتياج إليه ، إذ بيان الأحكام في القرآن العزيز لا يقيّد بذلك في شيء من الأحكام.

وأيضا ينافيه بعض الأخبار مثل صحيحة حمّاد بن عثمان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من الّتي قد يئست من المحيض والّتي لا تحيض مثلها قال ليس عليهما عدّة وحسنة محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : في الّتي قد يئست من المحيض يطلّقها زوجها قال : بانت منه ولا عدّة عليها ، ومثلها كثيرة وعدم التقييد ظاهر في المدخول بها وغيرها. ويؤيّده حسنة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في

٥٩٤

الصبية الّتي لا تحيض مثلها والّتي قد يئست من المحيض قال ليس عليهما عدّة وإن دخل بهما ، ومرسلة جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام في الرجل يطلّق الصبية الّتي لم تبلغ ولم تحمل مثلها ، وقد كان دخل بها والمرأة الّتي قد قد يئست من المحيض وارتفع حيضها ولا تلد مثلها ، قال ليس عليهما عدّة وإن دخل بهما.

ولا يضرّ إرسال مثل جميل في مثلها ، وقال في الفقيه وفي رواية جميل أنّه قال في الرجل إلى آخر الرواية ، وكأنّه نقل بلا واسطة عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث تقدّم الرواية عنه عليه‌السلام ، ولكن يدلّ على الثاني أيضا أخبار مثل صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : عدّة المرأة الّتي لا تحيض والمستحاضة الّتي لا تطهر ، والجارية الّتي قد يئست و [الّتي] لم تدرك الحيض ثلاثة أشهر وعدّة الّتي لا يستقيم حيضها ثلاث حيض ، متى حاضتها ، فقد حلّت للأزواج ، وضعيفة أبي بصير قال عدّة الّتي لم تبلغ الحيض ثلاثة أشهر ، والّتي قد قعدت عن الحيض ثلاثة أشهر (١).

ويرجّح الأوّل بكثرة الأخبار والقائل ، قال في التهذيب : والّذي ذكرناه وهو حمل خبر أبي بصير على من يكون مثلها تحيض لأنّ الله تعالى شرط ذلك وقيّده بمن يرتاب بحالها مذهب معاوية بن حكيم من متقدّمي فقهائنا وجميع فقهائنا المتأخّرين وهو مطابق لظاهر القرآن فتأمّل فيه.

وبالجمع بين الأدلّة وبالأصل وعموم ما يدلّ على جواز النكاح من النساء وعمومات الثاني تخصّص بأدلّة الأوّل ، ورواية أبي بصير ضعيفة وصحيحة الحلبيّ تحمل على ما حمله الشيخ على رواية أبي بصير كما تقدّم قبيل هذا.

على أنّها مشتملة على حكم المستحاضة ، والقائل به غير ظاهر ، وعلى أنّ عدّة المسترابة ثلاثة حيض مع أنّ عدّتها أحد الأمرين إمّا ثلاثة أشهر أو ثلاثة

__________________

(١) راجع الكافي ج ٦ ص ٨٥ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣١ ، التهذيب ج ٢ ص ١٦٨ و ٢٦٩ و ٢٨٢.

٥٩٥

أطهار ، وفي متنها أيضا شيء فتأمّل ، وصحّتها أيضا غير ظاهرة ، لأنّ في طريقه في الفقيه أبان بن عثمان ، وفيه كلام وإن كان في التهذيب أبان بن تغلب ، ولكن غير معلوم لأنّه يبعد نقله عن الحلبيّ مع كثرة نقل ابن عثمان عنه ، ولعلّه لذلك ما قيل بها ، ولكن الاحتياط معه ، فلا يترك.

ويؤيّد حمل الشيخ رواية محمّد بن حكيم عن العبد الصالح عليه‌السلام قال قلت له الجارية الشابّة الّتي لا تحيض ومثلها تحمل ، طلّقها زوجها؟ قال عدّتها ثلاثة أشهر وأمّا عدّة ذات الحمل المذكورة فالظاهر أنّها للمطلّقة لا مطلقا ، والّذي يدلّ عليه أنّ الكلام في عدّة الطلاق لقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) والتصريح بعدّة المتوفّى عنها زوجها عامّا في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) معناه الله أعلم أنّ عدّة كلّ زوجة كلّ زوج توفّي عنها أربعة أشهر وعشرة أيّام والزوجة الحامل المتوفّى عنها زوجها داخلة فيها بلا شكّ ، وليس بمعلوم دخولها في أولات الأحمال لأنّ الآية في بيان حكم المطلّقات ولهذا ما كان الخلاف الّذي في اللائي يئسن إلّا في المطلّقات بالإجماع ، ولا علّة في الحكم هنا في النصّ وهو ظاهر ، ولا اعتبار بالاستخراج فلا رجحان هنا بأنّ هذا معلّل ، وأنّ العموم هناك بالذات ، وهنا بالعرض لأنّه يحصل من عموم الزوج كما قاله القاضي ولا حجّة في الخبر المنقول من طرقهم ، وهو ظاهر لمنع الصحّة كيف وقد نقل في الكشّاف أنّ مذهب أمير المؤمنين عليه‌السلام وبعض الصحابة أيضا مثل ابن عباس الّذي هو وعاء العلم خلاف ذلك ، وهو كونها بأبعد الأجلين في المتوفّى عنها زوجها ، فتكون هذه مخصوصة بالمطلّقة كما هو مذهب الأصحاب.

ويؤيّده إجماعهم وأخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، مثل ما في صحيحة زرارة في الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام الحبلى المتوفّى عنها زوجها تعتدّ بأبعد الأجلين إلخ وأنّ تطويل العدّة في المتوفّى أولى وهو ظاهر ، ولهذا لا خلاف في عدّة الوفاة في أحد من الزوجات وإن كانت رضيعة أو زوجها رضيع غير مدخول بها ، واليائس وغيرها فعدّة الحامل

٥٩٦

المتوفّى عنها زوجها أبعد الأجلين بأخبارهم عليهم‌السلام وإجماع علمائهم وبالآية إن تقدّم الوضع وإلّا فمعلوم أنّه لا بدّ من وضع الحمل ، فهذا التخصيص كعدمه لوضوحه وبالجملة إذا ثبت كونه مذهب أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم‌السلام كما اعترف به صاحب الكشّاف لم يبق كلام لأنّ قولهم حجّة ، وليس هنا محلّ بيانها فافهم.

السادسة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (١).

المراد بالنكاح هنا العقد ولعلّ في «المؤمنات» إشارة إلى عدم جواز نكاح الكافرات ، والمراد بالمسّ الدّخول قبلا ودبرا ، فالمعنى ، إذا طلّقتم الزوجات قبل الدخول مطلقا ليس لكم عليهنّ عدّة أي يجوز لهنّ أن يتزوّجن في الحال من غير أن يصبرن ساعة إذ لا عدّة لكم عليهنّ تعتدّونها وتستوفون عددها ، نعم يثبت لهنّ متعة عليكم فيجب أن تمتّعوهنّ بشيء وتفصيله تقدّم ، وتقدّم أيضا أنّه يشترط في المتعة أن لا يسمّي لها مهرا وإلّا يثبت لهنّ نصف المهر المسمّى فتقيّد هذه بما تقدّم ويمكن أن تحمل على العموم وتجعل المتعة راجحة لا واجبة ، فتكون مع التسمية مستحبّة ومع عدمها واجبة.

وفيها دلالة على أنّه لا عدّة مع عدم الدخول سواء تحقّق الخلوة أم لا ، فليس للخلوة حكم الدخول في المهر والعدّة كما قال به أبو حنيفة ، إذ المسّ هو الدخول والجماع والوطي ، ولا شكّ أنّ مع الخلوة الّتي ما يتحقّق معها الدخول يصدق عليه قبل المسّ وهو ظاهر.

و (سَراحاً جَمِيلاً) أي تخلية من غير ضرار ولا منع واجب من نفقة وكسوة ومتعة ومهر وغيرها ، إشارة إلى ما نفاه في قوله (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ونحو ذلك

__________________

(١) الأحزاب : ٤٩.

٥٩٧

وبالجملة لا يجوز الخروج عن الشرع ، فيجب إمّا الإمساك بالمعروف أو المفارقة به من غير قصد إضرار.

السابعة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (١).

أي أزواج الّذين ، فالمضاف محذوف للظهور ، أو يكون التقدير يتربّصن بعدهم فيكون العائد محذوفا ، أو يقال التقدير يتربّصن أزواجهم فلا يحتاج إلى العائد فكأنّه مذكور فانّ ضمير يتربّصن ، راجع إلى «أزواجا» والمراد أزواجهم فالأزواج هنا جمع الزوجة أي الأزواج الّذين يموتون ويتركون زوجاتهم فتعتدّ زوجاتهم هذه المدّة ، ويحبسن أنفسهنّ عن التزويج والتعريض للخطبة وتلك المدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وقيل عشرا لملاحظة اللّيالي فإنّها مؤنّثة وعشرة للأيّام وإنّما تعتبر هي دون الأيّام حتّى أنّهم لا يقولون صمت عشرة بل عشرا (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي انقضت عدّتهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيّها الحكّام أو المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من التعرّض للخطّاب بالتزويج بالوجه الّذي لا ينكر شرعا ، فيفهم أنّهنّ لو فعلن في أنفسهنّ ما هو منكر شرعا فعلى الحكّام بل الناس الّذين يقدرون على منعهنّ ويتركونهنّ يفعلن إثم وجناح ، فيجب عليهم منعهنّ من باب النهي عن المنكر.

فالآية دلّت على وجوب العدّة على كلّ من توفّي عنها زوجها وأنّها تلك المدّة سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، مدخولا بها أم لا ، مسلمة أو كافرة ، حرّة أو أمة حاملا أو حائلا.

وقال القاضي : عموم اللّفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابيّة فيه كما قاله الشافعيّ والحرّة والأمة كما قاله الأصمّ والحامل وغيرها ، لكنّ القياس اقتضى تنصيف المدّة للأمّة ، والإجماع خصّ الحامل عنه لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ

__________________

(١) البقرة : ٢٣٤.

٥٩٨

أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وعن عليّ عليه‌السلام وابن عبّاس أنّها تعتدّ بأقصى الأجلين احتياطا.

وفيه نظر إذ لا شكّ في عموم الآية وشمولها بل كلام الشافعيّ أيضا للأمة والحرّة ، وأنّ القياس ، على تقدير صحّته في نفسه ، غير معلوم صحّته هنا ، وعلى تقدير صحّته هنا يكون من المستنبطة ، فلا يجوز تخصيص القرآن العزيز بها كما هو مذهب الحقّ في الأصول ، والإجماع المدّعى غير معلوم ، بل ولا مظنون ، كيف وقد نقل خلافه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عبّاس ونقله في الكشّاف أيضا والآية لو لم تكن ظاهرة في الطلاق يكون شمولها للحامل المتوفّى عنها زوجها كشمول هذه لها ، فالترجيح يحتاج إلى دليل ، والعمل بأبعد الأجلين جامع للعمل بهما وقد نقل عن عليّ عليه‌السلام وابن عبّاس أيضا وهو المختار عند الأصحاب.

ثمّ إنّ الظاهر وجوب العدّة من حين الوفاة ، وقال الأصحاب من حين وصول الخبر إلى الزّوجة للأخبار ، وكأنّه للإجماع أيضا وفي يتربّصن أيضا إشارة إليه حيث معناه حبس النفس على العدّة تلك المدّة وهو بدون وصول الخبر لا يمكن ولوجوب الحداد للأخبار ، وكأنّه للإجماع أيضا وهو ترك الزينة لأجل موت الزوج وهو إنّما يمكن بعده ، وهو واجب أيضا في زمان العدّة ولعلّه لا يتحقّق أحدهما بدون الآخر ، ولهذا في الطلاق إنّما يعتبر حساب العدّة من حين الوقوع لا وصول خبر الطلاق إليها للأخبار ، ولحصول الغرض وهو براءة الرحم في الطلاق دون الوفاة ، ولهذا كانت مخصوصة بالمدخول بها غير الآئسة والصغيرة عند الأكثر.

وأمّا وجوب ترك النقلة عن المنزل على المتوفّى عنها زوجها كما قاله في مجمع البيان أنّه واجب عندنا وأنّه مذهب ابن عبّاس أيضا فغير معلوم أنّه ذهب إليه أحد من الأصحاب ، نعم واجب عندهم على المطلّقة الرجعيّة فقط ، عدم الخروج عن المنزل الّذي طلّقت فيه إلّا بعد نصف اللّيل للحاجة ، مع الرجوع ليلا ، وقد مرّ البحث فيه.

وقال فيه : أيضا قيل : معناه لا جناح على النساء ولا عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ

٥٩٩

من النكاح والزينة الّتي لا ينكر مثلها وهذا معنى قوله (بِالْمَعْرُوفِ) وقيل معناه ما يكون جائزا ، وقيل معناه النكاح الحلال والظاهر أنّ الأوّل لا يناسب لو لم يكن المراد ما لا ينكر شرعا ، ومع المراد يكون هو الثاني ، وأنّ الأخير أخصّ ممّا قبله.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم ففيه ترغيب وترهيب كما هو العادة في تعقيب أكثر الأحكام للمبالغة والاهتمام بإقامة حدود الله.

وقال في مجمع البيان إنّ هذه ناسخة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) إلى قوله (غَيْرَ إِخْراجٍ) (١) وإن كانت متقدّمة عليه في التلاوة ، ولعلّ المنافاة باعتبار وجوب العدّة سنة المفهوم من قوله (إِلَى الْحَوْلِ) كما قاله القاضي وفيه تأمّل ، وإمّا باعتبار وجوب الوصيّة وإمتاعهم وعدم إخراجهم عن بيوت الأزواج إلى الحول فغير ظاهر وبالجملة إنّما يتحقّق بعد العلم بتفسيرها وسيجيء إنشاء الله تعالى.

الثامنة : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢).

الطلاق بمعنى التطليق كالسلام والكلام بمعنى التسليم والتكليم ، أي التطليق الرجعيّ ثنتان فإنّ الثالثة بائن لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه سئل عن الثالثة فقال عليه الصلاة والسلام (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو أنّ التطليق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرّتين التثنية بل مطلق التكرير كقوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (٣) أي كرّة بعد كرّة لا كرّتين فقط ، ومثله من الثاني الّتي يراد بها التكرير قولهم لبّيك وسعديك.

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تخيير للأزواج بعد أن علّمهم كيف يطلّقونهنّ ، بين أن يمسكوا النساء بحسن المعاشرة والقيام بحقّهنّ الواجب عليهم

__________________

(١) البقرة : ٢٤٣.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) الملك : ٥.

٦٠٠