زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

أنّ مجرّد ذلك كاف للطلب وأنّه بذلك أهل لها فتأمّل.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) بمنزلة التعليل للطلب المتقدّم كأنّهم قالوا إن لم تغفر لنا فتدخلنا النار ، فهو الخزي العظيم الّذي لا خزي فوقه فهو تأكيد للطلب ، وإلحاح فيه ، وإظهار الاحتياج إليه تعالى سواء قلنا المراد هو دوام الخلود أم لا؟ ويؤيّده الأخبار ، فإنّ الاستعاذة من عذاب النار فيها أكثر من أن تحصى ، بل في بعضها ما يدلّ على أن لا عذاب إلّا عذاب النار (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أراد بهم مدخلين النار ، وضع المظهر موضع المضمر ، للإشارة إلى أنّ سبب الدخول هو الظلم على أنفسهم لا غير ، وأنّهم يستحقّون ذلك ، فالعفو والمغفرة إحسان ولطف وتفضّل غير لازم ، فيدلّ على أنّه بغير التوبة يجوز ويحتمل كما مرّ ، وهو لتأكيد الطلب حيث لا ناصر لهم ، وكأنّ المراد بالناصر : الّذي يخلص الداخل منه بنصرة وغلبة على من أراد إدخالهم ، فإنه الظاهر من الناصر فلا ينافي وجود الشفيع فافهم ، ويحتمل أن يراد بالظالمين الكفّار ، فلا يحتاج إلى التأويل.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي آمنوا أو بأن آمنوا (١) (فَآمَنَّا) قيل المنادي هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيل القرآن ، والأوّل أظهر ، و

__________________

(١) قيل عليه : فيه إشكال فإن الأخيرة إشارة إلى أن كون أن مصدريّة ، وذلك غير جيد فإنه يصير التقدير ينادي للايمان بالايمان فأجيب بأنها مخففة من المثقلة ، واعترض عليه بأنه لا يدفع الاشكال عن صاحب الكشاف مع أنه لا بد للمخففة من أحد حروف أربعة حرف النفي وحرف التحقيق ، وحرف الاستقبال إلا أن يدخل على الجملة الاسمية أو على فعل غير متصرف لأن أن المصدرية لا تدخل هاهنا ثم قال المعترض ويمكن دفع الاشكال عن القرآن بجعلها زائدة كما جوزه بعضهم وأيضا لا استحالة في كون التقدير ينادى للايمان بالايمان بربكم ، لأن الأول مطلق والثاني مقيد ، فلا تكرار ، وأيضا النداء للايمان أعم من أن يكون بلفظ الايمان أو بلفظ آخر متناول له ، ومستلزم له ، فقال بالايمان ليفيد أن النداء إلى الايمان إنما كان بلفظه.

أقول : في دفع الاشكال على تقدير أن المصدرية لا يلزم أن يكون المأول بالمصدر مصدرا صريحا وقد صرح به السيد الشريف في بعض تحقيقاته وأيضا [لا قصور في ذلك التقدير فإنه] لا قصور إذا قيل ينادى للايمان بالايمان بالرب أى ينادى له يقول يكون مضمونه طلب الايمان

١٤١

في ذكره أوّلا مجملا ومنكّرا ثمّ مفصّلا تأكيد كما في تكرار «ربّنا» للطلب.

(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) يمكن أن تكون الكبائر ، كما قالوا : وسيّئاتنا إشارة إلى الصغائر فإنّها تكون مكفّرة باجتناب الكبائر عند البعض (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أمتنا موتتهم ، واجعلنا بعده معهم ، والأبرار جمع برّ أو بارّ كأصحاب وأرباب في جمع ربّ وصاحب (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ما وعدتنا على تصديق رسلك من الأجر والثواب أو ما وعدتنا بلسانهم ونقلهم عنك وهذا السؤال ليس لأن يعمل بوعده وعدم الإخلال به ، لاحتمال أن لا يفعل ذلك لأنّ ذلك محال عليه تعالى الله عنه ، بل طلب لبقائه على استحقاق ذلك بالموت على الايمان ، والعمل الصالح الكامل الّذي يستحقّ بهما ذلك الوعد ، مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء العاقبة ، أو لقصور في الامتثال للإخلال بشرائطها من

__________________

من المخاطبين بالنداء : سواء كان بقوله آمنوا أو صدقوا ، أو أسلموا أو قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ونحو ذلك ، ولا قصور في ذلك : ويؤيده ما قيل أن أن المصدرية إذا دخلت أمرا يكون للطلب.

ويحوز كونها مخففة أيضا وما ذكره المعترض من الشرط غير ظاهر ، وما ذكره بعض النحاة فكأنه يريد به الأغلبية ، ولهذا قال في الكشاف وتفسير البيضاوي في تفسير قوله تعالى (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) أن المخففة من المشقلة وأيضا كلام الكشاف ليس بصريح في كون أن مصدرية أو يكون مقصوده دفع الاشكال بوجه آخر.

وأيضا في قول المعترض في دفع الإشكال بزيادة «أن» لأنه جاز عند البعض تأمل فإن مجرد ذلك لا ينفع وهو ظاهر ، وأيضا ليس الاشكال بالتكرار حتى يدفع بما ذكره : بل عدم ظهور المعنى بقول النداء بالايمان ، وقد عرفت له معنى صحيحا فاندفع الاشكال ، وأيضا النداء بالايمان أعم كما بيناه ، وبالجملة لا إشكال في القرآن ولا في كلام صاحب الكشاف ولا في كلام صاحب القيل : وإنما ذلك في كلام المعترض وهو السيد اليمنى والله اعلم ، منه ره.

أقول : هذه الحاشية قد طبعت في الطبعة الاولى الحجرية في المتن ونسخة سن خالية عنها متنا وهامشا ، وأما نسخة عش فقد جعلتها في المتن والهامش معا ، وقال بعد تمامها في الهامش «منه رحمه‌الله» وإنما جعلناه في الهامش لظاهر نسخة عش وأصالة نسخة سن ، ولان مسلك المؤلف رحمه‌الله في متن الكتاب لم يكن على المناقشات الأدبية.

١٤٢

الإخلاص وغيره ، أو تعبّد واستكانة كما يقول الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام «اللهمّ اغفر لي» من غير ذنب ، بل يظهرون البكاء والخوف العظيم من العقاب والتقصيرات المفرّطة والإقرار بالذنوب العظيمة جدّا مع عدم شيء منها (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالعذاب وإدخال النار بأن تعصمنا عمّا يقتضيه وتوفّقنا لما يبعّدنا عنه ولا تفعل ذلك بنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بإثابة المؤمن وإحابة الداعي ، بمنزلة دليل على أنّه لم يفعل ، أي لم تخزنا لأنّك وعدت بذلك ، وأنت لا تخلف الميعاد ، أو أنّه خبر بمعنى الدعاء فيكون تأكيدا للعصمة ، وقال في مجمع البيان : دعاء بمعنى الخبر فافهم (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يحتمل أن يكون المراد فأجاب دعاءهم وطلبهم بأنّ الله لا يضيع عمل مؤمن فإنّه يثيبه على ذلك ، فتدلّ على أنّه لا بدّ من العمل ومن الإيمان معه ، وقالوا أي استجاب طلبتهم وأعطاهم مرادهم ومقصودهم ، فدلّت الآية على أنّ الدعاء مع تقديم العجز والانقطاع مستجاب قال في الكشّاف روي عن جعفر الصادق عليه الصلاة والسلام من حزنه [أي أصابه] أمر فقال خمس مرّات ربّنا أنجاه الله ممّا أخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية ، وكأنّه يريد ذكر المطلب بعد قول ربّنا خمسا قال في مجمع البيان وهذا يتضمّن الحثّ على مواظبة الأدعية الّتي في الآية المتقدّمة والإشارة إلى أنّه ممّا يتعبّد الله بها وندب إليها ، وذلك يتضمّن الإجابة لمن دعا بها انتهى.

ثمّ إنّ في تتمّة هذه الآيات دلالة على الاستحباب والترغيب العظيم على المهاجرة في سبيل الله وطاعته ، والصبر على الأذى في الله وعلى الإخراج عن الديار والأهل ، كالصبر على القتل والقتال ، فإنّ ذلك ليس بمخصوص بالمهاجرين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى المدينة لعموم اللّفظ قال الله (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١)

__________________

(١) آل عمران : ١٩٥.

١٤٣

لأنّها تدلّ على أنّ هذه الأمور مطلقا موجبة لمحو الذنوب ، والثواب الجزيل ففيها دلالة على أنّ العمل فيها لا يقع شكرا بل له أجر وعوض ، وأنّ الذنوب يكفّر بالعمل الصالح ومثلها كثيرة فتأمّل ، كقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢) يمكن أن يستدلّ بها على استحباب المرابطة المصطلحة مع عدم الضرورة ، لعدم القائل ، وعلى الوجوب معها فهي محمولة على المرابطة المصطلحة وهي ربط النفس وحبسها في ثغور الكفّار لدفع من أراد منهم السوء بالمسلمين إن قدروا ، ولإخبار المسلمين حتّى يدفعوهم فيأمنوا من هجومهم كما يدلّ عليه بعض الروايات وقال في مجمع البيان : وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال معناه اصبروا على المصائب ، وصابروا على عدوّكم ، وقيل معنى رابطوا أي رابطوا الصلاة أي انتظروها واحدة بعد واحدة لأنّ المرابطة لم تكن حينئذ روي ذلك عن عليّ (٣) عليه‌السلام ويؤيّده ما روي في انتظار الصلاة بعد الصلاة من الأجر العظيم مثل من جلس في مصلّاه بعد الصلاة إلى وقت صلاة اخرى أنّه ضيف الله فيكرمه ويعطيه ما سأل (٤) قال في مجمع البيان روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أفضل الأعمال فقال : إسباغ الوضوء في السبرات (٥) ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط ثمّ قال وهذه الآية تتضمّن جميع ما يتناوله التكليف لأنّ قوله (اصْبِرُوا) يتناول لزوم العبادات وتجنّب المحرّمات (وَصابِرُوا) يتناول ما يتّصل بالغير كمجاهدة الجنّ والإنس وما هو أعظم منها من جهاد النفس (وَرابِطُوا) يدخل فيه الدفاع عن المسلمين والذبّ عن الدين (وَاتَّقُوا اللهَ) يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزواجر والايتمار بجميع الأوامر ، ثمّ يتبع جميع ذلك الفلاح والنجاح ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) الزلزال : ٧.

(٢) آل عمران : ٢٠٠.

(٣) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٦٢.

(٤) راجع مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٤٦.

(٥) السبرات جمع السبرة الغداة الباردة.

١٤٤

كأنّه يريد بلزوم العبادات العبادة المتعلّقة بنفسه من غير نظر إلى غيره ، وكذا بتجنّب المحرّمات وإن فهم ذلك المعنى من (صابِرُوا) باعتبار كونه من باب المفاعلة بين الاثنين كما أشار إليه قبله ، وكذا رابطوا فكأنّه حمله على المعنى الأعمّ المستفاد من معناه اللّغويّ وهو مشتقّ من الرباط والمرابطة وقيل معناه اصبروا على مشاقّ الطّاعات وما يصيبكم من الشدائد ، وصابروا أي غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب وأعدا عدوّكم في الصبر على مخالفة الهوى ، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدّته ، ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصّدين للغزو ، وأنفسكم على الطاعة كما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وعنه عليه‌السلام : من رابط يوما وليلة كان كعدل صيام شهر وقيامه ، ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلّا لحاجة (١).

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٢)) تدلّ على الترغيب على السجدة ، والبكاء عند سماع آيات الله ، قالوا يستحبّ السجدة عند سماع هذه الآية ، وليست بمفهومة بخصوصها منها ، كأنّه من الإجماع والأخبار فتأمّل (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) : شرّا ، فيها دلالة على تحريم إضاعة الصلاة واتّباع الشهوات قيل المراد بالإضاعة تركها ، وقيل تأخيرها عن أوقاتها ، وفي آخرها ما يدلّ على قبول التوبة من التارك والتابع للشهوة مع العمل الصالح حيث قال (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١١٣ ، أنوار التنزيل : ٨٩.

(٢) مريم : ٥٨ ، وما بعدها ذيلها.

(٣) نقل في النسخة المطبوعة بعد ذلك شطرا مما تقدم من كلامه في مبحث سجدة العزائم ص ١٣٣ أوله ، «ونقل في الكشاف وغيره» إلى قوله : «خائف مستجير» : وهو سهو.

١٤٥

(كتاب الصوم)

وفيه آيات :

الاولى والثانية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

يعني أوجب الله وكتب أيّها المؤمنون الصوم عليكم كتابة مثل كتابته على الّذين من قبلكم ـ فما مصدريّة ولعلّ التشبيه في أصل الصوم ، أو العدد والوقت أيضا لكن غيّر كما نقل في التفاسير ـ رجاء لتقواكم أي حال كونكم مرجوّا منكم التقوى أو راجين أن تكونوا من المتقين ، أو لرجاء تقواكم بالصوم ، فإنّه أصل ومن العبادات المعتبرة في التقوى ، أو لأنّه شعارهم ولحصول التقوى لكم به عن سائر المعاصي فإنّ الصوم يكسر الشهوة كما في الحديث : من لم يطق الباه ، فعليه بالصوم ، فانّ الصوم له وجاء. أي الصوم للعزب بمنزلة الخصاء وفي آخر خصاء أمّتي الصوم هذا في مجمع البيان (٢) والأوّل في الكشّاف والبيضاويّ (٣) بل القوّة الغضبيّة وما يتبعها من الشرور ويحصل للنفس انكسار ، وعدم الميل والقوّة إلى ما يضرّه كما نجد في أنفسنا إذا كنّا مفطرين.

__________________

(١) البقرة : ١٨٣ و ١٨٤ ، وتمام الآية ، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم ان كنتم تعلمون.

(٢) راجع ج ٢ ص ٢٧٢.

(٣) أنوار التنزيل : ٤٩ ، وتراه في الكافي ج ٤ ص ١٨٠ ولفظه : يا معشر الشباب عليكم بالباء فان لم تستطيعوه فعليكم بالصيام فإنه وجاؤه ، ورواه في البخاري ج ١ ص ٣٢٦ كتاب الصوم ج ٣ ص ٢٣٨ كتاب النكاح. الدر المنثور ج ١ ص ١٧٦.

١٤٦

والصوم قيل لغة الإمساك وشرعا إمساك شخص مخصوص عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص ، ولا يضرّ الإجمال لأنّ المقصود هو الإشارة إليه في الجملة ، لا بيان حقيقته إذ لا يعلم ذلك إلّا بعد الإحاطة بشرائط صحّته ومفسداته ، وهو موكول إلى محلّه ، ووجه ذكر الوجوب على الأمم السابقة تسلية المؤمنين بهذا التكليف فيفهم أنّه شاقّ على النفس لأنّه مناف لمشتهاها كما مرّ ، ويفهم أيضا الاهتمام بتوطين النفس على فعله ، وحسن قبوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي المفروض عليكم الصوم في أيّام معلومات موقّتات كما يستعلمونه أو قلائل ، فعامله الصيام المصدر ، وإن وجد الفصل ، لأنّ الظرف يكفيه رائحة العامل ، فليس ذلك موجبا للذهاب إلى التقدير أي صوموا أيّاما كما قاله البيضاويّ مع أنّه موجب للتكرار والثقل على الطبيعة ، وكذا قلّة عمل المصدر المعرّف كما قيل ، ولم يثبت قول من قال بعدم وجوده في القرآن ، على أنّه قد يكون المراد العمل في غير الظرف فافهم.

ولعلّ تلك الأيّام شهر رمضان كما سنبيّن عن قريب إن شاء الله تعالى قال في مجمع البيان وعليه أكثر المفسّرين ، لا ما وجب ونسخ به وهو عاشوراء ، وثلاثة أيّام من كلّ شهر كما جوّزه البيضاويّ إذ جعل مثل هذه الآية منسوخة خلاف الظاهر كثيرا بل لا يجوز النسخ ما لم يتعيّن ، سيّما مع بقاء حكم ما بعدها المتفرّع عليه وأيضا وجوب ثلاثة أيّام على غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المؤمنين غير معلوم وإنّما نقل في الكشّاف وجوبها عليه فقطّ وإن نقل في غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيضا لا ينافي وجوب رمضان وجوب غيره فلا يصلح نسخا له فتأمّل.

ففهم منها وجوب صوم شهر رمضان بانضمام مّا ، والاهتمام بشأنه ، وكونه سببا للتقوى ، وعلم أيضا كونه واجبا على غير المريض والمسافر من قوله (فَمَنْ كانَ) أي كلّ من كان (مِنْكُمْ مَرِيضاً) ظاهره مطلق المرض أيّ مرض كان ، وما يصدق عليه المرض عامّا كما نقل عن البعض في الكشّاف لكن خصّه الأصحاب بمرض يضرّه الصوم إمّا لعسر برئه وطوله أو زيادته بالأخبار ولعلّه بالإجماع أيضا والاحتياط ، وبالمناسبة العقليّة ، وبما يفهم من قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

١٤٧

قال في الكشّاف : وقيل هو المرض الّذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه لقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) وما ردّه ، ولعلّه رضي به ، ونقل عن الشافعيّ أنّه لا يفطر حتّى يجهده الجهد غير المحتمل ، وما استدلّ عليه ودليله غير واضح ، والآية والأخبار تدفعه كما عرفت وأيضا أكثر أهل الإسلام خصّص المرض بما مرّ كما خصّصوا السفر بسفر التقصير ، ولكن ما قيّد بحصول المشقّة بالصوم فيه إمّا دائما أو أكثريّا بحيث يضمحلّ عدمها لعدم ضبطها ولظهور الآية والأخبار الكثيرة في عدم القيد مع عدم الموجب من الإجماع والأخبار ، بل عدم الخلاف على عدمه كما يفهم.

وقوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي من كان منكم على سفر ، فيكون معطوفا على (مَرِيضاً) أي من كان منكم في هذه الأيّام راكب سفر وفي البيضاويّ : فيه إيماء بأنّ من سافر في أثناء اليوم لم يفطر كأنّه أخذه من لفظة «على» و «الأيّام» وليس بواضح إذ ظاهره كونه في هذه الأيّام على السفر ، وذلك يتحقّق بوجود أكثره في السفر ، كما هو المتعارف بإجراء حكم الشيء على أكثره ، وتدلّ عليه أخبار صريحة صحيحة وهو المذهب المنصور من المذاهب في هذه المسئلة كما هو المحقّق في محلّه فعليه عدّة أيّام المرض والسفر بعده بمعنى معدودة ، وقرئ بالنصب أي فيلصم عدّة كذا في الكشّاف وتفسير القاضي ولا شكّ أنّ «عليه» و «فليصم» مفيدان للوجوب كما هو المقرّر في الأصول ، فقولهما وجزمهما أنّه على سبيل الرخصة لا على سبيل الوجوب ـ وقيل على الوجوب وزاد القاضي : وذهب إليه الظاهريّة وبه قال أبو هريرة ـ لا يناسب (١) فإنّه خروج عن ظاهر الآية بل عمّا قال في بيان التركيب.

وقال في مجمع البيان (٢) وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر بن الخطّاب وعبد الله بن العبّاس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن

__________________

(١) خبر قوله : فقولهما وجزمهما إلخ.

(٢) راجع ج ٢ ص ٢٧٣.

١٤٨

عوف وأبي هريرة وعروة الزّبير وهو المرويّ عن أئمّتنا فقد روي أنّ عمر بن الخطّاب أمر رجلا صام سفرا أن يعيد صومه ، وروي عنهم عليهم الصلاة والسلام ذلك فقد علم عدم الإجماع أيضا عندهم على الرخصة ، بل عدم الخبر الصحيح ، بل مطلق الدليل الصحيح لبعد خفائه عنهم ، وزيادة البيضاويّ قوله «إن أفطر» خلاف الظاهر وارتكاب مثل هذا الحذف في القرآن العزيز من غير ضرورة لا يجوز ، إذ العمل بظاهر القرآن بل مطلق الأدلّة متعيّن كما هو المبيّن في الأصول والعقول.

ففهم من ذلك وجوب القضاء على المريض والمسافر سواء صاما أو أفطر الإيجابه بقوله (فَعِدَّةٌ) على ما مرّ ، فلا يكون ذلك الصوم مجزيا لأنّه ما يسقط به القضاء عند الفقهاء ، فلا يكون جائزا ، إذ لو كان جائزا لأجزأ ، وأيضا أحد لم يقل بجوازه من غير أن يكون أحد الواجبين وقد أبطلناهما ، وأيضا ظاهر قوله «فليصم غير هذه الأيّام» أنّه لا يصم هذه ، فيكون الصوم فيها حراما كما ذهب إليه أصحابنا ولعلّه إجماعيّ وعليه أخبار كثيرة صحيحة (١) بل يفهم تحريم مطلق الصوم في السفر إلّا أنّا نجد في الكتب أنّهم استثنوا مثل صوم النذر المقيّد به ، وعليه رواية صحيحة (٢) ويجعل بعضهم بل أكثرهم الصوم الغير الواجب في السفر مكروها ، وبيّن ذلك بعضهم بأنّه أقلّ ثوابا إذ لا تكون العبادات إلّا راجحة أو حراما فلو كانت جائزة مكروهة لكان بالمعنى الّذي مرّ ، وذلك غير واضح ، إذ العبادة كما يجوز كونها محرّمة يجوز كونها مكروهة بالمعنى الحقيقيّ أيضا إلّا أن يقال باعتبار النيّة ، فيحرم لأنّه تشريع فتأمّل فالظاهر في الصوم سفرا إمّا التحريم مطلقا إلّا ما ثبت استثناؤه ، أو الكراهة بمعناه المتعارف في الأصول بمعنى أنّه لو لم يصم لكان أحسن من الصوم أي عدمه خير من وجوده ، ولا يعاقب عليه ، ولا مانع في العقل أن يقول الشارع ذلك للمكلّف وقد ثبت في الأخبار كثيرا النهي عنه سفرا ، ولم يثبت ما يدلّ على الرجحان بخصوصه إلّا ما روي في خبرين ضعيفين جدّا (٣) من فعل أحد الأئمّة عليهم الصلاة والسلام في

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٢٦ ، الفقيه ج ٢ ص ٩٠.

(٢) راجع صحيحة على بن مهزيار في التهذيب ج ١ ص ٤٣٣.

(٣) الكافي ج ٤ ص ١٣٠ باب صوم التطوع تحت الرقم ١ و ٥.

١٤٩

صوم شعبان سفرا ، وليس بصريح أيضا في المندوب ، لاحتمال النذر ، ويحتمل اختصاصه به أيضا ويبعد الجمع بحمل الأكثر الأصحّ لأجل واحد أو اثنين ضعيفين غير صريحين على الكراهة بالمعنى المذكور ، إذ يبعد أن يمنع الامام بقوله «لا تصم أو ليس من البرّ» (١) عن صوم مثل يوم الغدير ، وأوّل رجب وسائر الأيّام المتبرّكة من يريد صومه ويسأله عن فعله أولا ، بمعنى أنّ الثواب أقلّ من ثواب الصائم في الحضر أو بمعنى أنّ الثواب في الإفطار سفرا أكثر من الصوم فيه ، إذ ليس الفطر عبادة في السفر على ما هو المشهور في غير الواجب مثل شهر رمضان ويبعد أن يكون الإنسان مثابا في السفر بالإفطار بثواب أكثر من الثواب الّذي يحصل له بالصوم فيه ، وأيضا لا معنى لصومه عليه الصلاة والسلام في السفر مع مرجوحيّته من الإفطار على ما دلّ عليه الخبران اللّذان هما وجه حمل الأخبار الدالّة على نهي الصوم في السفر ندبا على الكراهة فتأمّل الله يعلم.

وأمّا التتابع في القضاء فلا يبعد كونه مستحبّا لما في بعض الروايات ، وقراءة «متتابعات (٢)» وإن كان الحقّ عدم حجيّة ما لم يثبت كونه قرآنا كما بيّن في الأصول ، لكنّه مؤيّد ـ وأيضا (سارِعُوا) (٣) وغيره ممّا يدلّ على التعجيل في فعل الخير وأيضا ربّما يحصل مانع فتفوت تلك العبادة العظيمة وأيضا يتمكّن به من الصوم المندوب بالاتّفاق ، حيث ذهب أكثر الأصحاب إلى عدم جوازه لمن عليه الفرض ، وعليه دلّ الخبر الصحيح والحسن أيضا كلاهما في الكافي (٤) وأيضا أطنّ أنّ بعض الأصحاب ذهب إلى وجوب التعجيل في القضاء فيخلص بذلك عن الخلاف وما ورد في بعض الروايات من التفصيل من الأمر بالتتابع في الستّة والتفريق في

__________________

(١) لفظ الحديث ليس من البر الصيام في السفر ، والحديث مروي بطرق كثيرة عن العامة والخاصة ، راجع الوسائل الباب ١ من أبواب من يصح منه الصوم تيسير الوصول ج ٢ ص ٣١٢ ، مشكاة المصابيح : ١٧٧ وقال : متفق عليه. سنن ابن ماجة تحت الرقم ١٦٦٤ و ١٦٦٥.

(٢) نقله في كنز العرفان ج ١ ص ٢٠٧ ونسب القراءة إلى أبى بن كعب. وقيل : إنه في مصحف ابن مسعود أيضا.

(٣) آل عمران : ١٣٣.

(٤) راجع ج ٤ ص ١٢٣.

١٥٠

الباقي فليس بثابت ، بل الظاهر استحباب التتابع مطلقا للروايات ، والجمع بينها وبين ما يدلّ على التفريق لو وجد لا يفيد ترجيح التفريق ، ولو في البعض بل ولا التساوي.

وأما معنى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ففيه اختلاف كثير والمنقول عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام الّذين هم العارفون بالقرآن أنّ المراد بهم الشيوخ والعجائز الّذين كانوا يطيقون أوّلا الصوم ، ثمّ صاروا بحيث لا يطيقونه إلّا على وجه المشقّة الّتي لا يتحمّل مثلها عادة أو يطيقونه بجهد وطاقة ومشقّة لا يتحمّل مثلها في العادة ، وكذا الحوامل المقربات ، والمرضعات القليلات اللّبن كما قاله الأصحاب ، فعلى الأوّل في الآية حذف أي كانوا يطيقونه من قبل والآن ليسوا كذلك وعلى الثاني يكون مؤوّلا بمعنى يطيقون الصوم بالجهد والطاقة أي المشقّة ، والّذي يدلّ عليه ما رواه محمّد بن يعقوب في كتابه عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن صفوان بن يحيى عن علا بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام في قول الله عزوجل (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال الشيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش [وعن] قوله (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) قال من مرض أو عطاش (١) والظاهر أنّ هذا الخبر صحيح وما رواه في كتابه صحيحا عن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه الصلاة والسلام يقول : الشيخ الكبير والّذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في رمضان ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام ولا قضاء عليهما ، فان لم يقدرا فلا شيء عليهما (٢) وروى أيضا فيه مرسل ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال الّذين كانوا يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فعليهم لكلّ يوم مدّ ، وروى أيضا فيه صحيحا (٣) عن محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه الصلاة والسلام : يقول الحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن لا حرج

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١١٦.

(٢) الكافي ج ٤ ص ١١٦.

(٣) الكافي ج ٤ ص ١١٧.

١٥١

عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ، لأنّهما لا يطيقان الصوم : وعليهما أن يتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم يفطر فيه بمدّ من طعام ، وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد ، وفي صحيح آخر فيه عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال مثله فكأنّ ترك التاء في «واحد» باعتبار التعبير بالحامل المقرب ولفظه مذكّر ويفهم من الخبر الثاني إطلاق رمضان فيمكن حمل المنع الوارد في بعض الروايات على تقدير الصحّة على الكراهة وأيضا فهم حكم العطاش ونحوه ودخولهم في الآية.

وقال في مجمع البيان (١) وروي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه الصّلاة والسلام قال معناه : وعلى الّذين كانوا يطيقون الصوم ، ثم أصابهم كبر أو عطش أو شبه ذلك ، فعليهم لكلّ يوم مدّ ، وكأنّه إشارة إلى مرسل ابن بكير فكأنّه لصراحته وكونه عامّا في المقصود اختاره فكأنّ الإرسال لا يضرّ حيث أسنده غيره مع عمل الأصحاب بل الظاهر عدم الخلاف قال فيه أيضا وروي عن عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) من مرض في شهر رمضان فأفطر ثمّ صحّ ولم يقض ما فات حتّى جاء شهر رمضان آخر فعليه أن يقضي ويتصدّق لكلّ يوم مدّا من طعام ، وهذا رأيته في تفسيره من غير أن يسنده ولم يرو عنه في الكافي مع نقله عنه في هذه المسئلة روايتين وسيجيئان.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي تطوّع في البرّ في جميع الأمور ، سواء كان زيادة في الفدية بأن يطعم أكثر من ستّين مسكينا كما قال بعض ، أو زيادة على المدّ لمسكين واحد ، أو الإدام كما قال به الآخر ، أو الزيادة في الإطعام المذكور مطلقا جامعا بين القولين كما نقل عن ابن عبّاس كلّ ذلك في مجمع البيان (فَهُوَ) أي التطوّع (خَيْرٌ لَهُ) وأحسن (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) يعني صومكم خير لكم من الإفطار لما فيه من المصالح الخفيّة والظاهرة ، «وأن تصوموا» بمعنى الصوم مبتدأ و «خير» خبره و «لكم» متعلّق به. أو أنّ ثواب من صام أكثر من ثواب فدية من أفطر ، و

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ٢٧٤.

١٥٢

إن كانا واجبين ، والظاهر منها أنّ الصوم خير من اختيار الفدية قال في الكشاف وتفسير القاضي (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أيّها المطيقون أو المطوّقون (١) وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم «خير لكم» من الفدية وتطوّع الخير ، فتدلّ على التخيير بين الفدية والصوم لهؤلاء الّذين ذكرناهم ، فيمكن القول به ، لكن بشرط عدم حصول العلم بالضرر الّذي يؤول إلى وجوب الإفطار ، والظاهر من عبارات الأصحاب هو جواز الإفطار لا الوجوب (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضيلة والمصالح تعرفون أنّه خير لكم من الفدية والإفطار ، ويحتمل أن يكون معناه إن كنتم من أهل العلم والعقل السليم ، والتميز بين الحسن والأحسن والقبيح والأقبح (٢) تعرفون أنّه خير لكم ، فالجزاء محذوف ، وليس ببعيد كونه إشارة إلى إظهار فضيلة الصوم كما مرّت إليها الإشارة في الأخبار مطلقا من غير قيد بما نحن فيه كما هو الظاهر من المعنى الأخير الّذي هو أولى وأعمّ فكأنّ معناه إن كنتم من أهل العلم والتميز تعرفون خيريّة الصوم لكم من الإفطار ، وبالجملة لا يدلّ على خيريّة الصوم في السفر والمرض عن الإفطار كما هو المشهور في السنة الطلبة والعوامّ على طريق التخيير.

والآية دلّت على وجوب الإفطار للمريض والمسافر وكذا الأخبار بل إجماعهم أيضا على الظاهر ، وعلى وجوب القضاء عليهما أيضا ، ولكن إذا اتّصل المرض إلى رمضان آخر ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ فعموم الآية يفيد ذلك ، وذهب إليه بعض الأصحاب والمشهور عدمه لظهور الروايات الصحيحة مع عدم وجوب الفدية لتلك الروايات ويجب القضاء معها ـ وذهب إليه الصدوقان وقوّاه في الدروس وأيضا الشيخ زين الدين في شرح الشرائع ـ إذا لم يتّصل المرض إلى رمضان آخر وصحّ فيما بينهما بحيث يقدر على القضاء وترك سواء كان متهاونا أم غيره ، وهو من كان عازما وأخّر باعتقاد وسعة الوقت ، ثمّ حصل له مانع ، مثل حيض أو مرض أو سفر ضروريّ ، و

__________________

(١) إشارة إلى قراءة ابن عبّاس «وعلى الذين يطوقونه» بمعنى يكلفونه منه رحمه‌الله.

(٢) بين الحسن واللاحسن : والقبيح واللاقبيح ، عش.

١٥٣

المتهاون من لم يخطر بباله أو خطر وعزم على الترك.

وذهب الشيخ وأكثر المتأخّرين إلى وجوب الفدية على المتهاون دون غيره وأما القضاء فالظاهر أنّه إجماعيّ عندهم ، والروايات تدلّ على الأوّل ، فليس ببعيد القول به ، مثل ما رواه محمّد بن يعقوب في كتابه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : سألتهما عن رجل مرض فلم يصم حتّى أدركه رمضان آخر ، فقالا : إن كان برأ ثمّ توانى قبل أن يدركه رمضان آخر ، صام الّذي أدركه ، وتصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام على مسكين ، وعليه قضاؤه ، وإن كان لم يزل مريضا حتّى أدركه رمضان آخر صام الّذي أدركه وتصدّق عن الأوّل لكلّ يوم مدّا على مسكين ، وليس عليه قصاء ، وما رواه أيضا فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن جميل عن زرارة عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام في الرجل يمرض ويدركه شهر رمضان ويخرج عنه وهو مريض ولا يصحّ حتّى يدركه شهر رمضان آخر ، قال : يتصدّق عن الأوّل ويصوم الثاني ، وإن كان صحّ في ما بينهما ولم يصم حتّى أدركه شهر رمضان آخر صامهما جميعا ويتصدّق عن الأوّل (١).

وهذه مذكورة في الفقيه أيضا عن جميل عن زرارة إلى آخر ما نقلناه ، وزيادة (٢) وجميل هذا الظاهر ابن درّاج الثقة لأنّه هو الّذي نقل وأخذ عن زرارة وروى عنه أيضا ابن أبي عمير كما قال في كتاب النجاشيّ (٣) وطريق الفقيه إليه صحيح كما هو مذكور في كتاب الرجال ، فالخبر صحيح في الفقيه وغيره كما سمّي في كتب الفقه به مثل المحتلف وشرح الشرائع وأمّا الأوّل فالظاهر أنّه حسن لوجود عليّ بن إبراهيم بن هاشم وكذا سمّاه في المختلف والمنتهى وقال الشيخ زين الدين

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١١٩ تحت الرقم ١ و ٢.

(٢) والزيادة : ومن فاته شهر رمضان حتى يدخل الشهر الثالث من مرض فعليه أن يصوم هذا الذي دخله وتصدق عن الأول لكل يوم بمد من طعام ويقضى الثاني ، راجع الفقيه ج ٢ ص ٩٦.

(٣) رجال النجاشي : ٩٨.

١٥٤

في شرح الشرائع «لصحيحة محمّد بن مسلم وزرارة» وما وجدت في كتب الأخبار غير ما ذكرته عن محمّد بن مسلم فالظاهر [أنّه] إنّما عنى ذلك فاشتبه عليه الأمر أو تعمّد وثبت توثيقه عنده ، والظاهر أنّه يفهم توثيقه من بعض الضوابط والّذي رأيته من الأخبار المعتمدة في هذه المسئلة في الكتب الخبرين المذكورين والصحيحة المذكورة في التهذيب عن (١) الحسين بن سعيد عن فضالة كأنّه هو ابن أيّوب الثقة ، وطريق الشيخ فيه إلى الحسين صحيح [عن عبد الله بن سنان] عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال : من أفطر في شهر رمضان في عذر ثمّ أدركه رمضان آخر وهو مريض فليتصدّق بمدّ لكلّ يوم فأمّا أنا فإنّي صمت وتصدّقت.

وأمّا التفصيل الّذي ذهب إليه الشيخ في التهذيب ، والمتأخّرون من الأصحاب فدليله غير واضح إذ نقل له رواية غير ظاهرة الصحّة ، ودلالتها أيضا ضعيفة ، فالمصير إليها بعيد ، وهي (٢) رواية الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمّد عن علىّ عن أبي بصير كلّهم مشتركون بل ضعفاء غير الحسين عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال إذا مرض الرجل بين رمضان إلى رمضان ثمّ صحّ فإنّما عليه لكلّ يوم أفطر مدّا فدية طعام ، وهو مدّ لكلّ مسكين ، قال وكذلك أيضا في كفّارة الظهار مدّا مدّا ، وإن صحّ فيما بين الرمضانين ، فإنّما عليه أن يقضي الصيام ، فان تهاون به وقد صحّ فعليه الصدقة والصيام ، لكلّ يوم مدّ إذا فرغ من ذلك الرمضان. والسند علم وأمّا الدلالة فليست فيها ، إذ ما فيها تفصيل ، وليس التهاون أيضا بصريح فيما قاله يعني أخّر من غير قصد وعزم على القضاء ، بل هو مطلق الترك ولهذا ما ذكر خلافه ولو كان كذلك كان المناسب ذكر ما يقابله أي العازم ، وإنّما قابله بمن لم يفعل ولم يقض ، قال في الصحاح : الهون هو السكينة والوقار ، وتهاون به أي استحقره ، والظاهر أنّ معناه هنا كان عليه القضاء ، فان ترك القضاء ولم يفعله مطلقا كما هو

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤٢٣.

(٢) الاستبصار ج ٢ ص ١١١ التهذيب ج ١ ص ٤٢٣ ومثله في تفسير العياشي ج ١ ص ٧٩.

١٥٥

موافق لغيره من الأخبار المعتمدة الّتي ذكرناها ، وغيرها ممّا لم نذكر ، وقول الشيخ زين الدين قدس‌سره في شرح الشرائع : ودلّت عليه ـ مشيرا إلى ما ذكرناه ـ الأخبار الصحيحة كصحيحة محمّد بن مسلم وزرارة وغيرهما يدلّ على وجود الصحيح أكثر ممّا نقلناه ، وما عرفنا ذلك ، وقد عرفت من هذه الأحبار أنّ الواجب هو المدّ أيضا كما هو مذهب الأكثر ، ولو كان للأقلّ (١) دليل على المدّين ، فحمله على الاستحباب غير بعيد وكذا استحباب القضاء ، لمن اتّصل مرضه إلى رمضان آخر وكذا التتابع في القضاء لما مرّ ولصحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال إذا كان على الرجل شيء من رمضان فليقض في أيّ شهر شاء أيّاما متتابعة فان لم يستطع فليقضه كيف شاء ، وليحص الأيّام ، فإن فرّق فحسن وإن تابع فحسن ، المذكورة في الفقيه وهي في الكافي حسنة (٢) وحسنة عبد الله أي عبد الله سنان أيضا وسمّاها في شرح الإرشاد صحيحة ، وليس بواضح لأنّ إبراهيم بن هاشم في الطريق على ما في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير (٣) عن حمّاد أظنّه ابن عيسى عن الحلبيّ عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله سنان عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال من أفطر شيئا من شهر رمضان في عذر فان قضاء متتابعا فهو أفضل ، وإن قضاه متفرّقا فحسن لا بأس به ، فعلى تقدير وجود خبر دالّ على التفرّق كلا أو بعضا يحمل على التخيير ، وكذا الاختصار للمسافر على القدر القليل من الأكل والشرب وترك الجماع للأخبار ، والجمع والخروج عن

__________________

(١) يعنى الأقل من الأصحاب.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٩٥ ، الكافي ج ٤ ص ١٢١.

(٣) الكافي ج ٤ ص ١٢٠ ، ولكن نقل عن المنتقى أنه قال ، اتفق في الطريق غلط واضح في جميع ما عندي من نسخ الكافي ، والذي يقوى في خاطري أن ما بين قوله [عن أبيه] وقوله [عن عبد الله بن المغيرة] مزيد سهوا من الطرق الأخر ، ولم يتيسر له أن يصحح ويحتمل أن يكون الغلط بإسقاط واو العطف من قوله «وعن عبد الله بن المغيرة» فيكون الاسناد مشتملا على طريقين للخبر يرويه بهما إبراهيم بن هاشم ولا يخلو من بعد بالنظر إلى المعهود في مثله : راجع مرآت العقول شرح الكافي للعلامة المجلسي رحمه‌الله عليه.

١٥٦

الخلاف ، وكذا للمريض ترك الزيادة على ما يستضرّ بتركه للعلّة المفهومة من الآية ، والأخبار ، سيّما الخبر الّذي يدلّ على اجتناب الجماع للمسافر ، وترك زيادة الأكل والشرب ، وأيضا لا يبعد إلحاق المسافر في بعض الأحكام المذكورة بالمريض.

ثمّ إنّ الله تعالى أردف وجوب الصوم وأكّده وبيّن تلك الأيّام بقوله تعالى أعني الآية الثالثة ـ

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

الشهر معروف وهو ما بين الهلالين أو ثلاثين يوما ورمضان مصدر رمض بمعنى الحرّ والشدّة فنقل إلى الشهر ، وجعل الشهر مضافا إليه ، فصار المجموع علما وهو غير منصرف للألف والنون مع التعريف كذا في الكشّاف وتفسير القاضي وفيه تأمّل ، إذ المجموع هو المعرفة والعلم لا المضاف إليه فقطّ وقيل هو أيضا علم فكانا له علمين مركّب ومفرد ، فلا يحتاج إلى الجواب بحذف المضاف من العلم فإنّه خلاف الأصل ، وبعيد عن الطبع والاستعمال في مثل ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من صام رمضان إيمانا واحتسابا الحديث (٢) ومن أدرك رمضان ولم يغفر له الخبر (٣)

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) تمامه : غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، والحديث أخرجه في المستدرك ج ١ ص ٥٧٠ عن دعائم الإسلام والسيوطي في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج ٣ ص ٣٦٦.

(٣) تمامه : ففي أي شهر يعفر له ، راجع الوسائل الباب ١ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٤.

١٥٧

ولا يبعد أن يحمل مثل هذه على الجواز والبيان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي ورد في البعض من المنع عنه بأنكم لا تقولوا رمضان فإنّكم ما تدرون ما هو؟ بل قولوا شهر رمضان بحملها على الكراهة لو ثبت الصحّة إذا لم يكن غرض صحيح أو لمن لم يعرف مطلقا وقيل في وجه التسمية إنّه إنّما سمّي الشهر بذلك لارتماض الناس واحتراقهم في حرّ الجوع والعطش بصومه ، أو لارتماض الذنوب فيه به ، وهما مبنيّان على وجود الصوم في هذا الشهر حين التسمية ، وهو غير معلوم.

في الكشّاف إنّ الصوم عبادة قديمة وكأنّهم سمّوه لارتماضهم إلخ أو لوقوع التسمية لهذا الشهر في رمض الهواء بالشمس أي حرارته. والإرادة ظاهرة أي طلب المراد ، واليسر والعسر متضادّ ان معلومان أي اللّين والصلابة والتكميل والإكمال الإتمام ، و «شهر» رفعه إمّا بأنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي هي يعني الأيّام المعدودة الّتي فرض صومها شهر رمضان ، وكونه بدلا عن الصيام كما قيل في تفسير البيضاوي بعيد لحذف المضاف ووجود الفصل الكثير ، ولزوم كونه مكتوبا على الّذين من قبلنا أيضا وهو غير معلوم أو مبتدأ خبره الّذي أنزل أو هو صفة و «فمن شهد» خبره ، ولوصفه بما تضمّن معنى الشرط صحّ الفاء في الخبر «وهدى وبيّنات» حالان عن القرآن و «من» بيانيّة و «الفرقان» عطف على الهدى أي هو آيات واضحات ممّا يهدي إلى الحقّ ويفرّق بينه وبين الباطل ، وإعراب «فمن» إلخ ظاهر.

و «لتكملوا» يحتمل عطفه على ما يستفاد ممّا سبقه أي أسقط الصوم عن المريض والمسافر ، وأوجب في أيّام أخر لإرادة التيسير ، وعدم إرادة التعسير ، وللتكميل. أو يكون التقدير : وشرع ذلك للتكميل. وحذف للظهور ، ويحتمل أيضا أن يكون معطوفة على اليسر أي يريد أن تكملوا ، قالهما في تفسير القاضي والكشّاف وفي الثاني الأوّل أوجه ، ولعلّ حاصل التفسير : فرض وأوجب عليكم صيام الشهر الشريف الّذي أنزل الله فيه القرآن العزيز الّذي هو هاد للنّاس من الضلال إلى الهدي ، ومبيّن الحلال والحرام ، والفارق لهم بين الحقّ والباطل ، بمعنى كون ابتداء النزول وقع فيه أو إنزاله إلى السماء الدنيا كلّه كان فيه ، ثمّ ينزل بالتدريج على مقدار

١٥٨

المصلحة أو أنّه نزل في شأنه بعض القرآن ، أي وصفه وبيان رتبته بأنّ فيه ليلة [هي] خير من ألف شهر.

ثمّ بيّن كيفيّة وجوب هذا الصوم بأنّه على من يجب وفي أيّ وقت؟ كما سنذكره في الآية اللّاحقة ، فقال (فَمَنْ شَهِدَ) أي حصّر في موضع في هذا الشهر غير مسافر بل ولا مريض أيضا ، فالشهر مفعول فيه كما صرّح به في تفسير القاضي والكشّاف ومجمع البيان ، فالشهود هو الحضور في البلد وكأنّ المراد مع القدرة على الصوم فهي الصحّة الّتي يفهم من إيجاب الصوم وفهم من الأولى أيضا. فلا يكون (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) بمنزلة الاستثناء والتخصيص فإنّه خلاف الظاهر من العبارة وسوقها ، ولهذا ما ذكر فيها ، وكانّ المراد أعمّ من الحضور في بعضه أو كلّه (فَلْيَصُمْهُ) أي يجب عليكم الصيام في الّذي كنتم حاضرين وقادرين فيه على الصوم من الشهر ـ فنصب ضمير (فَلْيَصُمْهُ) وإن كان الظاهر على أنّه مفعول به ، إلّا أنّه في الحقيقة على الظرفيّة وحذف الخافض وأوصل الفعل ـ وذلك لأنّ الله تعالى يريد ويحبّ لكم أمرا هيّنا غير شاقّ وصلب وحرج وضيق في جميع أموركم ، ولا يريد ضدّ ذلك ، بل يريد عدمه ، فإنّ إرادة الشيء مستلزم لعدم إرادة ضدّه بل ادّعي العينيّة وأكّده مع ذلك بقوله (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) المنفيّ بالأوّل فيفهم منه كمال المبالغة لإرادة اليسر وعدم العسر.

فأشار مرّة إلى عدم مرغوبيّة صوم المسافر لتقييد وجوبه بالحضر ، ثمّ التصريح بصوم عوضه بعد زواله ، ثمّ ببيان العلّة له مع نفي ضدّها اللّازم لإرادة اليسر ، ثمّ التصريح بعدم إرادة العسر ، ثمّ بالعلل الأخر مثل التكبير والشكر على تشريع اليسر دون العسر كما هو المنقول عن الأمم السابقة ، فيحتمل أن يكون قوله (وَلِتُكْمِلُوا) علّة الأمر بمراعاة العدّة أي إنّما أمرتكم بقضاء الشهر لتكملوا عدّته (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علّة لتعليم كيفيّة القضاء للمسافر بعد السّفر وللمريض بعد المرض (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علّة اليسر وإسقاط الصوم ففيها لفّ ونشر ، ويحتمل أن يكون كلّ واحد علّة لكلّ واحد ، بل الظاهر أنّ (لِتُكْمِلُوا) علّة القضاء ، ولتكبّروا

١٥٩

بمعنى لتعظّموا الله وتحمدوه على هدايتكم أو على الّذي هداكم إليه من العبادات والعلم بكيفيّة العمل ، فما إمّا مصدريّة أو موصولة ، وقيل المراد به التكبير في عيد الفطر أو التكبير عند رؤية الهلال وكلاهما بعيد ، سيّما الأخير لعدم الفهم وبعد العلّيّة.

فالحكم الّذي يستفاد منها وجوب صوم شهر رمضان بعد حصوله من الآية الأولى إجمالا وكذا وجوب الإفطار على المسافر والمريض لما مرّ تحريره ، وفهم أيضا من بيان اهتمام الواجب تعالى بذلك حيث أكّده بتأكيدات شتّى كما عرفت ووجوب القضاء عليهما ، ونفي المشقّة والحرج والضيق عن العباد في كلّ الأمور إلّا مشقّة علم وجوب تحمّلها لمصلحة يعلمها الله ، وعدم مشروعيّة عبادة شاقّة من عند نفسه كما يدلّ عليه غيرها من الآيات والأخبار ، فتكون الشريعة سمحة سهلة فكأنّما ذكرت هذه الآية لتأكيد وجوب الإفطار على المسافر والمريض ، ليندفع وهم عدم جواز ذلك ، بل عدم وجوبه أيضا ولبيان أنّ الواجب في الآية الاولى هو صوم أيّام شهر رمضان أو أنّ اليسر مطلوب والعسر منفيّ وإلّا فعلم وجوب الصوم من الاولى وعدمه عليهما.

ولا يبعد أيضا الاستدلال على جواز السفر في شهر رمضان من غير ضرورة بهذه الآية وما قبلها ، حيث فهم أنّ المسافر مطلقا يجب عليه الإفطار والقضاء كما مرّ ولو كان السفر غير جائز لما كان كذلك بل كان الواجب عليه الصوم ، ويحرم الإفطار ، ولا يجب القضاء ، بل يجزئ ما صامه في السفر ، ولأنّ هذه الآية تدلّ على نفي العسر وطلب اليسر ، ولا شكّ أنّ منعه من السفر لما ينتفع به لدينه أو دنياه عسر ، وليس بيسر.

ويدلّ عليه بعض الأخبار الصحيحة الصريحة مثل ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح (١) عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار عليه صيام ذلك اليوم ويعتدّ به [من شهر رمضان]. وكذا

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٣١ ، الفقيه ج ٢ ص ٩٢ ، التهذيب ج ١ ص ٤١٧.

١٦٠