زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

وغيره بل بنى على الظاهر فقبل التيمّم ولا كلّف في التيمّم أيضا بأن يوصل الأرض إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمّم أيضا وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل يكفي مجرّد وجه الأرض ، وهو مقتضى الشريعة السمحة.

(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي من الذنوب فإنّ العبادة مثل الوضوء كفّارة للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة عليكم فيطهّركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب ، فالآية تدلّ على أنّ التيمّم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء ، ويؤيّده ما في الأخبار ويكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين وربّ الماء وربّ التراب واحد (١) فيبعد منع إباحة التيمّم ما يبيحه الماء ، وأنه يجب لما يجب له.

ثمّ إنّه يزول التيمّم بزوال المانع لأنّه لا يرفع الحدث بالكلّية نعم يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة فإنّه مجرّد حكم الشارع فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظيّ فتأمّل. واللّام للعلّة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة وليجعل وليطهّركم مفعول ، والتقدير لأنّ يجعل عليكم ولأن يطهّركم وليس فيه قصور وضعف : لأنّ «أن» لا تقدّر بعد اللّام المزيدة كما قاله البيضاويّ. لأنّ الشيخ المحقّق الرضىّ قدس‌سره قال في شرح الكافية : وكذا اللّام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه ، وكذا اللّام المقدّر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) على أنّه قال البيضاويّ أيضا في تفسير قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أنّ يبيّن مفعول يريد ، واللّام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة ، وهل هذا إلّا تناقض.

(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ) أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومكفّر لذنوبكم في الدين ، أو ليتمّ برخصه إنعامه (عَلَيْكُمْ) بعزائمه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته ثمّ أمر

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ص ٦٣ ، التهذيب ج ١ ص ١٩٥.

٢١

الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الّذي عاهدتم به بقوله (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوّامين لله شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك ، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج عن الشرع بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قال البيضاويّ في (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) إذا كان هذا مع الكفّار فما ظنّك بالعدل مع المؤمنين؟ ثمّ أمر بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

ثمّ اعلم أنّ في حكاية ابني آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام إشارة إلى أنّ التقوى شرط لقبول العمل (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) صفة مصدر محذوف أي أتل واقرأ تلاوة متلبّسة بالحقّ أو حال من ضمير «أتل» أو من نبإ (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ظرف بناء ، أو حال منه ، والقربان اسم لما يتقرّب به إلى الله من ذبيحة وغيرها كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثنّ مع أنّ المراد منه اثنان ، وقيل تقديره إذ قرّب كلّ واحد منهما قربانا فلا يحتاج إلى التثنية (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ) قابيل (لَأَقْتُلَنَّكَ) وعده بالقتل بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه ، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده له (قالَ) أخوه هابيل (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي إنّما أصابك ما أصابك من عدم القبول عند الله من قبل نفسك ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ فأقتل نفسك لا نفسي ، وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون الذنب له لا للمحسود ، فلا بدّ أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسودا ومحظوظا لا في إزالة حظّ المحسود فانّ ذلك يضرّه ولا ينفع الحاسد ، بل يضرّه وهو ظاهر. وفيه دلالة على أنّ القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.

قال البيضاويّ : وفيه إشارة إلى أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق وفيه إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فانّ الفسق لا يمنع من صحّة عبادة إذا فعلت على

٢٢

وجهها ، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة إلّا من المتّقين فيها بأن يأتي بها بحيث لا يكون عصيانا مثل أن يقصد بها الرئاء أو غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه وهو موجب للفساد ، وبالجملة يشترط في قبولها عدم كونها معصية ولا مستلزما لها ، الله يعلم (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) قال في الكشّاف : كان هابيل أقوى من قابيل ، ولكنّه تحرّج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأنّ الدفع لم يبح بعد أو تحرّيا لما هو الأفضل ، قال عليه الصلاة والسلام : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر ، وكذا كونه مباحا فانّ وجوب حفظ النفس عقليّ ولا يمكن إباحة التسليم الّذي هو ينافيه بل هو قتل النفس والآية لا تدلّ على التسليم ، فإنّه قال (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) فإنّه يدلّ على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضا وهو ظاهر ويمكن فهم وجوب الدّفن من آخر الآية (١) فافهم.

الثانية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٢).

أي لا تصلّوا أيّها المؤمنون ، والمخاطبون هم الّذين يعلمون ما يقولون من السكارى وليس كلّ سكران لا يعقل فيصحّ تكليفهم ونهيهم عن الصلاة حين علموا

__________________

(١) يعنى قوله تعالى (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) والآيات في سورة المائدة : ٢٧ ـ ٣١.

(٢) النساء : ٤٢.

٢٣

أن يشرعوا في الصلاة لا الّذين لا يعلمون ما يقولون بزوال عقلهم فتأمّل.

(وَأَنْتُمْ سُكارى) من الشراب ونحوه بحيث إذا دخلتم في الصلاة ما تعرفون ولا تعلمون ما تقولون (حَتَّى تَعْلَمُوا) لأنّ الصلاة مع زوال العقل لا تصحّ وهو ظاهر ، ولهذا أوجب الفقهاء القضاء على السكران ، وجملة (وَأَنْتُمْ سُكارى) حال عن فاعل (لا تَقْرَبُوا) ،. (وَلا جُنُباً) عطف عليها أي لا تقربوا الصلاة جنبا وهو من وجد منه الجنابة ولم يغتسل مذكّرا أو مؤنثا واحدا أو أكثر (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) إلّا المسافرين منكم فإنّه تجوز صلاته جنبا لكن بالتيمّم مع تعذّر الغسل كما سيجيء.

وقيد العبور لأغلبية الاحتياج إلى التيمّم في السفر ، وقيل المراد لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم سكارى ولا أنتم جنب إلّا أن تكونوا عابرين فيها بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من آخر ، وقال في مجمع البيان وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) ويؤيّده عدم الاحتياج إلى قيده بالتيمّم وجعل في مجمع البيان ذكر كون الصلاة مع التيمّم بعده مؤيّدا وكأنّه يريد لزوم التكرار وهو غير لازم ، والقول بتحريم دخول السكران المسجد غير معلوم إلّا أن يكون للصّلاة فيرجع إلى تحريمها حينئذ ، وحذف المضاف تكلّف وعموم المساجد غير جيّد لعدم جواز العبور في المسجدين وأنّ تتمّة الآية أحكام الصلاة ، فلو لم يكن المراد الدخول فيها لم يفهم ذلك.

فالظاهر أنّ المراد بصدر الآية الدخول في الصلاة وإن أمكن جعل جنبا باعتبار المساجد بارتكاب تقدير ، ويحتمل أن يكون المنهيّ القرب إلى الصلاة مطلقا ومجملا : بالنسبة إلى السكران فعلها ، وبالنسبة إلى الجنب الدخول إلى مواضعها ويكون ذلك معلوما بالبيان ولا يخلو عن بعد والأوّل أبعد هذا كلّه على تقدير عدم صحّة الرواية وأمّا على تقديرها فالقول بمضمونها متعيّن وفي الآية دلالة ما على عدم خروج المؤمن عن الايمان بشرب الخمر فتأمّل فيه وعلى تحريم دخول شارب الخمر الّذي يعقل إذا علم عدم عقله بعد الدخول في الصلاة أو في المساجد

__________________

(١) ومثله في تفسير العياشي ج ١ ص ٢٤٣.

٢٤

أو فيهما ويحتمل كون كلّ مزيل للعقل كذلك وفيها الإشارة إلى أنّ القلب لا بدّ أن لا يكون غافلا حال الصلاة ولا مشغولا بغير ما يتعلّق بها وكذا على تحريم دخول الجنب فيها أو في المسجد إلّا المتيمّم المسافر أو العابر فيه وعدم حصول رفع الحدث بالتيمّم.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) يعني ولا يقربها الجنب حتّى يغتسل فلا بدّ من الغسل للصّلاة ، إن تمكّن منه ، فان

لم يتمكّن منه لمرض يضرّ معه الغسل ضررا يعدّ ذلك ضررا عرفا فيتيمّم لها ولعلّ القيد للإجماع والخبر وإلّا ظاهر الآية تجويز التيمّم للمرض مطلقا أو لسفر لا يكون فيه الماء بوجه.

فتقدير الآية : يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون على استعمال الماء أو مسافرين كذلك محتاجين إلى التطهير مطلقا محدثين محدث أصغر أو أكبر فتيمّموا! وأشار إلى مطلق المحدث بالحدث الأصغر بقوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي المواضع الّتي يغاط فيها فهو كناية عن الحدث الأصغر ولكن في إدخال الكلّ فيه تأمّل ، فإنّ الظاهر أنّه مخصوص بالغائط أو كناية عمّا يخرج عن السبيلين البول والغائط والريح أيضا كما أنّ (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كناية عن الجماع الموجب للغسل وقد فسّر به في الروايات (١) وهو مذهب الأصحاب وأبي حنيفة كالمباشرة في الصوم والاعتكاف ، ويحتمل كونه كناية عن مطلق موجب الغسل لكنّه بعيد سيّما المسّ (٢) و (فَلَمْ تَجِدُوا) عطف على (أَوْ جاءَ) قيدا للمرض والسفر والفاء إشارة إلى أنّ عدم الوجدان ينبغي أن يكون بعد الحدث فالقبل لا يكفي ، وعلى تقدير تخصيص الغائط واللّمس (٣) كما هو الظاهر يكون كون باقي الموجبات مثل الدماء الثلاثة وخروج المنيّ بغير جماع ومسّ الميت وزوال العقل بالنوم والسكر ونحوه حدثا مفهوما من غير الكتاب من السنّة والإجماع.

__________________

(١) الوسائل الباب التاسع من أبواب نواقض الوضوء الحديث الرابع ، وهكذا تفسير العياشي ج ١ : ٢٤٣.

(٢) يعنى مس الميت.

(٣) الأول بما يخرج من أحد السبيلين والثاني بالجماع.

٢٥

والمعنى : إن كنتم مرضى أو على سفر ، وجاء أحد منكم ، فيكون أو بمعنى الواو كما مرّ (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) أي لم تقدروا على استعمال الماء بوجه إمّا لعدمه أو لعدم القدرة على استعماله للتضرّر به أو لعدم تحصيله وحينئذ يكون حكم عدم القدرة على استعمال الماء بغير سفر ومرض مفهوما من غير الآية أو من سوقها للإشعار في قوله : فلم تجدوا ماء.

ثمّ الخلاف في كيفيّة التيمّم كثير والمشهور عند أصحابنا النيّة مقارنة لضرب اليدين على الأرض ضربة للوجه فيمسحه باليدين من قصاص شعر الرأس إلى طرف الأنف الأعلى ، وضربة لليدين فيمسح ببطن كلّ واحدة ظهر الأخرى من الزند إلى أطراف الأصابع إن كان بدلا عن الغسل. وإن كان بدلا عن الوضوء فضرب واحد ، ودليله غير ظاهر ، وقيل ضربة واحدة فيهما والآية تدلّ عليه فافهم وكذا الأخبار الصحيحة (١) وقيل ضربتان فيهما لبعض الأخبار ولا يبعد كون الضرب فيهما واحدا والتخيير أو استحباب الثانية جمعا بين الأدلّة والظاهر أنّهما أحوط وتفصيل باقي الأحكام معلوم من محلّه والمشهور كون الضرب أوّل الأفعال ويمكن فهم كونه المسح من الآية فافهم والأحوط أن ينوي عند الضرب والمسح وكذا الموالاة في الجملة ولا بدّ من كون التيمّم بالصّعيد ، وهو مطلق الأرض ولا يشترط التّراب فيصحّ بالحجر الأملس وهو الأظهر من مذهب الأصحاب ومذهب أبي حنيفة ويؤيّده اللّغة وقوله تعالى (صَعِيداً زَلَقاً) (٢) ولا ينافيه ما في سورة المائدة من قوله (مِنْهُ) : لأنّه يدلّ على كون المسح بالوجه واليد ببعض الأرض فلا بدّ أن يكون شيئا ملصوقا باليد ومن للتبعيض لأنّه يجوز كونها لابتداء الغاية لا للتبعيض هكذا قال في الكشاف وغيره ، ويجوز كونها للتبعيض مع عدم لزوم لصوق شيء لما مرّ ويؤيّده إهمالها هنا لأنّه لو كان المراد وجوب اللصوق ما كان ينبغي تركها ، ولهذا لا يعتبر اللّصوق في اليد لمسح اليد أيضا فتأمّل.

__________________

(١) الوسائل أبواب التيمم الباب الثاني عشر.

(٢) الكهف : ٤٠.

٢٦

وأيضا في الأخبار ما يدلّ على أنّ المراد بالصعيد مطلق الأرض ويجوز التيمّم بالحجر ، والمراد بالطيّب كأنّه الطاهر ، ويحتمل المباح أيضا ، ففي الآية دلالة على كون الغائط ونحوه حدثا أصغر موجبا للطهارة أي الوضوء والتيمّم ، وعدم اشتراط حصول المنيّ في الجنابة فيكفي غيبوبة الحشفة لصدق الملامسة الّتي هي الجماع ، وخرج ما دون غيبوبة الحشفة بالإجماع والخبر ، وعلى كون الجماع حدثا أكبر موجبا للغسل والتيمّم ، وعدم احتياج الوضوء في غسل الجنابة ، ودلالة الآية السابقة عليه أظهر ، ووجوب التيمّم بالصّعيد للعذر ونفي غيره بالأصل ، وعدم الدليل ، وعلى كونه مبيحا واعتبار المسح باليدين والوجه عرفا ويشعر بأنّ المسح أوّل أفعال التيمّم إلّا أن يريد بالتيمّم بالصعيد الضرب باليد عليه ، وعلى كون التيمّم البدل عن الوضوء والغسل واحدا فيكفي ضربة واحدة فيهما وعلى بطلان صلاة السكران للنهي فيجب القضاء لأنّها فائتة.

ولا يبعد فهم عموم بدليّة التيمّم عن الوضوء والغسل وعموم إباحة ما يبيح بهما به ، ومنع فخر المحقّقين من جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمّم لأنّه جنب ولا يجوز دخوله في المسجد إلّا عابرا لهذه الآية ، وليس الدخول للطواف عبورا ، بعيد لعدم الفرق بين العبادات وأيضا يلزم المحذور إمّا عدم وجوب الطواف عليه ، أو عدم تحلّله حتّى يتمكّن من الغسل وهو حرج منع بالعقل والنقل وللأخبار الكثيرة جدّا بأنّه أحد الطهورين وأنّه يكفي عشر سنين إشارة إلى دوامه وأنّ ربّ الماء وربّ التراب واحد (١) وغير ذلك والكلّ صريح في العموم وظاهر هذه الآية يشعر به ولا تدلّ على ما ذكره لبعد تقدير مواضع الصّلاة لما مرّ ، وأنّ الأولى كون المعنى ولا يقرب الجنب الصّلاة إلّا حال السفر كما تقدّم وأنّ المراد على تقدير مواضع الصّلاة بلا تيمّم يعني لا يجوز دخول الجنب بغير طهور ولو بالتيمّم المسجد إلّا عابرا مع التيمّم وهو ظاهر ، وحينئذ ما يفهم كون المتيمّم جنبا ولا عدم

__________________

(١) التهذيب ج ص ١ ١٩٥ ، الكافي ج ٣ ص ٦٣.

٢٧

[جواز] دخوله المسجد فبقي ما ذكرناه من الأدلّة سالما عن المعارض فتأمل.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) أي كثير الصّفح والتجاوز كثير المغفرة والستر على ذنوب عباده.

الثالثة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) (١).

لعلّ المأمورين هم الأناس المكلّفون أو الكفّار فقط ، وهو أظهر بحسب اللفظ والأوّل بحسب المعنى «مخلصين» حال عنهم «والدّين» مفعوله «وحنفاء» حال آخر و «يقيموا ويؤتوا» عطف على «يعبدوا» أي أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين له ما يوجب الدّين أي الجزاء والأجر وهي العبادة ولا يعبدوا غيره ولا يشركوه في عبادة الله ، وفيها إشارة إلى أنّ الرئاء شرك فتأمّل (حُنَفاءَ) أي مائلين عن الطريق الباطل إلى طريق الصواب والحقّ فهو تأكيد لحصر العبادة في الله المفهوم من قوله «إلّا» بعد تأكيده بالإخلاص ، وعطف يقيموا ويؤتوا يدلّ على زيادة الاهتمام بشأن الصّلاة والزكاة.

واستدلّ بها على وجوب النيّة في العبادات كلّها حتّى الطهارات مائيّة وترابيّة ، وفي الدلالة تأمل ظاهر ، خصوصا على ما فسّر البيضاوي وما أمروا أي الكفّار في كتبهم ، نعم يمكن الاستدلال بها على إيقاع ما ثبت كونها عبادة شرعيّة على وجه الإخلاص لا غير ، وأمّا النيّة على الوجه الّذي ذكرها الأصحاب فلا ، وهم أعرف ويدلّ أيضا على وجوب التعبّد وهو واضح ، والدليل عليه كثير ، بل لا يحتاج إلى الدّليل ويؤكّده (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الملّة المستقيمة الحقّة ويحتمل كون المراد بالدّين التعبّد أي إيقاع العبادة مخلصا وإقامة الصّلوة وإيتاء الزكاة هو التعبّد بالملّة المستقيمة وهي شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وكون الإضافة بيانيّة وتقدير الملّة الّذي فعله المفسّرون لإظهار موصوف القيّمة فإنّها صفة ، وأمّا ما قاله في مجمع

__________________

(١) البينة : ٥.

٢٨

البيان : تقديره دين الملّة القيّمة لأنّه إذا لم يقدّر ذلك كان إضافة للشيء إلى صفته ، وذلك غير جائز لأنّه بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه ، فغير واضح ، لأنّ الكوفيّين يجوّزونها والّذين لم يجوّزوها إنّما لم يجوّزوها مع إفادة معنى الصفتيّة لا مطلقا وهو مصرّح ، ولهذا يجوز الإضافة البيانيّة بالاتّفاق وعلى تقدير العدم ، فالفرق بين إضافته إلى الملّة والقيّمة غير واضح ، خصوصا مع القول بكون الصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد فافهم والقائل به أعرف.

وقريب منه قوله (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) أي أمر ربّك أمرا مقطوعا به أي حكم وقال : لا تعبدوا إلّا إيّاه ، أي يجب أن تعبدوا الله وحده ولا تعبدوا غيره فتجب العبادة لله وتحرم لغيره ، فتدلّ على الإخلاص فافهم ، أو حكم بأن لا تعبدوا فعلى الأوّل أن مفسّرة وعلى الثاني صلة ، مع حذف الباء عنها ، وهو قياس مطّرد عندهم.

الرابعة (إِنَّهُ) أي المنزل (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٢) صفة أي قرآن حسن مرضيّ أو كثير النفع (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) صفة بعد أخرى أو خبر بعد خبر أي مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) صفة لقرآن أو كتاب أو خبر إنّ.

قيل : تدلّ على عدم جواز مسّ القرآن للمحدث مطلقا وهو موقوف على كونه خبرا بمعنى النهي وكونه صفة لقرآن أو خبر إنّ بتقدير مقول فيه لا يمسّه إلّا المطهّرون ورجوع ضمير لا يمسّه إلى القرآن أو إلى المنزل. والرجوع إلى كتاب مكنون وكونه صفة له محتمل واضح مذكور في الكشّاف ويكون المراد حينئذ بالمطهّرون الملائكة المطهّرون من الذنوب مع بقائه بمعناه الخبريّ وجواز كونه صفة لقرآن وخبر إنّ باعتبار ما كان ، والأصل يؤيّده وليس ههنا إجماع ولا خبر صريح صحيح والاحتياط واضح.

الخامسة (فِيهِ) أي في مسجد قبا (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (٣) وفي سبب النزول دلالة على استحباب الجمع بين الأحجار والماء

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) الواقعة : ٧٦.

(٣) براءة : ١٠٩.

٢٩

في الاستنجاء والمبالغة في الاجتناب عن النجاسات وأنّ العلم لا يحتاج [إليه] ظ للعمل في مثل ذلك فتأمّل.

قيل لمّا نزلت قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر الأنصار ما الّذي صنعتم فقد نزلت فيكم؟ فخافوا أن نزلت فيهم ما يسوؤهم بفعلهم ذلك ، فقالوا : نتبع الأحجار الماء ، فتلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) إلخ [وقال :] فقد أثنى عليكم (١) فطابت نفوسهم على محبّتهم وحرصهم على التطهير من النجاسات كحرص المحبّ على المحبوب ومحبّة الله إيّاهم أنّه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحبّ بمحبوبه ، وهي تشعر بالمدح على فعل مقدّمات العبادات.

وتدلّ على حصول الأجر ، بالسعي في عمل الخير من المقدّمات القريبة والبعيدة ، حتّى الخطوات في تحصيل الحجّ وغير ذلك مع بعض الأخبار قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي المسلمين المجاهدين (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) أي كتب لهم ذلك العمل من الإنفاق وقطع الوادي ، أو كتب لهم به عمل صالح فيدلّ على استحباب ما يتوقّف عليه المستحبّ ، بل على وجوب ما يتوقّف عليه الواجب فتأمّل (٣).

السادسة : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (٤)

__________________

(١) راجع تفسير العياشي ج ٢ ص ١١١ و ١١٢ ، الوسائل أبواب أحكام الخلوة الحديث الأول من الباب ٣٤ ، تفسير البيضاوي ص ١٨٠ ط إيران.

(٢) براءة : ١٢٠.

(٣) قيل : لانه يمكن ان يقال الذي يفهم من ظاهر الآية المدح على ارتكاب الاولى والأحسن ـ وذلك لا يدل على الوجوب.

(٤) الأنفال : ١.

٣٠

فيها دلالة على كون الماء طاهرا ومطهّرا ويتطهّر به ويرفع حدث الجنابة به وأنّ الاحتلام من الشيطان ، ويحتمل أن يراد من رجز الشيطان المنيّ ، ويدلّ على نجاسته فتأمّل فيه قال في الكشّاف رجز الشيطان ورجسه تخييله ووسوسته إليهم وتخويفه إيّاهم من العطش ، وقيل الجنابة ، وذلك أنّ إبليس تمثّل لهم وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء ، وناموا فاحتلم أكثرهم ، فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمّد اتزعمون أنّكم على الحقّ ، وإنّكم تصلّون على غير الوضوء وعلى الجنابة ، وقد عطشتم ، ولو كنتم على الحقّ ما سبق عليكم هؤلاء على الماء ، وما ينتظرون بكم إلّا أن يجهدكم العطش ، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبّوا وساقوا بقيّتكم إلى مكّة ، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا ، فأنزل الله مطرا فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي ، واتّخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الحياض على عدوة الوادي ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا وتوضّؤا وتلبّد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتّى ثبتت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس.

ويؤيّد هذه الآية آيات أخر مثل قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (١) وهي تدلّ على إباحة الماء وجواز التصرّف فيه أيّ تصرّف كان ، حتّى يثبت المانع.

وقريب منه قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢).

فيه دلالة على إباحة الماء والنخل والعنب والزيتون وفي قوله تعالى (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) دلالة على الانتفاع بالأنعام مثل الإبل والبقر : يحلّ

__________________

(١) الفرقان : ٥٠.

(٢) المؤمنون : ١٨ ـ ١٩ وما بعدها ذيلها.

٣١

أكلها وسائر الانتفاعات وكذا الجلوس في السفينة.

ويدلّ عليه أيضا (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (١) وتدلّ على رجحان قول ذلك بعد الجلوس في الفلك. وقوله (مُنْزَلاً) إمّا اسم مكان محلّ النزول ، أو مصدر ميميّ أي إنزالا مباركا كثير الخير والبركة ، والظاهر استحبابه في مطلق المنزل ، كما ورد به الرواية (٢).

ويستحبّ بعد ركوب الدابّة تلاوة قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٣) وقوله تعالى (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

السابعة : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٤).

قيل : كانوا في الجاهلية يمتنعون عن مؤاكلة الحيّض ومشاربتهنّ ومجالستهنّ فسألوا عن ذلك فنزلت ، والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت يعني يسألونك يا محمّد عن الحيض وأحكامه قل يا محمّد إنّه أذى ، أي قذر ونجس وموذ لمن يقربه ، للنفرة منه (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي مجامعتهنّ في الفرج زمان الحيض ، وهو عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد ومحمّد رفيق أبي يوسف وهو مذهب أكثر أصحابنا ، ويدلّ عليه أنّه المتبادر من اعتزالهنّ ، إذ المقصود من معاشرتهنّ

__________________

(١) المؤمنون : ٢٨

(٢) فقيه من لا يحضره الفقيه الباب ١٠١ راجع ج ٢ ص ١٩٥.

(٣) الزخرف : ١٣.

(٤) البقرة : ٢٢٢.

٣٢

هو الجماع في الفرج ، والأصل (١) والاستصحاب وبعض الروايات والشهرة والكثرة ، وسهولة الجمع بينها وبين ما ينافيها (٢) بالحمل على الاستحباب ، والامتناع عن مطلق الدخول ، بل مطلق الانتفاع منهنّ حينئذ حسن ، وعدم المقاربة بالتعانق والتقبيل أحوط.

وقيل : اجتنبوا عمّا تحت الإزار فيحلّ ما فوقه وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وكونه مذهبا للشافعيّ أيضا كما قاله في مجمع البيان غير ظاهر مع أنّه نقل عن الشافعيّ أنّه قال اجتنبوا مجامعتهنّ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أمرتم أن تجتنبوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهنّ عن البيوت كفعل الأعاجم. ولم يسنده أيضا في الكشّاف إلّا إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ونقل عن عائشة أنّها قالت تجتنب شعار الدم (٣) وله ما سوى ذلك وأنت تعلم عدم فهم هذا المعنى من الآية فالحمل عليه بعيد موجب للإجمال الّذي هو منفيّ عن القرآن العزيز إلّا عند الضرورة ، وليس له دليل إلّا ما نقل محمّد صاحب أبي يوسف عن عائشة أنّ عبد الله بن عمر سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت تشدّ إزارها على سفلتها ثمّ ليباشرها إن شاء ، وما روى زيد بن أسلم أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال لتشدّ عليها إزارها ثمّ شأنك بأعلاها.

ثمّ قال محمّد : وهذا قول أبي حنيفة ، وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة أنّها قالت تجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. وأنت تعلم بعد تسليم صحّة الاسناد أنّ : لأوّل منقول عن عائشة وقولها ليس بحجّة وما أسندته إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ودلالته أيضا ليست بصريحة والثاني غير معلوم الصحّة وليس بعامّ ولا صريح ، ومع ذلك

__________________

(١) اى ويدل عليه سوى التبادر الأصل إلخ.

(٢) وذلك لان روايات الباب على طائفتين طائفة تحكم بالاجتناب مطلقا ، فتحمل على الاستحباب وطائفة أخرى تقصر وجوب الاجتناب على المجامعة في الفرج فيؤخذ به.

(٣) الشعار : الثوب الذي بلى الجسد ، والمراد بشعار الدم ، الثوب الذي يجعل على الفرج ليقي الدم.

٣٣

يقبل الحمل على الاستحباب ، للجمع بين الأدلّة ، كما يفهم أنّه فعله محمّد حيث قال : وقد جاء أرخص.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) تأكيد للاعتزال ، وبيان لغايته ، وهو مؤيّد للمعنى الأوّل إذ الظاهر من مقاربة النساء هو ذلك. وأمّا الغاية فقراءة التخفيف يدلّ على أنّه انقطاع الدّم كما هو مذهب أكثر الأصحاب ويدلّ عليه بعض الروايات والجمع بين الروايات والقراءات ، إذ تحمل قراءة التشديد وبعض الروايات الأخر على عدم الرجحان المطلق إلى حين الغسل : التحريم قبل الانقطاع والكراهية بعده إلى حين الغسل ، وقراءة التشديد يدلّ على أنّها إمّا الغسل أو الوضوء أو غسل الفرج بعد الانقطاع.

والأوّل مذهب الشافعيّ ومنسوب إلى بعض الأصحاب وهو ابن بابويه والظاهر أنّه ليس كذلك (١) ولا بدّ له من حمل قراءة التخفيف أيضا على الغسل للجمع بين القراءتين ، حتّى يصحّ هذا ، وقال في الكشّاف وذهب الشافعيّ إلى أنّه لا يقربها حتّى تطهر وتطهّر فيجمع بين الأمرين وهو قول واضح ، ويعضده (فَإِذا تَطَهَّرْنَ). كأنّه يريد ذلك وإلّا فغير واضح إذ بين غاية التخفيف والتشديد منافاة ولا يمكن الجمع إلّا على ما قلنا وأشار إليه القاضي وكأنّ في مجيئه كذلك مناقشة سهلة.

والثاني مختار صاحب مجمع البيان ، حيث قال : واختلف فيه أي في غاية تحريم الوطي فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدّم ، ومنهم من قال إذا توضّأت أو غسّلت فرجها حلّ وطيها عن عطاء وطاوس ، وهو مذهبنا (٢) وما اختاره ما نعرف

__________________

(١) فإنه قال في الفقيه ج ١ ص ٥٣ (ط ـ النجف) ولا يجوز مجامعة المرءة في حيضها لان الله عزوجل نهى عن ذلك فقال (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) يعنى بذلك الغسل من الحيض ، فان كان الرجل شبقا ـ مغرما ـ بالجماع وقد طهرت المرءة وأراد أن يجامعها قبل الغسل أمرها أن تغسل فرجها ثم يجامعها.

(٢) قال الشيخ في الخلاف : إذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها وطيها إذا غسلت فرجها ، سواء كان ذلك في أقل الحيض أو في أكثره ، وإن لم تغتسل ، وقال أبو حنيفة : إن انقطع دمها

٣٤

مذهبا لأصحابنا وهو أعرف بما قال ، ومعلوم زواله بالغسل ولنا في تحقيق هذه الآية مع الأحكام رسالة جامعة للأقوال والأبحاث وتحقيق المقال فمن أرادها فعليه بمطالعتها ، وأمّا مذهب أبي حنيفة على ما ذكره في الكشّاف فبعيد عن الآية كثيرا ولا وجه له ، وهو أنّه إن كان لأكثر الدّم فيحرم إلى انقطاع الدّم وفي أقلّه إلى بعد الغسل أو بعد مضيّ وقت صلاة كامل مع أنّه بقي حكم الوسط إلّا أن يريد بالأقلّ غير الأكثر أو العكس.

وأنت تعلم بعد إرادة الله تعالى مثل هذا المعنى عن هذه الآية ، مع احتياج الخلق في أكثر الأوقات إلى حكمها ، سيّما مع عدم بيان واضح ، ومعلوم عدم ذلك ، وإلّا لمّا اختلف الفقهاء وما يختفي عن مثل الشافعي وغيره ، فالعقل يجزم بعدم إمكان إرادة هذا المعنى من هذه فتأمل ولا تقل على الله ما لا تعلم فإنّ الذي تتخيّل من استحسان العقل من عدم الاحتياج إلى الصبر إذا كان الدّم كثيرا واحتياجه في القليل ، باطل بطلانا واضحا ، وزمان الغسل قليل جدّا وإنّ وقت الصّلوة حينئذ لا معنى له ، ويمكن الاعتبارات الّتي أحسن منها ، مثل كونها حارّة المزاج أو الباردة وكونها في البلاد الحارّة أو الباردة وكونها قريبة إلى سنّ

__________________

لأكثر مدّة الحيض وهو عشرة أيام حل وطيها ، ولم يراع غسل الفرج وان انقطع دون العشرة أيام لم يحل ذلك إلّا بعد أن توجد ما ينافي الحيض ، وهو أن تغتسل أو تتيمم وتصلى ، فإن تيممت ولم تصل لم يجز وطيها فان خرج عنها الوقت ولم تصل جاز وطيها ، وقال الشافعي لا يحل وطيها إلا بعد أن تستبيح فعل الصلاة إما بالغسل مع وجود الماء أو بالتيمم عند عدمه فأما قبل استباحة الصلاة فلا يجوز وطيها على حال.

ثم استدل الشيخ رحمه‌الله على جواز ذلك بالآية الشريفة ثم قال : وعليه إجماع الفرقة ثم نقل الأحاديث في ذلك فراجع ، والعجب من المصنف قدس‌سره حيث قال قبل ذلك بأسطر : «وأما الغاية فقراءة التخفيف يدل على أنه انقطاع الدم كما هو مذهب أكثر الأصحاب» إلى آخر كلامه ، فاعترف بأن تحريم الوطي غايته انقطاع الدم عند الأكثر ، ثم يقول ههنا : وما اختاره ما نعرف مذهبا لأصحابنا.

٣٥

الصغر وسنّ اليأس وغيرها ممّا لا يتناهى فلا يمكن ، الجرأة في الأحكام الإلهيّة بمثل هذه الأشياء.

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) أي ، فجامعوهنّ فالأمر بالجماع للإباحة بالمعنى الأخصّ أو بالمعنى الأعمّ فيمكن حينئذ الأحكام الأربعة فيه (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) من قبل الطهر لا من قبل الحيض عن السدّي والضحّاك ، وقيل من قبل النكاح دون الفجور عن ابن الحنفيّة ، والأوّل أليق قال الزّجّاج معناه عن الجهات الّتي يحلّ فيها ، ولا تقربوهنّ من حيث لا يجوز مثل كونهنّ صائمات أو محرمات أو معتكفات ، وقال الفرّاء : ولو أراد الفرج لقال في حيث فلمّا قال (مِنْ حَيْثُ) علمنا أنّه أراد من الجهة الّتي أمركم الله فيها كذا في مجمع البيان (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي بالماء ، ويدلّ عليه سبب نزول قوله تعالى (فِيهِ رِجالٌ) (١) الآية المشهورة ، وقيل التوّابين من الكبائر ، والمتطهّرين من الصغائر كأنّه بالتوبة أيضا ، أو بأنّهم لم يفعلوها ، ولم يذكر المطهّرات لدخولهنّ في المطهّرين كما في كثير من الأحكام ، أو يكون المراد بهما النائبين عن الدّخول في الحيض والمتنزّهين عنه (٢).

__________________

(١) براءة : ١٠٨.

(٢) أقول : والذي يحصل بعد التدبر في الآية الشريفة ـ وهو الظاهر منها ـ أن الحائض لها ثلاثة أحوال ـ حالة الطمث التي تجري من رحمها الدم ، وقد حرم وطيها بصريح الاية الشريفة (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) وحالة اخرى بعدها قد نقيت الرحم من الدم ، لكنها لم تغتسل عن قذارة الدم وتبعتها وهي العرق والأرواح الخبيثة التي صاحبتها ، والآية الشريفة ساكتة عن حكمها ، وحالة اخرى بعد الاغتسال وهو غسل البدن كلها ، والآية (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) تصرح بجواز إتيانها فإن الأمر عقيب الحظر لمطلق الإباحة والجواز ـ بل تدعو إلى إتيانها بقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يعنى بذلك قوله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

والكلام في الحالة الثانية فاما أن نسكت عما سكت الله ، واما ان نتدبر في ذلك والتدبر يقتضي الكراهية ، لأن الحيض الذي كان بصريح الآية أذى موجبا للاعتزال قد ذهب وحصل النقاء ، فلا حرمة ، لكنه لم يطب بعد وطيها بحكم الآية الشريفة فإن الآية انما استطاب وطيها

٣٦

الثامنة: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (١).

النجس القذر ، ظاهرها حصر أوصاف المشركين في النجاسة أي ليس لهم وصف إلّا النجاسة ، فالحصر إضافيّ بالنسبة إلى الطهارة أي لا طهارة لهم.

فقول الفخر الرازي : حصر الله تعالى في هذه الآية الشريفة النجاسة في المشركين أي لا نجس غيرهم ، وعكس بعض الناس ذلك وقال لا نجس إلّا المسلم ، حيث ذهب إلى أنّ الماء الّذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس بخلاف الماء الذي استعمله المشرك فإنّه طاهر لعدم إزالة حدثه (٢) باطل أراد منه أبا حنيفة فإنّه الّذي ذهب إلى ذلك على ما هو المشهور وفيه تعريض عظيم على أبي حنيفة ، حيث إنّه عكس ما قال الله تعالى ، مع أنّه ليس في محلّه على ما عرفت.

__________________

وأمر به بعد التطهير المطلق وهو الاغتسال الشرعي (فإن عدم تقييد التطهير بعضو دون عضو كما في غسل الجنابة يقتضي الاستيعاب) فإذا لم تتطهر ولم تغتسل بعد ، حكمنا بعدم الاستطابة وهو معنى الكراهية ، ودون ذلك في الكراهية ما إذا تطهرت لكن مقيدا بغسل الفرج من قذارة الدم ، لا بالإطلاق كما هو مفاد الآية الشريفة. ولذلك أفتى أهل البيت عليهم‌السلام بجواز وطيها خصوصا إذا غسلت فرجها مع شبق زوجها كما في حديث محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه‌السلام أو بدونه كما في حديث على بن يقطين عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

(١) براءة : ٢٨.

(٢) قال في تفسيره الكبير بعد كلام له في مدلول الآية الشريفة ودلالتها على نجاسة المشرك : واعلم أن قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) يدل على فساد هذا القول ، لان كلمة انما للحصر ، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك ، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف للنص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ، ثم إن أقواما ـ يعنى الحنفية ـ قلبوا القضية وقالوا : المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثا أو جنبا نجس ، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب.

٣٧

ومنه يعلم أنّ مذهبه نجاسة المشركين نجاسة عينيّة كما هو الظاهر المتبادر لغة وعرفا ، فيجب الحمل عليه ، وهو مذهب الإماميّة وابن عبّاس حيث نقل الكشاف والبيضاويّ أنّه قال أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن أنّه قال : من صافح مشركا توضّأ أي غسل يده فحمل الآية على أنّهم ذو نجاسة لأنّ معهم الشرك الّذي هو بمنزلة النجس ، أو لأنّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات كما فعله صاحب الكشّاف والبيضاويّ بعيد من جهة جعلهما [النجس] ظ بمعنى ذي النجاسة وجعل الشرك بمنزلته مع عدم ظهور ذلك أيضا وإخراج القرآن عن الظاهر بغير دليل وهو غير جائز عقلا ونقلا.

وزاد القاضي بعد قوله فهم ملابسون لها غالبا قوله : وفيه دليل على أنّ ما الغالب فيه النجاسة نجس (١) وأنت تعلم أنّ عدم التطهير والاجتناب غالبا لا يستلزم نجاستهم حقيقة ، نعم يظنّ كونهم ذوي نجاسة ، والأصل في الأشياء الطهارة ما لم يعلم أنّه نجس ، فالحكم بالنجاسة حقيقة لا معنى له حينئذ ، فكأنّه على وجه المجاز وحينئذ لا دليل فيه إذ لا يلزم من تسميتهم بالنجاسة مبالغة للغلبة ، كونهم [ذوي] نجاسة حقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم ممّا الغالب فيه ذلك ، بل لا يلزم صحّة إطلاقها عليه مجازا لعدم اطّراد المجاز نعم لو قيل بالنجاسة حقيقة وعلم أن لا دليل لها إلّا الغلبة وقيل بصحّة القياس قيل بنجاسة ما الغالب فيه أيضا للقياس ، ولكن لا شكّ في أنّها مرتبة خاصّة من الغلبة ، فمن غلبتها لنجاستهم لا يعلم كون كلّ غلبة كذلك إذ قد يكون مرتبة منها علّة ولا يكون ما دونها كذلك ، وأيضا يلزمه كون المسلم الغالب نجاسة بدنه نجسا فلا يعذر قائله (٢) ويجب اجتنابه. وليس كذلك.

ثمّ إنّ الظاهر من المشرك هو الّذي أثبت للواجب شريكا ، فهو غير الموحّد فلا يدخل الموحّد الكتابيّ ويحتمل أن يجعل الجميع مشركا لقوله تعالى «عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ» إلى قوله (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣) وقد استدلّ به

__________________

(١) تفسير البيضاوي ص ١٧٢.

(٢) اى إذا قال له : أنت نجس.

(٣) براءة : ٣٠ و ٣١ ، والآية هكذا (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى

٣٨

على شرك الكلّ أيضا صاحب الكشّاف في غير هذا الموضع فتأمّل فيه ويستفاد من الآية أحكام :

منها كون المشرك نجسا ، ويتفرّع عليه نجاسة ما باشره من المائعات كما ينجس سائر الأشياء بملاقات النجاسة رطبا فقوله تعالى : «طعامهم حلّ لكم» (١) يراد به الحبوب كما ورد به الرواية (٢) ويحتمل كون المراد حلّيّة طعامهم من حيث إنّه طعامهم (٣) أي أنّه لا يصير الطعام بمجرّد أنّه طعامهم حراما بل ، إنّما يحرم

__________________

الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

فالظاهر من الآية أن المراد بالشرك شرك العبادة والطاعة وقلما تنجو منه أمة من الأمم ، وأما قولهم بأن عزيرا ابن الله أو المسيح ابن الله ، فكقول اليهود عامة (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) ولم يعن علماؤهم من الأحبار والرهبان أنهما أبناء الله حقيقة ، بل على التأويل ، وقولهم هذا ليس بكفر بل يضاهي قول الذين كفروا وقد خرج عن أفواههم لا عن قلوبهم وإنما قالوا ذلك تخليطا وتطبيقا لمذاهب الوثنية وترغيبا في دخولهم في أديانهم واستجلابا لانظارهم وأفكارهم.

(١) المائدة : ٥ ، والآية هكذا : اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم».

(٢) راجع تفسير العياشي ج ١ ص ٢٩٦ ، وقد قال جمع من أساطين اللغة بأن المراد بالطعام في عرف أهل الحجاز البر خاصة ، راجع مقاييس اللغة لابن فارس ، النهاية لابن الأثير ، وقال الجوهري الطعام ، ما يؤكل ، وربما خص بالطعام البر ، وفي حديث أبى سعيد رضى الله عنه كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صاعا من طعام ، أو صاعا من شعير.

(٣) يعنى أن إطلاق الآية الشريفة إنما هو من جهة إضافة الطعام إليهم إضافة الملك ، ولذلك قال ، (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) يعنى أنه لا بأس بأن تبيعوا طعامكم منهم كما أن لا بأس بأن تشتروا أنتم طعامهم ، وليس لها إطلاق من حيث المباشرة وصنع الطعام أو من حيث جنس الطعام حتى يحل لحم الخنزير والخمر وغير ذلك.

٣٩

منه ما نجس بملاقات النجس فتأمل.

ومنها كون الكفّار مكلّفين بالفروع ومنها عدم جواز دخولهم في المسجد الحرام صريحا فانّ المراد ذلك والنهي عن القرب للمبالغة كما في قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (١) والحمل على الحجّ والعمرة كما فعله أبو حنيفة بعيد غير مفهوم ، ولا ينافيه الخبر الدالّ على منعهم عن الحجّ والعمرة ولا يضرّ عدم دلالته على المنع عن دخول المسجد فاستدلال أبي حنيفة به عليه غير جيّد ، ويمكن فهم تحريم دخولهم المسجد مطلقا أيّ مسجد كان.

[ومنها عدم تمكين المسلمين لهم بمعنى منعهم عن دخوله ، بل قيل هو المراد من النهي] (٢).

ومنها عدم جواز إدخال مطلق النجاسة المسجد ، وإن لم يتعدّ ، كما هو مذهب العلّامة. للتعليل المفهوم فانّ عدم دخولهم المسجد متفرّع على نجاستهم فكأنّه قيل لا يدخلون المسجد لأنّهم أنجاس والأنجاس لا يجوز دخولهم المسجد لاستلزام كون النجاسة في المسجد ويؤيّده وجوب تعظيم شعائر الله ، وما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله جنّبوا مساجدكم النجاسة (٣) فيجب إزالة النجاسة عن المسجد بالطريق الأولى. ولكنّ الآية ليست بصريحة لاختصاص الحكم بنجاسة الشرك ولم يثبت وجوب تعظيم الشعائر إلى هذه المرتبة ، والرواية ما تعرف سندها فضلا عن صحّتها ولهذا ذهب الأكثر إلى عدم الجواز مع التعدّي لا بدونه ، ولعلّ دليلهم الإجماع مؤيّدا بما تقدّم من التعظيم ، والخبر مع الحمل على التعدّي.

التاسعة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ وجه التخصيص قد تقدم ـ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) (٤).

__________________

(١) أسرى : ٣٢.

(٢) ما بين العلامتين لا توجد في نسخة عش.

(٣) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب ٢٤. وقال الشهيد ، لم أقف على اسناد الحديث.

(٤) المائدة : ٩٠.

٤٠