زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

فالصّلوة قبل طلوع الشمس الفجر ، وقبل الغروب الظهر والعصر ، ومن اللّيل العشاء ان ، فيها دلالة على سعة وقتها ، وأدبار السّجود التسبيح في آثار الصّلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصّلاة ، وقيل النوافل بعد المكتوبات ، وعن عليّ عليه الصّلوة والسّلام الركعتان بعد المغرب وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيّين ومثلها موجودة من طرقنا أيضا (١).

والظاهر أنّ المراد قبل أن يتكلّم بكلام أجنبيّ لا التعقيب ، وهو مفسّر في الرواية الصّحيحة به والأدبار جمع دبر وقرئ بكسر الهمزة مصدرا والكلّ من أدبرت الصّلاة : إذا انقضت وتمّت ، ومعناه وقت قضاء السّجود كقولهم أتيتك خفوق النجم ، ويقرب من الآية ما في الطّور (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٢) أي سبّح بحمد ربّك حين تقوم من أيّ مكان ، وقيل : من نومك ، وقيل تقوم : إلى الصّلاة المفروضة ، فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك وقيل : وصلّ بأمر ربّك حين تقوم من مقامك ، قيل : الركعتان قبل صلاة الفجر ، وقيل حين تقوم من المجلس فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت اغفر لي وتب عليّ وقد روي مرفوعا أنّه كفّارة المجلس (٣) وروي عن عليّ عليه الصّلاة والسّلام من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين (٤).

وقيل اذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصّلاة (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) بالكسر قيل المراد الأمر بقول : سبحان الله وبحمدك في هذه الأوقات وقيل يعني صلاة اللّيل ، وروى زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن

__________________

(١) تفسير الكشاف ومجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

(٢) الطور : ٤٩.

(٣) رواه مرفوعا في المجمع ، وكنز العرفان ج ١ ص ٧٨ ، ورواه مسندا السجستاني في سننه ص ٥٦٣ و ٥٦٤ في حديثين فراجع.

(٤) الوسائل الباب ٢٤ من أبواب التعقيب الحديث ١١.

٦١

أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في هذه الآية قالا إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم من اللّيل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء فيقرأ خمس آيات من آل عمران «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ إلى قوله تعالى ـ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ثمّ يفتح صلاة اللّيل الخبر (١).

وقيل : معناه صلاة المغرب والعشاء الآخرة ، وإدبار النجوم يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٢) وذلك حين تدبر النجوم أي حين تغيب بضوء الصّبح ، وقيل معناه صلاة الفجر المفروضة وقيل معناه لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء ونزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا فإنّه لا يغفل عنك وعن حفظك ، وفي هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه قد ضمن حفظه وكلايته حتّى بلّغ الرسالة ، الله يعلم بحقيقة كلامه وغيره.

ويدلّ على رجحان القيام للصّلاة عن المضاجع ، والصّلاة بالليل ودعاء الربّ خوفا من العقاب ، وطمعا في الثواب ، والإنفاق ممّا رزقه الله تعالى قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة اللّيل وهم المتهجّدون باللّيل الّذين يقومون عن فرشهم للصّلوة ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، فهو القيام في اللّيل لصلاة اللّيل والتهجّد المشهور ، وظاهر الآية أنّهم يقومون للدعاء خوفا من عدم الإجابة وطمعا لها ، كأنّه الدّعاء في الوتر وغيره ، وقيل هم الّذين لا ينامون حتّى يصلّوا العشاء الآخرة ، قال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنّا نصلّي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة العشاء وقيل هم الّذين يصلّون ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي صلاة الأوّابين ، وقيل هم الّذين يصلّون العشآء والفجر في جماعة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من عذاب الله

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٣ من أبواب المواقيت ح ١ ـ ٤.

(٢) ذكر في مجمع البيان مرسلا ورواء الكليني في الكافي مسندا ج ٣ ص ٤٤٤.

(٣) السجدة : ١٦ :

٦٢

وطمعا في رحمة الله وممّا رزقهم الله ينفقون في سبيل الله وطاعته (١).

واعلم أنّ وجوب الصلوات ليس من الفقه فإنّه من ضروريات الدّين ، مع أنّ الآيات الدالّة عليها في غاية الإجمال فكان تركها أليق ، ولكن ذكرنا بعض الآيات في ذلك لبيان الوقت ، وبعض الفوائد الأخر.

تذنيب

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) قيل تدلّ على أنّ المراد بالأمر الفور ، وذلك غير ظاهر ، فإنّه يحتمل أن يقال : المراد استحباب المسارعة فإنّه إنّما يقال مثل هذا الكلام عرفا إذا لم يكن واجبا فتأمل ويؤيّده دخول المستحبّات أيضا فيه فتدلّ على استحباب فعل العبادات أوّل وقتها كما تقدّم.

(النوع الثالث)

في القبلة وفيه آيات :

منها: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٣).

الرؤية هنا بمعنى العلم ، والتقلّب التحوّل والتحرّك في الجهات ، والقبلة هي الكعبة للقادر على المشاهدة على سبيل العادة ، وللبعيد الجهة على ما هو المشهور الرضا هو المحبّة والتولية هو التصيير والتصريف والشطر هو الجانب والنحو والجهة والحرام هو المحرّم كالكتاب بمعنى المكتوب ، والحقّ هو وضع الشيء موضعه ، والغفلة هي السّهو عن بعض الأشياء.

__________________

(١) راجع في ذلك مجمع البيان للطبرسي.

(٢) الحديد : ٢١.

(٣) البقرة : ١٤٢.

٦٣

المقصود [من الآية] أنّ الله تعالى : يقول للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّا قد نعلم تردّد وجهك في جهة السّماء أي توجّهك نحوها انتظارا لتحويل القبلة ، النازل منها نحوك ، إلى قبلة تحبّها وتتشوّق إليها لأغراضك الصحيحة الّتي في نفسك ، ووافقت في ذلك مشيّة الله وحكمته ، وهي قبلة أبيك إبراهيم عليه وآله السلام وأدعى إلى الإيمان لأنّها مفخرتهم ومطافهم ، فلنعطينّك تلك القبلة المرضيّة.

ثمّ بيّنها بقوله (فَوَلِّ) أي فاجعل تولية وجهك في جهة المسجد وسمته ، واصرفه نحو المسجد المحرّم فيه القتال ، وإخراج الملتجئ والمصيد ، وباقي ما يحرم على المحرم يعني اجعل قبلتك الّتي تتوجّه إليها للصّلاة وغيرها تلك الجهة ثمّ أشار إلى وجوب ذلك على كلّ مكلّف في كلّ مكان بقوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ولعلّ في التعبير بالنحو والمسجد دون البيت دلالة على وسعة أمر القبلة ، وأنّها الجهة الواسعة ، لا البيت كما هو للقريب واختيار المسجد دون الحرم مع أنها أدلّ لئلّا يتوهّم كون الحرم قبلة للبعيد كما قيل ، على أنّه يحتمل أن يكون المراد الحرم ويكون التعبير عنه باسم أشرف أجزائه ، فيكون تسمية للكلّ باسم الجزء ، أو على أنّ حكمه حكم المسجد في وجوب التعظيم ويؤيّده وصفه بالحرام ويحتمل أن يكون التعبير عن البيت بالمسجد الحرام ، تسمية للجزء باسم الكلّ فيكون القبلة للقريب نفسه ، وللبعيد جهته كما هو مذهب أكثر الأصحاب ، وعلى التقادير لا تفاوت في القبلة المتعيّنة للبعيد فإنّها مبيّنة إمّا على العلامات الموضوعة لها شرعا على ما ذكره الفقهاء ، مثل جعل الجدي خلف المنكب الأيمن ، وهو مجمع الكتف والعضد ، وقال المحقّق الثاني وهو الكتف ، وذلك غير ظاهر بحسب اللغة والشرع والدليل ، وإمّا على المقدّمات الهيويّة كما بيّنها أهلها لكلّ إقليم إقليم ، فالجهة حينئذ هي السمت والجانب المأخوذ للتوجّه إلى القبلة المعتبرة في الأمور المعيّنة على الوجه المقرّر من العلامات المتعيّنة له إمّا من دليل شرعيّ أو عقليّ كما أشير إليه وقد ذكر أصحابنا تعاريف كثيرة لها وكاد أن لا يكون واحد منها سالما مع أنّه لا اعتداد بتحقيقها إذا لواجب استعمال العلامات فقط وليست الجهة واقعة في النصّ

٦٤

بحيث ما لم تتحقّق لم يجز لنا التوجّه إلى القبلة ، وهو أمر ظاهر.

ثمّ اعلم أنّه قال في مجمع البيان ذكر أبو إسحاق الثعلبيّ عن كنانة (١) عن ابن عبّاس أنّه قال : البيت كلّه قبلة ، وقبلة البيت الباب ، والبيت قبلة أهل المسجد ، والمسجد قبلة أهل الحرم ، والحرم قبلة أهل الأرض ، وهذا موافق لما قاله أصحابنا أنّ الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق انتهى (٢) لعلّه يريد بعض الأصحاب وهو الشيخ ومن تبعه وقد ضعّفه المتأخّرون إذ دليله بعض الروايات الغير الصّحيحة ، ويدلّ على كون القبلة هي البيت نفسه للقريب وجهته للبعيد أدلّة صحيحة وإن كان في إفادتها تأمّل إلّا أنّها تتمّ بضمّ أمور أخر ، مع أنّه يلزمه خروج الصفّ عن القبلة إذا زاد عن الحرم إلّا أن يؤول بجهة الحرم ، فيبقى النزاع في القريب حيث يجوّز الشيخ مع قدرة التوجّه إلى البيت التوجّه إلى الحرم مع العلم بأنّه غير موافق للبيت وكذا المسجد على أنّه ينبغي أن يقول من خرج بدل من نأى وأيضا كون الباب فقط قبلة البيت غير واضح ، ولا مطابق لكلام أصحابنا بل للأدلّة أيضا ، فكلام ابن عبّاس غير واضح ، ولعلّ الإسناد إليه غير صحيح أو محمول على الأفضليّة.

وأيضا إنّ أمر القبلة على ما أفهم من قلّة أدلّته مع اهتمام الشارع ببيان أحكام الشرع حتّى مستحبّات الخلاء واسع جدّا ، وليس أمر القبلة يضيق بل فيه وسعة وقناعة بأدنى التوجّه المناسب إلى جهة البيت كما يفهم من كلام بعض الأصحاب مثل المحقّق الثاني من أنّه لا بدّ من حصول زاويتين قائمتين من الخطّ الخارج من بين عيني المصلّي الواصل إلى الخطّ الّذي هو الجهة مع أنّه ما بيّن الخطّ الجهتيّ وكلام الذكرى من أنّه لا يجوز الانحراف ولو قليلا.

أمّا قلّة الأدلّة فظاهرة إذ الآية الكريمة في غاية الإجمال ، إذ من يعرف أنّ نحو المسجد أين؟ مع أنّه ورد في المدينة المشرّفة ، فإذا علم ذلك هناك ببيان مثلا فمن أين يفهم حال جميع الآفاق مع الاحتياج إليه للكلّ للصّلاة ليلا ونهارا بل

__________________

(١) في المصدر : في كتابه ، وهو سهو.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٢٢٨.

٦٥

دائما لمن يصلّي والذّبح والاحتضار والدفن وللمستحبّات من الجلوس والدعاء والانحراف في الخلإ وغير ذلك ، وليس من الأخبار الآن إلّا خبر واحد في التهذيب (١) في نهاية ما يكون من ضعف السند فإنّه قال عن الطاطريّ بغير واسطة عن جعفر بن سماعة عن علاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما الصّلاة وو السّلام قال سألته عن القبلة قال : ضع الجدي على قفاك وصلّ ، وطريقه إليه غير واضح ، وهو ضعيف جدّا على ما ذكروه وفي الطريق جعفر بن سماعة ، وهو أيضا من الضعفاء وآخر في الفقيه (٢) بغير إسناد قال رجل للصادق عليه الصلاة والسّلام : إنّي أكون في السفر ولا أهتدي للقبلة باللّيل ، فقال أتعرف الكوكب الّذي يقال له الجدي؟ قلت : نعم ، قال : اجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك ، وهما مع ما في سندهما في غاية الإجمال كما ترى واستبعد من الحكيم العالم أن يكلّف بمثل هذا التكليف الشاقّ بهذه الأدلّة فقط.

وأمّا ما يدلّ على عدم الضيق فهو بعض الأخبار الصّحيحة أيضا مثل قولهم عليهم الصّلاة والسّلام : بين المشرق والمغرب قبلة (٣) كما يظهر من قوله تعالى : أيضا (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (٤) الآية على الظاهر.

وإن كان سبب ترك الأدلّة المفصّلة تفويض أمر القبلة إلى علم الهيئة فعلى تقدير التسليم فذلك أيضا علم دقيق كثير المقدّمات على ما يفهم من لسان أهله ، ولا يمكن الوصول إلى التحقيق به إلّا بمشقّة كثيرة في زمان طويل ، والتكليف به أيضا بعيد عن الشرع وقوانينه ولطفه ، وكونه شريعة سهلة سمحة ، والتفويض إلى تقليد أهل ذلك العلم أيضا بعيد ، إذ تقليدهم مع عدم عدالتهم ، ليس من قوانين الشرع ، إذ الظاهر أنّه لا بدّ من الانتهاء إلى قول بعض الحكماء الّذي لا نعلم إسلامه فضلا عن العدالة وإن أمكن وجود من يعلم عدالته مع علمه به من غير أخذ ممّن تقدّم من الحكماء فهو نادر جدّا.

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٢٤٤.

(٢) فقيه من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٨١.

(٣) الفقيه ج ١ ص ١٧٩.

(٤) البقرة : ١١٦ ، وسيأتي الكلام فيه.

٦٦

ومع ذلك كلّه لا يحصل العلم بالبيت ، بل ولا مكّة بل ولا الحرم أيضا ، نعم يدّعي بعضهم القدرة عليه ، مع وجود آلات كثيرة بحيث لا يمكن استحصاله إلّا لمثل السلطان ، ومع ذلك كيف يمكن في البراري والقرى الّتي لا يعلم عرضها وما رصدوها بل في البلد المرصد أيضا فإنّهم يعيّنون عرض البلد من موضع معيّن من البلد ، مثل وسط البلد فيبقى نهاية البلد غير مرصد ، فيتفاوت الحال فلا يفيد إلّا تخمينا مع أنّه في الأصل تخمينيّ إذ التحقيق على ما يظهر من كلامهم ممّا يعسر جدّا ، بل لا يمكن لعدم مساعدة الآلات.

على أنّا نجد الاختلاف فيما بينهم أيضا في المسائل والتحقيقات ، نعم يقرب ذلك للمهرة في الجملة ، ولكن لا يسمن ولا يغني من جوع ، وأيضا ما نعرف وجه ضمّ الأصحاب مشرق الاعتدال ومغربه ، إلى علامة العراق ، مع أنّ الظاهر أنّ قبلتهم ليست نقطة الجنوب كما يظهر من المشاهدة في مكة وتعيين الجدي خلف المنكب مع أنّهم يقولون حين كونه علامة هو واقع على النقطة الشماليّة الّتي يوافق خطّ نصف النّهار والقطب ، فيكون حينئذ بين الكتفين فكأنّه بالنسبة إلى بعض البلدان.

وأيضا جعل النجم الصغير الّذي بينه وبين الفرقدين قطبا لكونه عنده كما يظهر من كلام العلّامة أيضا على ما رأيت في حاشيته على المحرّر غير واضح ، على ما سمعت من بعض أهل هذا العلم الّذي هو خالي الّذي لا نظير له اليوم في هذا العلم بل يقول إنّ القطب قريب من الجديّ جدّا وأيضا شاهدته كما قال فانّي نظرت وعلّمت علامة ورأيت هذا النجم الصغير يتحرّك كثيرا ويقطع دائرة كبيرة ، وحركة الجدي كانت قليلة جدّا ، ودائرته أقلّ من دائرة تلك النجم بكثير ، إذ رأيته كأنه ما يتحرّك من أوّل اللّيل إلى نصفه تخمينا ثمّ تبيّن له حركة قليلة وأيضا كلام أكثر الأصحاب خال عن تسميته قطبا وما رأيته إلّا في شرح الإرشاد للشيخ زين الدّين رحمه‌الله.

ثمّ جعلهم قبلة خراسان مثلا مثل قبلة العراق كالكوفة بعيد أيضا لأنّه شرقيّ بالنسبة إلى الكوفة من مكّة ، مع أنّهم يقولون إنّ قبلتها يقينيّة ، إذ ثبت بالتواتر صلاة المعصوم فيه بتلك القبلة ، والعجب أنّا نرى الجديّ في الكوفة خلف المنكب

٦٧

لا خلف الكنف كما قاله المحقّق الثاني وجعل قبلة خراسان وأكثر بلاد العجم على وضع الجدّي خلف الكتف ، وغيّر ما كان على غير ذلك إليه (١) والظاهر خلاف ذلك وأنّ ما فعله بعيد جدّا خصوصا في الخراسان. الله يعلم.

ومنها: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢).

«المشرق» مبتدأ «لله» متعلّق بمقدّر خبره ، و «المغرب» عطف عليه والفاء للتفريع وأين للمكان و «ما» زائدة كما في حيثما وكيفما ، متضمّن لمعنى الشرط ، وهو مفعول فيه لتولّوا ، وهو فعل شرط حذف نونه بالجزم وفاء «فثمّ» للجزاء و «وجه الله» مبتدأ و «ثمّ» ظرف لمقدّر خبره ، والجملة جزاؤه ، والمقصود من الآية على ما يفهم من الكشّاف أنّ البلاد والأرض المنقسمة إلى المشرق أي النصف الّذي فيه محلّ طلوعها ، والمغرب أي النصف الّذي فيه محلّ غروبها كلّها ملك لله ، ففي أيّ مكان فعلتم التولية بمعنى تولية وجوهكم شطر المسجد الحرام بدليل قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فثمّ وجه الله أي ثمّ جهته الّتي جعلها قبلة لكم ، وأمركم أن تجعلوا وجوهكم إليها حيث ما كنتم أو فثمّ ذاته تعالى يعني عالم بما فعلتم فيه ، فيقبل منكم ويثيبكم مثل ما أثابكم في المسجد الحرام وبيت المقدس.

يعني أنّكم إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس كما فهم من الآية السّابقة ، وهي (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية (٣) فإنّها قبلها بلا فصل فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أيّ بقعة وأيّ جزء منها أردتم فإنّ الكلّ لله ، وافعلوا التولية ، أي ولّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فانّ ذلك ممكن في كلّ مكان ، و

__________________

(١) اى غير ما كان لفظه على غير الكتف إلى الكتف.

(٢) البقرة : ١١٦.

(٣) والآية هكذا : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها وسعى إلى خرابها إلخ.

٦٨

ليست بمخصوصة بمكان دون مكان ، ويريد الله أن يدفع بذلك وهم من يتوهّم عدم إمكان التوجّه إلى جهة واحدة من جميع الأمكنة.

(إِنَّ اللهَ واسِعٌ) الرّحمة يريد التوسعة واليسر لعباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم فإنّ المصلحة الحاصلة للصّلاة في المساجد حاصلة لهم في أيّ مكان كان مع التولية وحصول سائر الشرائط ، وليست هذه بمنسوخة ولا مخصوصة بحال الضرورة ولا بالنوافل مطلقا أو حال السفر كما يفهم من سائر التفاسير.

أمّا سبب النزول فقيل كان اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس ، وقيل نزلت في [صلاة] التطوّع على الراحلة ، حيث توجّهت حال السفر قاله في مجمع البيان ثمّ قال : هذا مرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام روي عن جابر أنّه قال : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة (١) كنت فيها وأصابتنا ظلمة ، فلم نعرف القبلة ، فقال طائفة منّا قد عرفنا القبلة هي هنا قبل الشمال فصلّوا وخطّوا خطوطا ، وقال بعضنا القبلة هي ههنا قبل الجنوب فخطّوا خطوطا فلمّا أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة ، فلمّا رجعنا من سفرنا سألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك فسكت فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل كان للمسلمين التوجّه حيث شاؤا في صلاتهم ، وفيه نزلت الآية ثمّ نسخت بقوله تعالى (فَوَلِّ) الآية ويفهم من رواية جابر أنّه لا تجب الصّلاة حال الحيرة إلى أكثر من جانب واحد ويكفي الظنّ إلى جهته ، وإن لم يكن عن علامات شرعيّة وأنّ العلم قبل الفعل ليس بشرط بل إذا حصل الظنّ وفعل وكان موافقا لغرضه كان مجزيا لا يحتاج إلى الإعادة ، كما يفهم من عبارات الأصحاب.

وأمّا الحكم المستفاد من الآية بناء على الأوّل فهو إباحة الصلاة في أيّ مكان كان ، وعموم التوجّه إلى المسجد الحرام ، وأمّا على ما يستفاد من ظاهرها قبل التأمّل فهو عدم اشتراط القبلة مطلقا ويقيّد بحال الضرورة ، أو النافلة على الراحلة سفرا لما مرّ ، وغير ذلك ، ويحتمل عموم النافلة فتأمّل.

__________________

(١) السرية العسكر الذي لم يكن فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٩

(النوع الرابع)

في مقدّمات أخر للصلاة وفيه آيات :

الاولى: (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) (١).

أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويّة وأسباب نازلة منه ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) (٢) وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٣) فأشار إلى أنّ للأمور السماويّة مثل المطر دخلا في حصول اللّباس ، وقد تكون إشارة إلى الرتبة فقطّ ، فانّ حصول اللّباس لمّا كان بأمر الله وحكمته ، وكان عاليا ، فصار نازلا من الأعلى إلى الأسفل (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) صفة (لِباساً) يستر عورتكم وروي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصانا الله فيها (وَرِيشاً) عطف على لباسا ، وهو لباس التجمّل.

ففي الأوّل إشارة إلى وجوب ستر العورة باللّباس مطلقا لقوله يواري سوءاتكم فإنّه يدلّ على قبح الكشف وأنّ الستر مراد الله تعالى ، وفي الثاني إلى استحباب التجمّل باللّباس ويمكن فهم اشتراط كون اللّباس مباحا لأنّ الله تعالى لا يمنّ بإعطاء الحرام (وَلِباسُ التَّقْوى) أي خشية الله أو الايمان أو لباس يقصد به العبادة والخشية من الله تعالى والتواضع له كالصوف والشعر ، أو مطلق اللّباس الذي يتّقى به من الضرر ، كالحرّ والبرد والجرح ، مبتدأ (ذلِكَ خَيْرٌ) خبره بأن يكون «ذلك» مبتدأ ثان (٤) وخبره «خير» والجملة خبر لباس ، أو «ذلك» صفته وخير خبره أي لباس التقوى المشار إليه خير ، وقرئ بالنصب (٥) عطفا على لباسا كأنّه يريد على الأخير لباس يتّقى به عن الحرّ والبرد والجرح والقتل دون اللّباس الّذي

__________________

(١) الأعراف : ٢٥. وما بعدها ذيلها.

(٢) الزمر : ٦.

(٣) الحديد : ٢٥.

(٤) مبتدأ ثانيا.

(٥) قرأ ابن عامر والكسائي وهكذا أهل المدينة (لِباسُ التَّقْوى) بنصب اللباس.

٧٠

يستر عورته أو يتجمّل به ، فاللباس ثلاثة قد امتنّ الله على عباده بخلقه. وحينئذ في (ذلِكَ خَيْرٌ) تأمّل ويمكن كونه خيرا لأنّه يحصل به الستر والحفظ عن الحرّ والبرد والجرح بخلافهما ، ويحتمل رجوعه إلى اللباس مطلقا

ثمّ أشار بقوله (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) إلى أنّ إنزال اللباس من آيات الله ليتذكّر الإنسان ويتّعظ ، وأوصى إلى بني آدم أن لا يمتحنه الشيطان ويبتليه ببليّة ، بأن يوقعه في ذنب يوجب دخوله النار وينزع لباسه ويبدو عورته ، كما فعل بأبويه ، وأنّه يراهم وهم لا يرونه ، فالحذر كلّ الحذر منه ، ولا بدّ من عدم الغفلة ، وقال إنّ الشيطان (١) هو [وقبيله] ظ أولياء الّذين لا يؤمنون فلا يجوز للمؤمن أن يأخذه وليا.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) كأنّ المراد بالفاحشة الذنب الفاحش قال القاضي : فعلة متناهية في القبح والفحش ، كعبادة الصنم وكشف العورة إذا فعلوها يعتذرون باتّباع الآباء وأنّ الله أمرهم بها فردّه الله تعالى بأن قال (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي الله لا يأمر بالفحش والقبح فإنّه قبيح ومنهيّ عنه. كأنّه ترك الأوّل لظهور قبحه وعدم صلاحيّته للعذر (٢) ومثله في القرآن كثير ، ففيه دلالة على عدم جواز التقليد ، وأنّ الله لا يأمر بالقبح ، وأنّه قبيح ، وأنّه لا يفعل القبيح ، وأنّ الفعل في نفسه قبيح ، من غير أمر الشارع ، وأمثالها كثيرة في القرآن العزيز مثل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٣) فقول الأشعريّ إنّ الحسن محض قول الشارع افعل ، والقبح قوله لا تفعل ، باطل ، وهو واضح.

وأكّد نفي صدور القبح عن الله تعالى بقوله «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ

__________________

(١) لفظ الآية (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) إلخ.

(٢) الأول قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا) والثاني (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

(٣) النحل : ٩٠.

٧١

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» ومعلوم قبح الأمر بالفحش ، وأنّ الآمر به ليس بمقسط ففيها تأكيدات على نفي القبح عن الله تعالى ، وكون الفعل قبيحا في نفسه فهو حجّة على النافي من الأشعريّ.

الثانية: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) (١).

أي لباسكم ، حيث إنّه ساتر للعورة ، فهو زينة (عِنْدَ) دخول (كُلِّ مَسْجِدٍ) لطواف أو صلاة أو مطلق دخول المساجد ، ويحتمل أن يريد أخذ ثياب التجمّل فيهما فإنّ الزينة أخذت لله تعالى ، فعلى الأوّل دليل وجوب ستر العورة في الصلاة والطواف. وعلى الثاني استحباب الزينة فيهما ، أو مطلق المسجد ، وقد فسّر بالمشط والسواك والخاتم والسجّادة والسبحة ، ثمّ عقّب الأمر بالستر الأمر بالأكل والشرب وعدم التنزّه عن ذلك ، بقوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ما طاب أو أبيح أو استلذّ ممّا خلقه الله لكم كاللبس (وَ) لكن (لا تُسْرِفُوا) بتعدّي حدود الله مطلقا بتحريم الحلال ، وبالعكس ، أو في المأكل والمشرب والملبس ، فلا يجوز أكل وشرب ولبس ما لا يجوز ، ولا ينبغي ما لا يليق بحاله ، وعدم لبس لباس التجمّل وقت النوم والخدمة ، ونحو ذلك كما بيّن في محلّ تفصيله أو في الأكل والشرب حتّى يكون إشارة إلى كراهة وتحريم كثرة الأكل المؤدّي إلى المرض ولهذا قيل (٢) جمع الله الطبّ في نصف آية (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يبغضه ، فينبغي حمل (وَلا تُسْرِفُوا) على الإسراف الحرام ، ثمّ أكّد ما تقدّم بقوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) أي قل يا محمّد ما حرّم الله زينته أي الأمور الّتي خلقها الله تعالى لزينة عباده (الَّتِي أَخْرَجَ) الله (لِعِبادِهِ) أي خلقها لعباده وأخرجها من النبات كالقطن والكتّان ومن الحيوانات كالصوف والسفر آلات (وَالطَّيِّباتِ

__________________

(١) الأعراف : ٣٠.

(٢) القائل هو على بن الحسين بن واقد للطبيب النصراني بمحضر هارون الرشيد العباسي راجع الكشاف ج ٢ ص ٦٠ مجمع البيان ج ٤ ص ٤١٣.

٧٢

مِنَ الرِّزْقِ) المستلذّات من المأكل والمشرب أو المباحات ، ففيها دلالة واضحة على أنّ الأشياء خلقت على الإباحة دون الحرمة ، كما في غيرها ، كما صرّح به صاحب الكشاف في أوّل سورة البقرة في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) أي لانتفاعكم بجميع ما خلق فيها بل هي وما فيها كما دلّ عليه العقل فاجتمع الآن العقل والنقل على أنّ الأصل في الأمور هو الإباحة ، وغيرها يحتاج إلى الدليل فتأمل. (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي الطيّبات ثابتة ومباحة للمؤمنين مع مشاركة الكفّار لهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً) للمؤمنين مختصّة بهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ففي الحياة الدنيا ، متعلّقة بمتعلّق «للّذين» ويحتمل بآمنوا ، وخالصة حال عن ضمير الطّيبات في متعلّق «للّذين» ويوم القيمة ظرف لخالصة.

ثمّ أشار مرّة أخرى إلى حصر المحرّمات الإضافيّة بقوله (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) الفواحش ما زاد فحشه وقبحه ، وقيل : المراد ما يتعلّق بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) جهرها وسرّها (وَالْإِثْمَ) أي ما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص وقيل : شرب الخمر (وَالْبَغْيَ) الظلم والكبر (بِغَيْرِ الْحَقِّ) متعلّق بالبغي مؤكّدا له (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) تهكّم بالمشركين ، وتنبيه على وجوب اتّباع البرهان ، حيث يفهم أنّه لو كان على الشرك برهان لوجب إلّا أنّ البرهان عليه محال ، وعلى تحريم اتّباع ما لم يدلّ عليه برهان (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته ، والافتراء عليه ، وإسناد الأمور الغير الصادرة عنه إليه تعالى ، منها أنّ الحكم في المسئلة كذا مع أنه ليس كذلك وأنّ الله يعلم كذا ولم يكن كذلك ، ويدخل فيه الفتوى والقضاء بغير الاستحقاق وهو ظاهر ، ومعلوم وجود محرّمات غير هذه المذكورات فهي متروكة الظاهر ، ومخصوصة بها ، والحصر إضافيّ فتأمل.

الثالثة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٢).

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) المائدة : ٤.

٧٣

كأنّه إشارة إلى بيان المستثنى الّذي أشار إليه بقوله (إِلَّا ما يُتْلى) (١) فمن المحرّمات المتلوّة الميتة والظاهر أنّها كلّ حيوان فارقته الروح من غير تذكية شرعيّة ، ولو بإخراج المسلم السمك من الماء حيّا وأخذ الجراد كذلك ويحتمل أن يكون المراد كلّ حيوان مأكول اللّحم حين حياته ، وفارقته الروح من غير تذكية شرعية فيكون التحريم من جهة الموت خاصّة كما هو ظاهر سوق الآية ، وظاهر لفظ الميتة مشعر بأنّ ما لم تحلّ فيه الحياة منها لا يكون حراما ولهذا استثناء الأصحاب مؤيدا بالإجماع على الظاهر والأخبار ويمكن أن يقال : المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما في الدّم ولحم الخنزير ، وإن ثبت تحريم جميع انتفاعاتها فيكون بغيرها ويحتمل فهمه أيضا ولهذا قالوا يحرم جميع الانتفاعات بالميتة لأنّ العين ما تحرّم ، وتقدير الأعمّ أولى ، لئلّا يلزم الإجمال والترجيح بلا مرجّح ، إذ لا قرينة على الخصوص فافهم وحينئذ يدلّ على عدم جواز لبس جلد الميتة في الصلاة وغيرها ، دبغت أم لا ، كما يدلّ عليه الأخبار بل إجماع الأصحاب ، ولا دلالة في الآية على نجاسة الميتة فتأمل ، وسوف يأتي البحث في تتمّة الآية في كتاب الأطعمة إنشاء الله تعالى.

الرابعة والخامسة: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢) ، الاية.

عدّ الله تعالى نعما منها خلق الأنعام للإنسان ، المشتملة على الدّفء وهو ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من شعرها وصوفها ووبرها ، ومنافع اخرى لهم مثل الركوب واللبن والحرث ، وأكل لحومها وغيرها ثمّ عدّ نعما أخر بقوله (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي جعل من البيوت المأخوذة من الحجر والمدر وغيرهما (سَكَناً) أي ما تسكن النفس إليه ، وتطمئنّ إليه من مسكن و

__________________

(١) في قوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المائدة : ١.

(٢) النحل : ٧٩ و ٨٠.

٧٤

موضع تسكنون فيه (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) يعني الأدم (بُيُوتاً) قال القاضي ويجوز أن يتناول المتّخذ من الوبر والصوف والشعر فإنّها من حيث إنّها نابتة على جلودها يصدق عليها أنّها مأخوذة من جلودها ، فتأمل فيه (تَسْتَخِفُّونَها) قبابا وخياما يخفّ عليكم حملها في أسفاركم (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي وقت ارتحالكم من مكان إلى آخر (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي الوقت الّذي تنزلون موضعا تقيمون فيه ، لا يثقل عليكم في الحالين (وَمِنْ أَصْوافِها) وهي للضأن (وَأَوْبارِها) وهي للإبل (وَأَشْعارِها) للمعز (١) (أَثاثاً) مالا ، قيل أنواعا من متاع البيت من الفرش والأكسية (وَمَتاعاً) أي سلعة تنتفعون بها وتتّخذونها (إِلى حِينٍ) إلى يوم القيمة عن الحسن وقيل إلى وقت الموت ، يحتمل أن يراد به موت المالك أو موت الأنعام ، وقيل إلى وقت البلى والفنا ، وفيه إشارة إلى أنّها فانية فلا ينبغي للعاقل أن يختارها كذا في مجمع البيان والأوّل بعيد.

السادسة: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) (٢).

أي وجعل لكم ممّا خلق من الأشجار والأبنية ظلالا أشياء تستظلّون بها في الحرّ والبرد (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) مواضع تسكنونها من كهف وثقبة تأوون إليهما (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) قمصا من القطن والكتان والصوف (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ترك البرد ، لأنّ ما يقيه يقيه ، واختاره على البرد ، لأنّ المخاطبين أهل الحرّ وليس عندهم البرد إلّا قليلا ، فالحفظ عنه أهمّ عندهم ، وقيل : إنّ الحرّ يقتل دون البرد ، ويحتمل أنّ البرد يمكن دفعه بشيء مثل النار والدخول في البيت ، بخلاف الحرّ (وَسَرابِيلَ) الدروع والجواشن (تَقِيكُمْ

__________________

(١) الشعر ما ينبت من مسام البدن مما ليس بصوف ولا وبر ، وهو عام ، وقول المصنف «للمعز» تمثيل ، قال في الكليات : الشعر للإنسان وغيره ، والصوف للغنم ، والمرعزاء للمعز ، والوبر للإبل والسباع ، والعفاء للحمير ، والهلب للخنزير ، والزغب للفرخ ، والريش للطائر ، والزف للنعام.

(٢) النحل : ٨١.

٧٥

بَأْسَكُمْ) شدّة الطعن والضرب في الحروب ، وتدفع عنكم سلاح أعدائكم وفيها دلالة على إباحة هذه الأمور ونحوها وهو ظاهر فتأمل (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (١) في الكشّاف قيل : إنكارهم النعمة هو قولهم : لو لا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله ، وإنّما لا يجوز التكلّم بنحو هذا القول إذا لم يعتقد أنّها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سببا في نيلها ، فتدلّ على تحريم هذا القول ، بل هو قريب من الكفر ، ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضا ، فلا بدّ من الاجتناب والاحتياط.

السابعة: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢).

المنع هو الصدّ والحيلولة ، قال في مجمع البيان : الظلم اسم ذمّ لا يجوز إطلاقه على الأنبياء والمعصومين كأنّه التعدّي وخلاف العدل ، والخروج عن طاعة الله تعالى ، والسعي هو الكسب ، يقال فلان يسعى على عياله أي يكسب لهم وضدّه الوقف والترك ، والخراب هو الهدم ، ومن للاستفهام الإنكاريّ مبتدأ وأظلم خبره ، ومساجد المفعول الأوّل لمنع ، وأن يذكر مفعوله الثاني ، ويحتمل أن يكون من محذوفة عن أن ، لأنّ حذف حرف الجرّ عن أن قياس ويجوز أن يكون مفعولا له بحذف المضاف ، أي كراهة أن يذكر.

كذا في الكشّاف ، ومجمع البيان ، ولا يرد عليه أنّه يفيد تحريم المنع المعلّل والمقيّد لا المطلق ، فيعلم الجواز في الجملة ، لأنّ نهاية ما يفهم منه أنّه من منع لا لذلك ، لا يكون أظلم ، بل يوجد من هو أظلم وهو كذلك فلا يحتاج إلى أنّها للمبالغة فيكون المبالغة أقلّ من المنع للكراهة ، وزاد في

__________________

(١) النحل : ٨٣.

(٢) البقرة : ١١٤.

٧٦

مجمع البيان احتمال كون المذكور بدلا عن مساجد ، بدل اشتمال ، كأنّه يقول ليس أحد أظلم ممّن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه ، لعلّ علاقة الاشتمال مثل اشتمال الظرف على المظروف والتقدير : ومن أظلم ممّن منع الناس من مساجد الله كراهية أن يذكر أو من ذكر الله ، وفي جعل مساجد ممنوعا كما وقع في الاحتمال الأوّل مسامحة ، فيحتمل القول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فكأنّ الأصل «متردّدي مساجد الله» فلا يرد ما قيل إنّ «منع» يقتضي مفعولين ، ولا يمكن أن يقدّر إلّا الذكر فإنّه الممنوع. على أنّ الذكر ممنوع منه ، والناس هم الممنوعون. والمقصود تحريم المنع من ذكر الله في المساجد أيّ مسجد كان ، وبأيّ ذكر كان وإن كان سبب النزول خاصّا بأنّه كان النزول في الرّوم حيث غزوا في بيت المقدس وخربوه ، أو في المشركين حيث منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية فأمّل.

ولا يبعد أن يراد به مطلق العبادة فيه ، بل المنع عن مطلق العبادة ، لظهور العلّة وتدلّ الآية على تحريم السعي في خرابه ، فيحرم الخراب بالطريق الأولى وفي ذكر السعي في الخراب بعد المنع إشعار مّا بأن يكون المنع عن الذكر فيها تخريبا ، والعبادة فيها تعميرا ، فيدخل الذكر فيها في تعمير المساجد ، وأمّا دلالة تتمّة الآية على تحريم دخول المساجد على الكفّار كما قيل ، فليس بظاهر. إذ ليس بظاهر في أنّ معناها النهي عن تمكّن الكفّار وتمكينهم من دخولها ، إذ قد يكون معناها كما هو الظاهر ما كان ينبغي لهم الدّخول في نفس الأمر ولا يليق لهم ذلك إلّا خائفين من أذى المسلمين ، والإخراج لهم ، وصار الأمر الآن بالعكس ، يعني في الواقع ما يستحقّون الدخول إلّا خائفين وذليلين وهم يتعدّون ذلك ويمنعون المسلمين من الدخول ، كما يدلّ عليه أيضا آخرها (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ويمكن كون ذلك الدخول خائفا والخزي (١) هو الذلّ في الدّنيا أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون ويكون العذاب العظيم في الآخرة إشارة إلى

__________________

(١) في نسخة سن بعد قوله خائفا : ولذا سئموا الخزي في الدنيا وإعطاء الجزية إلخ.

٧٧

عذاب يوم القيامة ، وهو عظيم ، وأيّ عظيم نعوذ بالله منه.

قيل (١) في الآية أحكام ، ما عرفناها بل لم يظهر كون بعضها حكما في نفس الأمر مثل وجوب اتّخاذ المساجد كفاية ، ووجوب عمارة ما استهدم منها ، ووجوب شغلها بالذكر ، واستحباب كلّ واجب كفائي عينا فتأمّل وهو أعلم.

الثامنة: (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٢).

فيها حثّ عظيم وترغيب جزيل على تعمير المساجد ، وأنّ له شأنا كبيرا عند الله حتّى أنّه لا بدّ من اتّصاف فاعله بهذه الأوصاف الجليلة ، وإلّا ففعله كعدمه فينبغي أن يكون التعمير ممّن يقيم الصّلاة ويؤتي الزكاة ، ولم يخش إلّا الله وإلّا فتعميره ليس تعميرا مرضيّا.

والمراد المبالغة ، وإلّا فالتعمير أمر مطلوب للشارع من كلّ مؤمن ويترتّب عليه ثوابه الّذي قرّره [الله] ولكن قد يكون فيه الزيادة بالإخلاص ، واتّصاف فاعله بالأفعل الحسنة ، ولا بعد في ذلك ، ولهذا قيل «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» فكأنّه إشارة إلى أنّ المؤمن الكامل لم يترك شيئا من العبادات ، بل يجعل غير الله معدوما حتّى لم يخف ممّا يهلكه من الانس والجنّ ، ويجعل خوفه وطمعه منحصرا فيه تعالى ، ومع ذلك يرجى أن يكون من المهتدين.

ثمّ إنّه قيل يحتمل أن يكون المراد بالتعمير رمّ المساجد بإصلاح ما يستهدم وتزيينها ، وإزالة ما تكره النفس منه ، مثل كنسها ، فإنه روي : من كنس مسجدا يوم الخميس وليلة الجمعة وأخرج من التراب مقدار ما يذرّ في العين غفر له (٣) والإسراج فيها روي أنّه من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش

__________________

(١) راجع كنز العرفان ج ١ ص ١٠٦.

(٢) براءة : ١٩.

(٣) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب ٨.

٧٨

يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ، ويحتمل أن يكون المراد شغلها بالعبادة مثل الصّلاة والزكاة وتلاوة القرآن ، وتجنّبها من أعمال الدّنيا واللهو واللّعب وعمل الصنائع بل الحديث فإنّه روي : الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب ، قيل المراد اللهو من الحديث وأيضا قد ذكروا أنّ منع المساجد من العبادة فيها تخريب حتّى إطفاء السراج ، ويمكن أن يكون المراد كلاهما ولا بعد في ذلك لوجود الدليل عليهما ، كما عرفت ، مع إمكان الصدق عرفا وشرعا وإن يكن لغة وعرفا عاما والله يعلم بحقيقة الحال.

وهنا آيات أخر تتعلّق بالمساجد ذكرنا آية منها :

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١).

أي توجّهوا إلى عبادة الله مستقيمين ، غير عادلين إلى غيرها ، وأقيموها نحو القلبة في كلّ وقت سجود أو في كلّ مكانه وهو الصّلاة ، أو في أيّ مسجد حضرت الصّلاة وأنتم فيه ، لا تؤخّروها حتّى تعودوا إلى مساجدكم ، فيحتمل استخراج صلاة التحيّة على ما قيل فتأمّل ثمّ أمرهم بالدّعاء عند كلّ مسجد مخلصين له ذلك وفيه دلالة على الحثّ على الدّعاء في المساجد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢) يعني الّذين يتّخذون دينكم لهوا ولعبا وهزؤا ، ويتمسخرون بدينكم من أهل الكتاب والمشركين ، لا يصحّ ولا يجوز لكم أيّها المؤمنون أن تحبّوهم وتولّوهم ويكون بينكم وبينهم مودّة ووداد ، وأن تكونوا أولياء لهم ، وتجعلونهم أولياء لكم ، بل بينكم وبينهم البغضاء والقتال ، فإنّ محبّة الله لا يجتمع مع محبّة عدوّه ، واتّقوا الله في موالاتكم أعداء الله إن كنتم مؤمنين حقّا وأنّ الايمان يعاند موالاة أعداء

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

(٢) المائدة : ٦٣ ، وذكرها كالمقدمة للاية التاسعة الاتية.

٧٩

الدّين ، ففيه إشعار بعدم جواز موالاة الفسّاق ، والمعاشرة معهم ، بحيث يشعر بالصداقة فافهم.

التاسعة: (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١).

أي لا تتّخذوا الّذين إذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوا مناداة الصلاة أي الأذان هزوا ولعبا أولياء قيل : كان رجل من النصارى إذا سمع أشهد أنّ محمّدا رسول الله في الأذان قال حرّق الكاذب ، يعني المؤذّن فدخلت خادمته أي جاريته بنار ذات ليلة وهو نائم ، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت ، واحترق هو وأهله لعنه الله ، قيل فيه دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب لا بالمنام وحده ، وفيه تأمّل إذ فيه دلالة على ثبوته في الشرع ، ففي الكتاب دلالة على أنّه كان في الشرع ذلك أمّا ثبوته بالكتاب فلا ، ولمّا كان لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة قال (لا يَعْقِلُونَ) كأنّه لا عقل لهم.

(النوع الخامس)

(في مقارنات الصلاة وفيه آيات)

قد استدلّ على وجوب القيام والنيّة والقنوت بقوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفي إفادته لها تأمّل لا يخفى ، وكذا استدلّ على وجوب تكبيرة الإحرام المشهور على الوجه المنقول بقوله تعالى (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) وبقوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٢) وفي دلالتهما أيضا خفاء فافهم ، واستدلّ على وجوب القراءة حتّى السورة أيضا بقوله تعالى وهي الرابعة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٣) وبقوله تعالى :

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) الاولى في البقرة : ٢٣٨ ، والثانية في أسرى : ١١١ ، والثالثة في المدثر : ٣.

(٣) المزمل : ٢٠.

٨٠