زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

صحيحة الحلبيّ عن الصادق عليه الصلاة والسلام أنّه سئل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم قال إن خرج قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم ، وإن خرج بعد الزوال فليتمّ صومه. وهو حسن على رواية الشيخ وصحيح على ما رواه في الفقيه (١) وهذه صريحة في الجواز قبل الزوال ويفهم بعده أيضا في الجملة لعدم المنع في الخبرين وعدم القول بالواسطة على ما أظنّ.

ولصحيحة رفاعة (٢) قال سألت أبا عبد الله عليه الصلاة والسلام عن الرجل يريد السفر في شهر رمضان قال : إذا أصبح في بلده ثمّ خرج فان شاء صام ، وإن شاء أفطر ، ولصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه الصلاة والسلام أنّه سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيّام فقال : لا بأس أن يسافر ويفطر ولا يصوم ، ولصحيحة حمّاد بن عثمان ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل من أصحابنا جاء خبره من الأعراض (٣) وذلك في شهر رمضان أتلقّاه وأفطر؟ قال نعم قلت أتلقّاه وأفطر أو أقيم وأصوم؟ قال تلقّاه وأفطر ، ولما في الفقيه في الصحيح عن أبان بن عثمان (٤) وسئل الصادق عليه الصلاة والسلام عن الرجل يخرج يشيّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة فقال : إن كان في شهر رمضان فليفطر ، قيل : فأيّهما أفضل يصوم أو يشيّع؟ قال يشيّع إنّ الله تعالى وضع الصوم عنه إذا شيّع. ويفهم منه استحباب التشييع على وجه آكد ، فافهم وغيرها من الأخبار على ما في المختلف لكن تركتها لعدم الصحّة.

والّذي يدلّ على مذهب أبي الصلاح وهو تحريم السفر في شهر رمضان أخبار غير صحيحة إلّا خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخروج إذا دخل شهر رمضان فقال لا ، إلّا فيما أخبرك به : خروج فيه إلى مكّة أو غزو في سبيل الله ، أو مال تخاف هلاكه ، أو أخ تخاف هلاكه ، وإنّه ليس بأخ

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤١٦ ، الفقيه ج ٢ ص ٩٢ ، الكافي ج ٤ ص ١٣١.

(٢) ترى هذه الروايات في المصادر الثلاثة بتقديم وتأخير في الصفحات.

(٣) أعراض الحجاز رساتيقه ، وفي الفقيه والكافي : الأعوص وهو عين قرب المدينة.

(٤) في نسبة هذا الحديث إلى أبان بن عثمان سهو راجع الفقيه ج ٢ ص ٩٠.

١٦١

من الأب والأمّ (١) ويمكن الجواب عن استدلاله بضعف الأخبار ، وبأنّ أبا بصير مشترك وأيضا أرسل عن أبي حمزة عنه في الفقيه ، فان كان الثماليّ كما هو الظاهر فالطريق على ما قيل قوىّ على تقدير توثيق أبي بصير وإن كان البطائنيّ فليس بقويّ أيضا لأنّه مجهول والظاهر أنّ أبا بصير هو يحيى بن القاسم على ما نقل في الكافي عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير وعليّ هو قائد أبي بصير يحيى فيحتمل سقوطه على ما في الفقيه.

وأيضا في الكافي «تريد وداعه» بدل تخاف هلاكه ، فلا دلالة فيه حينئذ وبأنّه ليس بصريح في التحريم ، فانّ كلمة «لا» تحتمل التحريم والكراهة وإن قلنا إنّ الأوّل أظهر ، ولكنّه ليس بمثابة يعارض هذه الأخبار ، ويخصّص عموم القرآن به إذ لا بدّ لتخصيص القرآن بالخبر من كون الخبر نصّا في الدلالة على ما يخرج به القرآن عن ظاهره ، وبالجملة ينبغي في تخصيص قطعيّ المتن بظنيّ المتن من كون دلالة المخصّص الظنيّ قطعيّة لينجبر به قطعيّة العامّ ، فلا بدّ أن يكون دلالة الخاصّ على الفرد المخرج بالمخصّص عن العام القطعيّ أقوى وأتمّ من دلالة العامّ عليه ، وهو ظاهر ومبيّن في الأصول ، فلا تغفل عن هذه اللّطيفة وبأنّه قد يكون بترك ما أخبر به أيضا مثل ما فهم من الأخبار ، بل ذلك متعيّن لعدم إمكان ترك هذه الأخبار كلّها ، أو أنّ هذا عامّ فيخصّص بتلك الأخبار يعني نزيد عليه ما وجد في الأخبار الأخر ، ولا يمكن حمل تلك على هذا ، إذ فيه حصر في أمور مذكورة محصورة ولو حمل على كلّ ضروريّ كما هو مذهب أبي الصلاح فهو خلاف الظاهر من الرواية فمذهبه أيضا لا يناسب دليله ، ومع ذلك لا يمكن حمل بعض الروايات عليه ، كما يعلم إذا تأمّلتها.

وبعد هذا كلّه يمكن حمله على الكراهية للجمع ويدلّ عليه ما ذكره الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت جعلت فداك يدخل عليّ شهر

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤٤٤ ، الفقيه ج ٢ ص ٨٩ ، الكافي ج ٤ ص ١٢٦. وفيه أو أخ تريد وداعه.

١٦٢

رمضان فأصوم بعضا فيحضرني زيارة قبر أبي عبد الله عليه‌السلام فأزوره وأفطر ذاهبا وجائيا أو أقيم حتّى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال : أقم حتّى تفطر قلت جعلت فداك فهو أفضل؟ قال : نعم أما قرأت كتاب الله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). ففيه دلالة على الأفضليّة وكذا يدلّ عليها ما رواه في الفقيه (١) في صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال : سألته عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثمّ يبدو له بعد ما يدخل ، فسكت فسألته غير مرّة فقال يقيم أفضل إلّا أن يكون له حاجة لا بدّ من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله ، وإن كان الحلبيّ محتملا ولكنّ الظاهر أنّه ثقة كما يفهم من كلامهم والمشهور أنه مكروه إلى أن يمضي ثلاثة وعشرون يوما ، فتزول الكراهة للخبر بذلك التفصيل ، حيث قال في الرواية : فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث شاء.

ثمّ اعلم أنّ في الأخبار المتقدّمة دلالة على الإفطار لو سافر قبل الزوال ، وعلى الصوم والاجزاء لو سافر بعده ، ويدلّ عليها مع ذلك الإجماع المنقول في المختلف عن الشيخ والأخبار الصحيحة الدالّة على أنّ من قصّر الصلاة قصّر الصوم ، ومن لم يقصّرها لم يقصّره (٢) فالعجب أنّ في المختلف بعد ما اختار ما قلناه هنا وردّ مذهب الشيخ قال : قوله إذا خرج بعد الزوال مع تبييت النيّة للسفر أمسك وعليه الإعادة ليس ببعيد من الصواب ، إذ لم يتحقّق منه شرط الصوم ، وهو النيّة. فإنّه في غاية البعد ، إذ لا معنى بالاعتداد بالصوم والأمر به ، ووجوب القضاء والإعادة مع أنّ الأمر مفيد للاجزاء والصحّة كما بيّن في محلّه إلّا أن يؤوّل بالإمساك وهو بعيد أيضا ، وليس له دليل إلّا ما تخيّل من قوله هنا ، إذ لم يتحقّق إلى آخره يعني النيّة شرط فإذا بيّت بنيّة السفر لم يتحقّق نيّة الصوم فلا يصحّ الصوم ، وهو ليس بدليل بعد ما نقلنا لك ما رأيت من أنّ النيّة قد لا تشترط في اللّيل وقد

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٩٠ الكافي ج ٤ ص ١٢٦.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٢٨٠ وج ٢ ص ٩١ و ٩٢.

١٦٣

يتحقّق على طريق الشرط ، ولهذا يوجبون النيّة على من بيّت نيّة السفر ، ويوجبون عليه الصوم لا الإمساك فقطّ حتّى يخرج وأيضا قد تحصل النيّة بالنهار بعد أن عرف أنّه إنّما يسافر بعد الزوال وحينئذ يصحّ فيجزي صومه أو يكون تبييت النيّة في اللّيل على هذه المثابة أي بأنّه إنّما يسافر بعد الزوال.

ثمّ قال بالتخيير بين الإفطار والصوم لصحيحة رفاعة المتقدّمة ، بعد أن قال أصحّ ما بلغنا في هذا الباب هي مع روايتي الحلبيّ ومحمّد الصحيحتين المتقدّمتين وقال إنّما قيّدنا ذلك بالخروج بعد الزوال ، جمعا بين الأخبار ، ولك أن تقول : الجمع بين الأخبار إن اقتضى ذلك يقتضيه قبل الزوال أيضا فإنّه نقل في المختلف أخبارا تدلّ على وجوب الصوم إذا سافر قبل الزوال أيضا مع أنّ حمل صحيحة رفاعة على النصف الأوّل أقرب ، لقوله أصبح ، ويأبى حمله على تفصيل صحيحة الحلبيّ المتقدّمة فيمكن الحمل على عمومه وهو ظاهر ، وحمل المتقدّمة على الاستحباب ، ويمكن حملها على قبل الزوال على معنى مخيّر بين أن يبطل سفره فيصوم ، وبين أن يلتزمه فيفطر ، أو يحمل على أنّ معناها إن خرج قبل الزوال فيفطر ، وإن خرج بعده فيصوم ، فهو مخيّر بين الصوم والإفطار بهذا التفصيل ، بل يجب حملها عليه لوجوب حمل المطلق والمجمل على المقيّد والمفصّل ، وقد مضى المفصّل والمقيّد.

واعلم أنّه قد طوّلنا في هذه المسئلة ، والعذر ما ذكره في المختلف للتطويل وهو كونه من المسائل الجليلة ، وأنّه أفتى فيه أوّلا بما ذكرناه أوّلا ثمّ استصوب مذهب الشيخ ، بعد ردّه ، واستدلّ عليه ، ثمّ استصوب التخيير واستدلّ عليه ، وهذا لا يخلو عن اضطراب ، على أنّه اعترض في هذه المسئلة على ابن إدريس بالاضطراب الله تعالى يعلم الصواب.

ثمّ اعلم أنّه لما كانت في الآية المذكورة بعدها دلالة مّا على بعض الأحكام مع اشتمالها على التحريض ، في الطلب والدعاء والسؤال من الله تعالى ، مع ورود أنّ دعاء الصائم لا يردّ ذكرناها هنا.

١٦٤

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١).

روي أنّ أعرابيّا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت (٢). النداء للبعيد المحتاج إلى رفع الصوت والمناجاة للقريب الّذي لا يحتاج إلى ذلك والخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله والتقدير فقل لهم إنّي قريب ـ وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد واطّلاعه على أحوالهم ـ بحال من قرب مكانه منهم ، يعني إذا سألك عبادي ـ وفي هذه الإضافة تشريف لهم ـ عن كيفيّة أحوالي من جهة القريب والبعد فقل إنّي عليم أعلم دعاءكم ، ولو كان في غاية الخفاء كما يسمع القريب إذا قرب فمه إلى اذنه يناجيه ، بل أقرب من حبل الوريد ، فأقبل دعاء الداعي إذا دعاني ، ولعلّ «ذكر إذا دعان» للتحريص في الدعاء والترغيب في التكرار ، وتعريف الداعي إشارة إلى داع خاصّ وهو الّذي يدعو متيقّنا للإجابة ، ويطلب ما له فيه المصلحة ، لا المحرّم ، ولا ما لا يليق بحاله وليس فيه المصلحة ، أو يكون إلى الجنس ، وبالجملة إنّ الله يعلم المصلحة ويستجيب معها ، ولا يستجيب بدونها ، ويعجّل ويؤخّر لذلك ولو لم يستجب يعوّض ويثيب في الدّنيا والآخرة فعلى تقدير عدم الإجابة لا ينبغي الترك واليأس ، فإنّ ذلك للمصلحة.

فاندفع بما قرّرناه السؤال المشهور كما ذكره المفسّرون أيضا.

وبعد أن وعد بالإجابة والقبول قال (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي أقبلوا أنتم أيضا دعوتي إذا دعوتكم وأمرتكم بالطاعات والدعاء ، فاطلبوا واسألوا تضرّعا وخفية لا بقلب ساه وغير متوجّه ، ومتعقّل لمعنى ما تقولون ، ولا جهرا ورياء فانّ الله لا يحبّ المعتدين واطلبوا ولا تستكبروا ولا تتركوا الدعاء استكبارا وتجبّرا ، وعدم اعتقاد

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) راجع الدر المنثور ج ١ ص ١٩٤ ، مجمع البيان ج ٢ ص ٢٧٨.

١٦٥

الإجابة وعدم علمه بالسماع وقدرته على الإجابة ، فإنّ من فعل ذلك يدخل النار مقيما فيها.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) إلى قوله (١) (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) في الكشّاف سأل زكريّا عليه‌السلام ربّه أن يرزقه ولدا يرثه ، ولا يدعه وحيدا بلا وارث ثمّ ردّ أمره إلى الله مستسلما فقال وأنت خير الوارثين ، إن لم ترزقني من ترثني ، فلا أبالي فإنّك خير وارث ، وإصلاح زوجه أن جعلها صالحة للولادة ، بعد عقرها ، وقيل تحسين خلقها ، وكانت سيّئة الخلق ، فيمكن أن يستدلّ بها على تحقّق الإرث من الأنبياء عليهم‌السلام فتذكّر! وعلى استحباب هذا الدعاء لطلب الولد ، ولا يبعد أن يستجاب له كما لزكريّا عليه‌السلام مثل الآيتين المتقدّمتين (٢) ويدلّ عليه الرواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣).

(إِنَّهُمْ كانُوا) بمنزلة التعليل لاستجابة دعاء الأنبياء السابقين عليهم‌السلام ، يريد أنّ الأنبياء المتقدّمين استحقّوا إجابة دعوتهم وقبول دعائهم بمبادرتهم إلى أبواب الخير ، ومسارعتهم في تحصيل العبادات كما يفعل الراغبون في الأمور الجادّون وقرئ (رَغَباً وَرَهَباً) بالإسكان ، وأنّهم يدعون الله رغبا راغبين في الدعاء ، وراجين للإجابة ، وخائفين من الردّ ، وعدم الإجابة ، وعقاب ربّهم ، مثل قوله (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (٤) وأنّهم كانوا خاشعين متضرّعين ، فالمسارعة إلى العبادات مطلقا مطلوبة لله كما في (وَسارِعُوا) (٥) فيدلّ على أنّ فعلها في أوّل الوقت أفضل ، الصلاة وغيرها ، إلّا لدليل وعلى الدّعاء.

__________________

(١) والآية هكذا : فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ـ الأنبياء : ٨٩ و ٩٠.

(٢) هما قوله (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) الاية وقوله بعدها «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً إلى قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ الاية.

(٣) يعني الرواية الاتية.

(٤) الزمر : ٩.

(٥) آل عمران : ١٣٣.

١٦٦

فهذه الآية تدلّ على استحباب كون الداعي مسارعا في الخيرات ، وراغبا وراهبا وخاشعا ليستجاب دعاؤه ، فيمكن أن يقيّد به عموم ما يدلّ على استجابة الدعاء مطلقا ، مثل قوله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وهذا أحد الأجوبة لما يقال : كثيرا مّا ندعو ولا نرى الإجابة فتأمّل.

قال في مجمع البيان : روى الحارث بن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي من أهل بيت قد انقرضوا ، وليس لي ولد ، فقال لي : ادع وأنت ساجد ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة طيّبة إنّك سميع الدعاء ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين» (١) فقد أشرنا فيما قلناه إلى معنى قوله تعالى في التحريص على الدعاء في الآيتين الأخيرتين بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) و (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٢).

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بتحصيل الإيمان أي التصديق بجميع ما جاء به الأنبياء لمن لا إيمان له ، وبالثبات والاستمرار للمتّصف به أو التصديق بأنّه قادر على الإجابة (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) راجين في ذلك كلّه الرشد ، يعني إصابة الحقّ والخير.

واعلم أنّه لمّا أمر بعبادات شاقّة وهي الصوم بتكميل العدّة على وجه أمر به والقيام بوظائف التحميد والتكبير والشكر على ما يليق به ، فإنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه ومع شرائطه عسر ومشقّة كما يفهم من الرواية المشهورة ، وهي على ما سمعتها من بعض الفضلاء أنّه روي أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله شيّبتني سورة هود إذ فيها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) في الكشّاف عن ابن عبّاس : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية ، ولهذا قال شيّبتني سورة هود والواقعة وأخواتهما ، وروي أنّ أصحابه قالوا له لقد أسرع فيك الشيب ، فقال شيّبتني سورة هود (٣) ، وعن بعض رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقلت له : روي عنك أنّك قلت

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٧ ص ٦١.

(٢) الأعراف : ٥٥ ، غافر : ٥٠. راجع ص ٨٢ و ٨٤ مما سبق.

(٣) ورواه الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة كما في المجمع ج ٥ ص ١٤٠ وهكذا في الدر المنثور ج ٣ ص ٣١٩.

١٦٧

شيّبتني سورة هود؟ فقال نعم ، فقلت : ما الّذي شيّبتك منها أقصص الأنبياء؟ وهلاك الأمم؟ فقال : لا ، ولكن قوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١) وعن جعفر الصادق عليه الصلاة والسلام (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال : افتقر إلى الله بصحّة العزم ، وغيره من الأخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام وأيضا قال في الفقيه قال أبو جعفر عليه‌السلام يا جابر من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره ، وقام وردا من ليله ، وحفظ فرجه ولسانه ، وغضّ بصره وكفّ أذاه خرج من الذنوب كيوم ولدته امّه ، قال جابر قلت له : جعلت فداك ما أحسن هذا من حديث؟ قال : ما أشدّ هذا من شرط (٢) أتى (٣) بهذه الآية الشريفة الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجاز لهم بأعمالهم حتّى يهون ذلك عليهم ، ويكونوا حريصا عليها ففهم من الآية وجوب الايمان وقبوله ، ووجوب قبول سائر الطاعات واعتقاد إجابة الدعاء ، واعتقاد أنّه سميع عليم ، وأنّه ليس في جهة ولا مكان إذ لو كان كذلك لما قرب إلى كلّ داع ، ثمّ بيّن أحكام الصوم وكيفيّة فعله بعد أن بيّن الفاعل فقال :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٤).

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أبي على السري كما في الدر المنثور ج ٣ ص ٣٢٠.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٦٠.

(٣) جواب قوله في الصفحة الماضية : لما أمر.

(٤) البقرة : ١٨٧.

١٦٨

قيل : سبب نزولها أنّ الله تعالى لمّا أوجب الصوم على الناس ، كان وجوبه بحيث لو صلّوا العشاء الآخرة أو رقدوا ، ما يحلّ لهم الأكل والشرب والجماع إلى اللّيلة القابلة ، ثمّ إنّ عمر باشر بعد العشاء فندم وأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتذر إليه فقام إليه رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت كذا في تفسير القاضي والكشاف وقاله في مجمع البيان ، أيضا ، وأنت تعلم أنّ هذا أيضا لا يناسب ما نقلنا عنهما في تفسير قوله تعالى في أوائل السورة (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) (١) الآية أنها تدلّ على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة ، وأنّ النبيّ معصوم قبل النبوّة أيضا وهذا دليل على أنّه (٢).

وأمّا تفسيرها فهو أنّ الله تعالى أباح الجماع في اللّيلة الّتي يصبح فيها صائما إذ الرفث هو الجماع هنا كما قاله المفسّرون ، ودلّ عليه سبب النزول ، وكأنّ لتضمّنه معنى الإفضاء عدّي ، بإلى (هُنَّ لِباسٌ) استيناف لبيان سبب الإباحة ، بمعنى أنّ الصبر عنهنّ صعب لأنّهنّ مثل الثياب لكم وأنتم كذلك ، فشبّه شدّة المخالطة والملامسة والانضمام بمخالطة الثياب وملامستها وانضمامها بصاحبها ، وقيل هنّ فروش لكم وأنتم لحاف لهنّ أو شبّه حفظ كلّ واحد حال صاحبه عن كشفه عند غيره بفعل الساتر وصيانته عن كشف عورته عند الغير.

(عَلِمَ اللهُ) بيان لزيادة سبب الإباحة ولطفه ورحمته لعباده ، بأنّه يعلم أنّهم ما يفعلون الصبر ، بل يختانون الأوامر والنواهي بالمخالفة والمعصية فما يؤدّون الأوامر الشرعيّة الّتي هي أمانات ، ويظلمون أنفسهم بتعريضها للعقاب وتنقيص حظّها عن الثواب لشهوتهم وقلّة تدبّرهم في العواقب ويسعون ويبالغون في الظلم والاختيان والخيانة لكثرة الميل والشهوة ، ولهذا قال (تَخْتانُونَ) وما قال

__________________

(١) البقرة : ١٢٤. راجع ص ٤٤ ـ ٤٨ فيما سبق.

(٢) عجز شعر أوله :

يحب الغلام إذا ما التحى

وهذا دليل على أنه

يقال : التحى الغلام : إذا نبت شعر لحيته وقوله على أنه اى على أنه كذا وكذا ، كناية ،

١٦٩

«تخونون» إذ الاختيان أبلغ في الخيانة كالاكتساب والكسب ، فإنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ، كما هو المشهور عندهم ، فيحتمل أن يكون الزيادة في الاكتساب هنا (١) إشارة إلى أنّ المعصية لا تكتب عليها ، ولا تصير سببا للعقاب إلّا بعد كثرتها : فعلا أو إصرارا والسعي والجدّ في تحصيلها وتعمّدها وعمدها (٢) والكسب في الطاعة ، إلى أنّ الطاعة تكتب ويثاب عليها ، بمجرّد وقوعها ، على أيّ وجه كانت وأدنى شيء منها ، فيكون إشارة إلى كمال كرم الله ولطفه ورحمته وشفقته قال صاحب الكشّاف وذكر في المطوّل أيضا أنّه إشارة إلى أنّ النفس إنّما تعمل المعاصي بالميل والشهوة والسعي ، فهي أعمل وأجدّ في المعصية ، بخلاف الطاعة.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي قبل توبتكم إن تبتم عمّا فعلتم ، ومحا عنكم ذنوب ما فعلتم من المحرّم الّذي ذكرناه من قبل أو مطلقا لعموم اللفظ ، فدلّ على وجوب قبول التوبة سمعا ، لأنّ الله تعالى أخبر بذلك (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) يعني لمّا جوّزنا ورفعنا التحريم ، فافعلوا ما نهيناكم عنه وابتغوا واطلبوا ما كتبنا لكم وقدّرنا وأثبتناه في اللّوح المحفوظ من الولد ، إشارة إلى أنّه لا ينبغي حصر الغرض من هذا الفعل في الشهوة وإعطاء النفس ما تريد ، بل ينبغي جعل ما هو مطلوب لله منه غرضا ومطلوبا ، أو اجعلوا جميع ما تطلبون في مطالبكم وأفعالكم من أرزاقكم وأزواجكم وأولادكم ما كتب الله لكم ، أي اقصدوا الّذي قدّره ورضيه لكم ، لا غيره ، فإنّكم تتعبون في التحصيل ، ولم يحصل وما يليق بكم أيضا ، لعموم اللفظ.

(وَكُلُوا) أي باشروهنّ وأطعموا (وَاشْرَبُوا) من حين الإفطار إلى أن يعلم لكم الفجر المعترض في الأفق ممتازا عن الظلمة الّتي معه ، فشبّه الأوّل بالخيط الأبيض ، والثاني بالأسود ، وبيّن المراد بأنّ الأوّل هو الفجر ، واكتفى ببيانه عن بيان الثاني لأنّه علم من ذلك ، ثمّ بيّن آخر الصوم بقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ

__________________

(١) في قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦.

(٢) في النسخ : وعدمها ، وهو تصحيف : وقد فسره بعضهم بقوله : أى يحتمل أن عدم زيادة الحروف والمعاني والكسب إشارة إلى أن الطاعة تكتب ، وهو كلام بارد.

١٧٠

إِلَى اللَّيْلِ) بأنّه أوّل اللّيل ، وهو دخول الظلمة في الجملة ، وقالوا يعلم بغروب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقيّة ، بحيث لا يبقى منها شيء وإن بقيت صفرة أو بياض ، هذا عند أكثر الأصحاب وعند الشيخ باستتار القرص كما عند العامّة والروايات مختلفة ، ولعلّ الأحوط ما قاله الأكثر للأكثريّة ، واحتمال دليل غيره التقييد به ، للخبر الدالّ على أنّ غيبوبة القرص المذكور في بعض الروايات يعلم بالذهاب المذكور.

ثمّ إنّه نهى عن المباشرة في حال كونهم عاكفين في المساجد ، وكأنّه لمناسبة اشتراط الصوم في الاعتكاف ذكر متّصلا بأحكام الصوم والاعتكاف هو اللزوم لغة ، وشرعا هو اللّبث المخصوص في مكان مخصوص للقربة ، ولا يحسن تعريفه بأنّه لبث في جامع صائما للعبادة كما هو في كلام بعض الأصحاب ، فإنّه مشعر بكون الغرض من اللبث فيه عبادة أخرى غيره من صلاة أو تسبيح أو قراءة أو غير ذلك وليس كذلك وتفصيل أحكامه وأحكام الصوم يطلب من كتب الفقه.

ثمّ أكّد الأحكام المذكورة بقوله (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني أنّ ما نهيتم عنه من المنهيّات صريحا أو في ضمن الأمر ، من حدود الله (فَلا تَقْرَبُوها) فنهى عن قرب المنهيّات وترك المأمورات للمبالغة مثل (لا تَقْرَبُوا الزِّنى) (١). أو المراد بالقرب المخالفة ، وبحدود الله أحكامه أمرا كان أو نهيا أي لا تتعدّوها لقوله تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) (٢) (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٣).

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) إلخ أي مثل هذا البيان المذكور يبيّن الله لكم آياته مثل الترخّص ، رجاء تقواكم عن المعاصي والمحارم.

وأمّا الأحكام المستفادة منها فهي إباحة الوطي في ليلة كلّ يوم يراد صومه أوّل اللّيل وآخره أيّ ليلة كانت ، وأيّ صوم كان ، وتحريم ذلك في النهار من المفهوم ، ومن مفهوم المفهوم إباحة التقبيل وغيره من الأفعال المتعلّقة بالنساء

__________________

(١) أسرى : ٣٢.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) الطلاق : ١.

١٧١

غير الجماع ، إذ مفهوم الإباحة المذكورة تحريم الرفث في النهار ، ومفهومه ما قلناه ، وذلك كلّه معلوم بالأصل والأخبار بل الإجماع أيضا فخلافه من التحريم والكراهة يحتاج إلى الدليل ، ووجوب التوبة ، لأنّه قد علم سقوط الذنب بها وفعل مسقطة الّذي هو مخلّص من ضرر عظيم واجب عقلا وسمعا أيضا على ما هو المقرّر.

ورجحان المباشرة المستفادة من الأمر أي باشروهنّ ويحتمل الاستحباب مطلقا إلّا أن يدلّ على غيره دليل ، كالكراهة مثل أوّل ليلة كلّ شهر غير شهر رمضان ، ونصفه وغيرهما ممّا هو المذكور في الفقه مع دليله ، إذ لا قائل بالوجوب أو يكون للإباحة مجملا ، والتفصيل مستفاد من الشرع مثل وجوبها لو خاف الوقوع في الزنا ، أو بعد مضيّ أربعة أشهر ، واستحبابها في أوّل ليلة شهر رمضان للرواية وانكسار الشهوة في النهار ، ورفع حدث يحتمل وقوعه من غير شعور ، وعند كثرة الميل مع عدم الوصول إلى الوجوب ، ورجاء حصول ولد يعبد الله ، والكراهة مثل ما مرّ ، والإباحة إذا لم يكن دليل على غيرها.

واستحباب النكاح ووجوبه أو التسرّي (١) لأنّ المباشرة المستحبّة أو الواجبة موقوفة عليه إذ الأصل عدم التقدير ، واستحباب طلب الولد بالنكاح ليعبد الله لا المال والجمال ، كما وقع النهي عنهما في الأخبار ، ولا قصد التلذّذ والشهوة كالبهائم واستحباب القناعة والرضا بما كتب الله ، واستحباب اختيار الولود أي من هي في سنّ من تلد أو من البيت الغالب عليهنّ الولادة أو الخالية من علامات العقم ، مثل عدم الحيض على ما قيل أو الّتي تزوّجت وما ولدت ، ولا يبعد فهم كراهة الوطي في غير القبل الّذي ليس هو من مظنّة حصول الولد ، وكراهة العزل عن الأمة والمتعة ، والتحريم في غيرهما يكون مستفادا من غيرها من الأخبار أو الإجماع إن كان.

وإباحة الأكل والشرب بل رجحانهما ، لبقاء الأمر في معناه الأصليّ في

__________________

(١) التسري : أخذ السرية ، والسرية كذرية الأمة التي أنزلتها بيتا وتزوجتها سرا لئلا تعلم زوجتك بها ، أو هو مطلق التزوج بالإماء.

١٧٢

الجملة وإن كان بعد النهي وقلنا إنّه للإباحة بمعنى رفع الحظر أم لا ، وهذا يجري في المباشرة أيضا ، وتحريم الأكل والشرب بعد الفجر للغاية لأنّ مفهوم الغاية حجّة كما هو الحقّ المبيّن في الأصول وهذا على تقدير حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأعمّ واضح ، وبالمعنى الأخصّ كذلك بضمّ أمر آخر إليه لا على حمله على الاستحباب.

وليس ببعيد إخراج جزء ما قبل الفجر أيضا من باب المقدّمة ، فيحرمان في ذلك أيضا كما يحرمان في جزء من أوّل اللّيل كذلك كما هو المصرّح في الأصول والمدلّل فحينئذ يمكن أن لا يصحّ النيّة مقارنة للفجر ، فكيف في النهار ، لوجوب تقديمها على المنويّ بحيث لا يقع جزء منه خاليا عنها يقينا ، وذلك لم يتحقّق إلّا بوقوعها قبله ، ففهم أيضا وجوب النيّة ليلا لأنّ الصوم المنويّ الّذي هو الإمساك في تمام النهار مع جزء من اللّيل من باب المقدّمة لا بدّ أن لا يخلو عن النيّة يقينا ولو لم تكن في اللّيل لم يتحقّق ذلك ، نعم لو فرض تحقّق الصوم بدون جزء من الليل يمكن القول بالمقارنة ، فيسقط المقدّمة كما في سائر ما يجعلونه مقدّمة للواجب فبناء على ما تقرّر عندهم يلزم مقارنة النيّة لذلك الجزء ، فجوازها من أوّل اللّيل وكذا النهار فيما يجوّزونه يحتاج إلى الدليل.

فقد ظهر لك من ذلك أنّه على تقدير جعل «حتّى» غاية للمباشرة أيضا لا يدلّ على جواز الوطي إلى الفجر ، فيدلّ على جواز وقوع الغسل نهارا وصحّة صوم المصبح جنبا ، وما ذكره في الكشّاف بقوله : قالوا فيه دليل على جواز النيّة بالنهار في صوم شهر رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، كما قاله القاضي أيضا غير ظاهر ، ثمّ إنّ الظاهر أنّ حتّى غاية للشرب لأنّ المذهب الحقّ الثابت في الأصول أنّ القيد المذكور بعد الجمل المتعدّدة للأخيرة فكأنّه أشار إليه صاحب الكشّاف بإسناد ما مرّ إلى الغير كيف لا ، وهو خلاف مذهب الحنفيّ؟ وأمّا هنا فيمكن تعلّقه بكلوا أيضا لأنّه مع الشرب كشيء واحد فكأنّهما جملة واحدة ، أو نقول ليس بمتعلّق إلّا بالشرب وكون الأكل مثله لدليل آخر من السنّة والإجماع

١٧٣

أو إجماع مركّب ، وكذا غاية الجماع ، واشتراط الصوم بالغسل في اللّيل وعدمه يفهم من موضع آخر ، وأكثر الأصحاب على اشتراطه ، وابن بابويه على عدمه ، والأخبار مختلفة ، والظاهر مذهب ابن بابويه للأصل والرواية الصحيحة الصريحة (١) بل ظاهر الآية حيث دلّت على جواز الرفث والمباشرة في جميع أجزاء اللّيل والشريعة السهلة وأولويّة الجمع بين الأدلّة بحمل ما يدلّ على الغسل ليلا على الاستحباب ولكنّ الاحتياط مع الجماعة ، وتركنا ذكر الأخبار والبحث عنها خوفا من التطويل مع أنّها مبيّنة في موضعها.

وأيضا وجوب الإفطار بمعنى تحصيل مبطل للصوم ولو كان بقصد إبطاله في الليل ، ويحتمل كون الإتمام إشارة إلى وجوب استمراره إلى اللّيل حسب فلا يجب غيره. وتحريم الوصال ، وأيضا مشروعيّة الاعتكاف في المسجد ، وتحريم مباشرة النساء فيه ، ولو ليلا ، ولا يفهم منه الشرطية ولا فساد الاعتكاف بالوطء لأنّ النهي ليس بمتعلّق بالعبادة حتّى يلزم تعلّق الأمر والنهي معا بشيء واحد شخصيّ فيكون محالا فيفسد ، نعم ذلك ثابت الأخبار بل الإجماع أيضا على الظاهر ، فقد علمت فساد قول القاضي : «وفيه دليل على أنّ الاعتكاف يكون في المسجد ، ولا يختصّ بمسجد دون مسجد ، وأنّ الوطي يحرم فيه ويفسده لأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد». لأنّك قد علمت أنّ النهي إنّما يدلّ على الفساد في العبادة إذا تعلّق بها أو بجزئها أو بشرطها الشرعيّ المأمور به.

وبالجملة التحقيق ما أشرت إليه ، ففي كلّ صورة يلزم اجتماع الطلب والنهي يفسد ، وهنا ليس كذلك إلّا أن يقال : يفهم التنافي هنا فتأمل ، بل يمكن كون التحريم لكونه في المسجد لا للاعتكاف فتأمل ، وأيضا خفاء في دلالة الآية بمجرّدها من غير انضمام تعريف الاعتكاف وثبوت الحقيقة الشرعيّة على أنّ الاعتكاف لا يكون في غير المسجد ، كما هو ظاهر كلامه ، وكذا في دلالتها على عدم الاختصاص بمسجد دون مسجد كما هو صريح نقل الكشّاف ، حيث قال : «وقالوا : فيه دليل على أنّ

__________________

(١) راجع الفقيه ج ٢ ص ٧٥ ، التهذيب ج ١ ص ٤١١ و ٤١٢.

١٧٤

الاعتكاف لا يكون إلّا في المسجد وأنّه لا يختصّ به مسجد دون مسجد» فانّ مضمونها تحريم المباشرة حين الاعتكاف في المساجد ـ بعد أن سلّمنا إرادة عموم المساجد أي أيّ مسجد كان ـ ولكن ما يفهم جواز الاعتكاف في أيّ مسجد كان ، بل تحريم المباشرة في أيّ مسجد يجوز الاعتكاف [ويتحقّق الاعتكاف فيه] وقد يكون ذلك مخصوصا ببعض دون بعض ، كما قيل إنّ مالكا يقول باختصاصه بالجامع ، وكذا بعض أصحابنا وبعض يقول باشتراطه في مسجد جمع فيه معصوم جمعة ، وقيل جماعة ، فخصّص البعض بالأربعة المسجدين ومسجد الكوفة ومسجد البصرة ، وبعضهم بالثلاثة الأول ، وبدّل البعض البصرة بالمدائن وهو بعيد ، وقال في الكشاف : وقيل : لا يجوز إلّا في مسجد نبيّ وهو أحد المساجد الثلاثة ، وقيل في مسجد جامع والعامّة على أنّه في مسجد جماعة وقرأ مجاهد «في المسجد» انتهى ، لعلّ المراد بالثلاثة مسجد الحرمين ومسجد الأقصى ، والجامع المسجد الأعظم ، وهذا يدلّ على عدم فهم العموم وفهم الاختصاص إلّا أن يقال : إنّهم فهموا العموم وخصّصوا بدليل ، وإن كان يلزمهم خلاف ظاهر الآية ، ولكنّه غير بعيد ولا عزيز.

١٧٥

(كتاب الزكاة)

وفيه أبحاث :

(الأول)

في وجوبها ومحلها

وفيه آيات :

الاولى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١).

أي ليس الخير والفعل المرضيّ كلّه صرف الوجه في الصلاة إلى القبلة حتّى يضاف إليه سائر الطاعات ، فيكون الخطاب للمسلمين أيضا أو يكون الخطاب لأهل الكتاب ، فإنّهم لمّا أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كلّ طائفة أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته فاليهود يدّعي أنّ البرّ هو التوجّه قبل المغرب أي إلى بيت المقدس ، والنصارى قبل المشرق قال الله تعالى ليس البرّ ذلك بل البرّ المعتمد عليه هو برّ من آمن بالله الآية ، فهنا المضاف محذوف ، وهو أولى من جعل البرّ بمعنى البارّ لموافقة ليس البرّ ، أي من صدّق بالله وبجميع صفاته من العلم والإرادة والكراهة والوحدة والقدرة والسمع والبصر والعدل والحكمة وجميع الصفات الثبوتيّة والسلبيّة ، كأنّ ذلك كلّه مراد بالإيمان بالله قال في مجمع البيان

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

١٧٦

يدخل فيه جميع ما لا يتمّ معرفة الله تعالى إلّا به كمعرفة حدوث العالم إلخ.

وصدّق بيوم القيامة بأنّه حقّ وفيه الحساب والعقاب ، والحشر والنشر والميزان وتطاير الكتب وجميع الأمور الواقعة فيه وصدّق بوجود الملائكة وأنّهم عباد الله يعبدون حيث يؤمرون وبالكتب المنزلة بأنّه حقّ وثابت ومنزل من الله تعالى إلى عباد الله وأنّ ما فيه حقّ وصدق ، وكذا التصديق بالأنبياء بأنّهم مبعوثون إلى الناس لتعليمهم ، وأنّهم معصومون من الذنوب وما يفعلون إلّا الحقّ.

(وَآتَى الْمالَ) عطف على (آمَنَ) أي من أعطى المال مع حبّ المال أي مع احتياجه كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سئل أيّ الصدقة أفضل قال : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر (١) أو على حبّ الله تعالى أي لوجهه ، والتقرّب به إلى الله ، وهذا نقله في مجمع البيان عن السيّد المرتضى قدّس الله روحه قال : ما سبقه إليه أحد وهو مذكور في الكشّاف وتفسير القاضي أيضا ، أو على حبّ الإعطاء ، والجارّ والمجرور حال «وذَوِي الْقُرْبى» أي قرابة المعطي أو قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه ورد الثواب العظيم لإعطاء القرابة ، لأنّه تصدّق وصلة الرحم ، وكذا صلة قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها تصدّق وصلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واليتيم من الانس من لا أب له ممّن لم يبلغ ، ومن باقي الحيوانات ما ليس له أمّ كذا قيل في مجمع البيان وغيره وفيه أيضا فيحتمل أن يكون معطوفا على القربى فيعطي المال من يكفلهم لأنّه لا يصحّ إيصال المال إلى من لا يعقل ، أو يكون معطوفا على ذوي القربى فيعطي المال أنفسهم ، نقلا عن الغير في كلا الوجهين ، ومنع إعطاء المال للأطفال سيّما المميّز غير ظاهر إلّا أن يكون من الحقوق الواجبة وكذا يشكل إعطاؤه لكلّ من يكفلهم حيث لا يكون وليّا ، فينبغي الإعطاء للوليّ ولا يبعد الإعطاء على تقدير عدمه إلى ثقة ليخرجه عليهم ، وصرف المعطي بنفسه عليهم على تقدير عدم الغير فتأمل.

__________________

(١) تمامه : ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا. راجع مجمع البيان ج ١ ص ٢٦٣ ، الدر المنثور ج ١ : ١٧١ من حديث أبي هريرة.

١٧٧

والمسكين من ليس له نفقة السنة ، على ما قالوا ، وابن السبيل من انقطع بسفره عن أهله ويكون غير قادر على الرّواح إلى أهله وإن كان غنيّا في أهله ، ولعلّه يشترط عدم قدرته على التصرّف في ماله الّذي في بلده ببيع ونحوه ، والسائل الفقير الّذي يسأل فهو أخصّ من المسكين ، والظاهر أنّ الفقر شرط في الجميع على تقدير الإعطاء من الزكاة الواجبة وترك لعدم الالتباس كما قال في الكشّاف وتفسير القاضي (وَفِي الرِّقابِ) أي أعطي المال في الرقاب بأن يشتري العبيد والإماء ويعتق مطلقا أو الّذين تحت الشدّة ، أو المكاتبين فقطّ ، والأوّل هو الظاهر من الآية.

وكذا البرّ برّ من أقام الصلاة بحدودها في أوقاتها مع الشرائط المعتبرة فيها ، وبرّ من آتى الزكاة مع الشرائط أيضا ، فهما أيضا عطف على (آمَنَ) كما قبلهما (وَالْمُوفُونَ) أي هم الموفون بعهدهم فهو خبر مبتدأ محذوف ، أي الّذين ذكروا من أصحاب البرّ هم الّذين يوفون بما عاهدوا الله ، ويمكن أن يعمّ العهد واليمين والنذر أيضا ، بل لا يبعد شموله لما عاهدوا الناس أيضا ، وهم الصابرون أيضا أي الحابسون أنفسهم على ما تكرهه لله (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) البؤس الفقر والوجع والعلّة (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت القتال وجهاد العدوّ أو الشدّة والرخاء ، والصحّة وو المرض و (الصَّابِرِينَ) قيل منصوب على المدح أي أعني بمن ذكرناه الصابرين كما أنّ الموفون مرفوع بالمدح ، ولكن وجود الواو غير مناسب في المنصوب بالمدح والمرفوع به أيضا لأنّهما صفتان في الأصل ، ولعدم ما عطفا عليه ظاهرا وكأنّه استيناف ، ويحتمل أن يكون الموفون عطفا على (مَنْ آمَنَ) والصابرين بتقدير وبرّ الصابرين عطفا عليه أيضا ، ولكن في الأوّل حذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه وفي الثاني أقيم على حاله كما في (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (١) بقراءة الجرّ بتقدير عرض الآخرة ، قال في الكشّاف (الْمُوفُونَ) عطف على (مَنْ آمَنَ) وأخرج (الصَّابِرِينَ) منصوبا على الاختصاص والمدح ، إظهارا لفضل الصبر في

__________________

(١) (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الأنفال : ٦٧.

١٧٨

الشدائد ، وقرئ «والصابرون» وقرئ : والموفين والصابرين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي الموصوفون بالصفات المتقدّمة هم الّذين صدقوا الله فيما قبلوا وعاهدوا وقت القتال ، أو هم الّذين صدّق أفعالهم نيّاتهم ، وهم المتّقون بفعلهم عن نار جهنّم وسائر العذاب ، أو عن الكفر وسائر المعاصي المهلكة ، ويحتمل أن يكون (وَآتَى الْمالَ) إشارة إلى غير الزكاة الواجبة من المندوبات والصلات وآتى الزكاة إشارة إليها أو يكون كلاهما في الواجبة : الأولى لبيان المصرف ، والثانية لبيان الفعل فقط ، ويكون الذكر على هذا الوجه والتكرار للاهتمام فما قال في مجمع البيان : في الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة غير ظاهر عندي إلّا باعتبار حصر البرّ أو حصر الصدق والتقوى في فاعل المذكورات ، وذلك أيضا غير واضح فافهم.

واعلم أنّه ليس في الآية دلالة على وجوب الزكاة ، بل ولا على وجوب شيء من المذكورات ، نعم فيها ترغيب وتحريص على الأمور المذكورة فيعلم الوجوب من موضع آخر ، فما كان فيها أحكام يعتدّ بها مع أنّ هذه الأحكام يفهم من غيرها مفصّلة ، ولكن ذكرتها لمتابعة من تقدّمنا كغيرها ، واشتمالها على فوائد حتّى قال القاضي : والآية جامعة للكمالات الإنسانيّة بأسرها دالّة عليها صريحا أو ضمنا فإنّها بكثرتها وشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحّة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة وتهذيب النفس ، وقد أشير إلى الأوّل بقوله «مَنْ آمَنَ ـ إلى ـ وَالنَّبِيِّينَ» وإلى الثاني بقوله «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ـ إلى قوله تعالى ـ وَفِي الرِّقابِ» وإلى الثالث بقوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخرها ، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده ، وبالتقوى باعتبار معاشرته للخلق ، وتهذيب أفعاله ونفسه أيضا ، وكأنّه إليه أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان (١) وفيها وفيه دلالة على عدم اعتبار الأعمال في الايمان بل في كماله.

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ٤٧.

١٧٩

الثانية: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (١).

فيها دلالة على وجوب الزكاة على الكفّار لأنّه يفهم منها أنّ للوصف بعدم إيتاء الزكاة دخلا في ثبوت الويل لهم ، ولكن علم من الإجماع وغيره عدم الصحّة منهم إلّا بعد الإسلام وكذا علم بالإجماع سقوطها عنهم بالإسلام ، ويدلّ عليه الخبر المشهور «الإسلام يجبّ ما قبله (٢)» وأما دلالتها على كون مستحلّ تركها كافرا ففيها خفاء ، نعم إشعار به من قوله (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) فإنّه يدلّ على كفر الموصوفين بعدم الإيتاء ، وذلك لم يكن إلّا مع الاستحلال بالنصّ والإجماع ولكنّهما يكفيان فتلغو الآية أو يقال : لأنّهم ما كانوا يتركونها إلّا استحلالا فتأمّل فيه.

الثالثة: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣).

الكنز هو المال المذخور تحت الأرض ، ولعلّ المراد هنا حفظه وعدم إنفاقه في سبيل الله ، فيكون (وَلا يُنْفِقُونَها) بيانا للمقصود ، ولعلّ الضمائر للكنوز أو الأموال أو لكلّ واحد من الذهب والفضّة ، والتأنيث باعتبار الفضّة أو باعتبار التعدّد والكثرة ، وقيل للفضّة والاختصار لقربها ، وفهم حكم الذهب بالطريق الأولى و «الّذين» مبتدأ تضمّن معنى الشرط و «فبشّرهم» خبره مع التأويل ، و «يوم» يحتمل أن يكون ظرفا لقوله «فبشّر» وأن يكون صفة «عذاب» أو «أليم»

__________________

(١) حم السجدة : ٧.

(٢) تراه في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج ٢ ص ١٣١ الدر المنثور ج ٣ ص ١٨٤.

(٣) براءة : ٣٦.

١٨٠