زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

أخيه ليأخذه ، ثمّ النداء بالسرقة ، وتفتيش وعائهم ونحو ذلك ، دلالة واضحة على جواز أمثال ذلك مع استعمال التورية إذ ذكر في التفسير أنّه عليه‌السلام ورّى ، ولكن يشكل لما تقدّم ، ولعدم الضرورة ، ولأنّ ذلك كان بحكم الله تعالى كما قال (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) (١) فتجويز ذلك لغيره قياس مع الفارق فلا يجوز مع أنّه يحتمل أن يكون المنادي غيره عليه‌السلام ثمّ في عدم منع يوسف ويعقوب أبناءه وترك استنابهم ومخالطتهم حتّى خاف عليهم الدخول من باب واحد فقال (ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) (٢) دلالة واضحة على جواز ذلك ، فتأمّل ، وفي عفوهما عنهم ، ودعائهما لهم دلالة واضحة على أنّ العفو حسن ، وصاحبه ممدوح وهو ظاهر عقلا ونقلا كتابا وسنّة متظافرة ، ثمّ في ترك يوسف إعلام أبيه وسائر أهله إلى ذلك الزمان مع قدرته عليه ، دلالة واضحة على ترك صلة الرحم بمثل ذلك ، وكان ذلك بأمره تعالى لمصلحة يعلمها الله فلا يقاس ، ولهذا نقل في الكشّاف أنّه لمّا أدخل أباه خزانة القراطيس ، قال يا بنيّ ما أعقّك؟ عندك هذه القراطيس ، وما كتبت إليّ على ثماني مراحل؟ قال : أمرني جبرئيل قال أو ما تسأله قال أنت أبسط إليه منّي ، فسأله قال جبرئيل : الله أمرني بذلك لقولك : وأخاف أن يأكله الذئب ، قال : فهلّا خفتني فيه ، دلالة على التوكّل ، وعدم الخوف إلّا من الله خصوصا الأنبياء والأولياء ونقل في الكشّاف أيضا أنّ سبب محنته أنّه ذبح شاة فقام ببابه مسكين ما أطعموه ، أو أنّه اشترى جارية فباع ولدها فبكت حتّى عميت.

وفي بكاء يعقوب ويوسف عليهما‌السلام دلالة واضحة على جواز البكاء على مفارقة الأحباب ، ولهذا بكى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الربّ وقال إنّما نهيت من الصياح والنياحة ولطم الوجه والصدر وتمزيق الثياب كما يفعله الجهّال ، ونهى عن الصوت عند الفرح وعند الحزن لا البكاء ، ففي كون البكاء على الميّت من أمور الدنيا بحيث يبطل الصلاة به كما قاله الفقهاء تأمّل ثمّ في سجود أبويه له دلالة على جواز السجدة لغير الله لكن

__________________

(١) يوسف : ٧٧.

(٢) يوسف : ٦٧.

٤٠١

للتعظيم لا للعبادة ، فيه ما تقدّم على أنّه قد يكون لله شكرا لا له ، كما قاله في الكشاف أيضا فتأمّل (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنّما يتّعظ ويعرف ما تقدّم الّذين عملوا على قضيات عقولهم ، فنظروا واستبصروا ، والمبرّؤن عن مشابهة الألف ومعارضة الوهم.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) (١) قيل عهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيّته (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ويحتمل العموم (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) كلّ ما وثقوه على أنفسهم من المواثيق بينهم وبين الله ، من العهود والنذور والأيمان وغير ذلك ، وبين خلقه من الأقارير والعقود والشروط وسائر ما قرّر معهم ، فهذا تعميم بعد تخصيص ، ويحتمل أن يكون معناهما واحدا ويكون الثاني تأكيدا للأوّل ، قال في مجمع البيان إنّما كرّر الميثاق ، وإن دخل جميع الأوامر والنواهي في لفظ العهد لئلّا يظنّ أنّ ذلك خاصّ فيما بين العبد وربّه ، وأخبر أنّ ما بينه وبين العباد من المواثيق كذلك في الوجوب واللزوم ، فيمكن جعل هذه دليل وجوب الوفاء بالنذور والعهود والشرائط والوعد.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الأرحام والقرابات روى في التهذيب عن سلمى مولاة (٣) أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كنت عند أبي عبد الله حين حضره الوفاة قال أعطوا الحسن بن الحسين بن علىّ بن الحسين وهو الأفطس (٤) سبعين دينارا قلت له : أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن؟ قلت :

__________________

(١) الرعد : ٢٠.

(٢) الأعراف : ١٧١.

(٣) روى القصة الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة ص ١٢٨ ، أيضا ، وفيه سالمة مولاة أبى عبد الله عليه‌السلام وهكذا في الكافي ج ٧ ص ٥٥ كتاب الوصايا وكتاب أبي الغنائم الحسنى النسابة على ما في عمدة الطالب ص ٣٤٠ وقد كان سالمة هذه أم ولد كما في مجمع البيان ج ٧ ص ٢٨٩.

(٤) كذا في النسخ ، وهكذا في المجمع والصحيح كما في نسخة الكافي وغيبة الشيخ وهكذا معاجم التراجم والأنساب : الحسن بن على الأصغر بن الامام زين العابدين على بن الحسين بن على أبى طالب ، كان صاحب راية محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية.

٤٠٢

بلى قال : سمعت قول الله تعالى (الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) فيها دلالة على صحّة نسب الأفطس ، وجواز إعطاء الفاسق والإحسان إلى من أساء ، والظاهر أنّه يدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرابة المؤمنين الثابتة بالقرآن مثل قوله تعالى (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وبالأخبار المتظافرة والإجماع بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم والذبّ عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم وطرح التفرقة بينهم وبين أنفسهم ، وإفشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم ، ومنه مراعاة حقّ الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر ، وكلّ ما تعلّق بالإنسان بسبب مّا حتّى الهرّة والدّجاجة ، وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان ، قال اتّقوا الله وكونوا من حيث شئتم! واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كلّه ، وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين ، كلّه من الكشّاف وفيه مبالغة وهذه دليل على ملاحظة صلة الرحم والاخوان والجيران وفي الأخبار الحثّ على ذلك مع مبالغة زائدة جدّا كثيرا (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي وعيده وما يترتّب على عصيانه من العقاب (وَيَخافُونَ) وعيدا بالخصوص (سُوءَ الْحِسابِ) فيجب على المؤمن أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب كما في الأخبار ، مثل ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : وحاسبوا قبل أن تحاسبوا ، والأخبار في الوعيد والترغيب غير منحصرة ، مثل قول الصادق عليه‌السلام قال له الراوي : أوصني فقال أعدّ جهازك ، وقدّم زادك ، وكن وصيّ نفسك ولا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك (١) روى في الكافي عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام لمّا استقصى رجل عن رجل حقّه وحسابه شكى إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : مالك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك لي عليه شيء فاستقصيت منه حقّي قال أبو عبد الله عليه‌السلام أخبرني عن قول الله عزوجل (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ألربّهم أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ، ولكن خافوا الاستقصاء والمداقّة (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٠.

٤٠٣

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على الطاعات واجتناب المعاصي ممّا تكرهه النفس ويخالفه الهواء (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) قيل طلبا لثواب الله وطلبا لمرضاته ، وامتثالا لأمره مخلصا لذلك لا لغرض آخر ، مثل رياء وسمعة أن يقال ما أصبر فلانا على البلاء وما أحمله ، ولئلّا يشمت به الأعداء كقول معاوية لحسن بن عليّ عليه‌السلام لمّا عاده في مرضه وقام إليه :

بتجلّدي للشامتين أريهم

أنّي لغيض الدهر لا أتضعضع (١)

وأنشد الحسن بن عليّ عليه‌السلام بيتا آخر من هذه القصيدة :

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

رائيت كلّ تميمة لا تنفع (٢)

وأشار إليه في المطوّل. والعجب أنّ معاوية ما عرف أنّ الشماتة فيما فعل أكثر لأنّه أطهر أنّه ضعيف ، وإنّما تجلّد لعدم الشماتة ، وفيه عين الشماتة ، مع عدم حياء ، وأذى حصل له من البيت الثاني. قال في الكشاف : صبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاقّ التكاليف ، ابتغاء وجه ربّهم لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلّا يعاب بالجزع ، ولئلّا يشمت به الأعداء كقوله بتجلّدي للشامتين أريهم ، ولا لأنّه لا طائل تحت الهلع أي الجزع ولا مردّ فيه للفائت ، ونقل شعرا :

ثمّ قال : وكلّ عمل له وجوه يعمل عليها فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسنا عند الله وإلّا لم يستحقّ به الثواب وكان فعله كلا فعله انتهى. بل قد يكون معاقبا بالفعل بل قد يكون شركا كما قيل في الرياء ، فالفعل ليس كلا فعله ، ففيها دلالة على الترغيب بجميع العبادات والصبر على جميع المصائب ، في الأفعال والتروك والأقوال وغيرها ، وعلى وجوب النيّة والإخلاص رزقنا الله وإيّاكم.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) فعلوها على الوجه المأمور به ، وقيل داوموا على فعلها «وَأَنْفَقُوا في سبيل الله» وجوبا أو ندبا (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي من الحلال الّذي يجوز الأرزاق والإنفاق منه إذ الحرام ليس كذلك ، بل ليس برزق منسوب إلى الله تعالى

__________________

(١) لريب الدهر.

(٢) ألفيت كلّ تميمة لا تنفع.

٤٠٤

«ومن» تبعيضيّة إشارة إلى عدم السرف ، فيدخل فيه الإنفاق الواجب على النفس والزوجة والأبوين والأولاد ، والزكوات ، والنذورات ، والأخماس ، والمندوبات من صلة الأقارب والاخوان ، ومطلق صرف المال لله (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي لا يلاحظ أنّ هذا عند الناس ، وينبغي أن يكون في الخلوة والسرّ بل يفعله لله سراة علانية ، واجبة كانت أو مندوبة ، ولا يؤخّر لأنّ في التأخير آفة إذ قد عرفت أنّ المدار على النيّة والإخلاص ، وهو أمر قلبيّ لا يخصّ بجهر وإخفاء ، وقد تقع الرياء في الإخفاء أكثر من الجهر.

ويحتمل أن يكون المراد التعميم لإدراك الفضيلة كما في قوله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) مع قول أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن وجه التقسيم في اللّيل والنهار والسرّ والعلانية ، ويحتمل التقسيم للواجب والندب ، كما في الكشّاف أو يكون للواجب فقط ، والتقسيم بالنسبة إلى من يعرف بأنّ له مالا ، وإلى من لم يعرف به ، كما قال القاضي وليسا بجيّدين.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بفعل الطاعة المعصية ، عن ابن عباس يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيّئ غيرهم ، وعن الحسن إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا ، وإلى مثل هذا أشار في الأخبار عنهم عليهم‌السلام : صل من قطعك ونحو ذلك ، وقيل إذا أذنبوا تابوا ، وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ويحتمل أن يكون إشارة إلى التكفير أو اللطف مثل قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) وأن يكون عامّة لدفع جميع القبائح على الوجه الحسن ، ومقابلته ودفعه بالحسن الجميل (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة دار الدّنيا ، وما ينبغي أن تكون عاقبة لأهلها ، فإنّ الآخرة هي عقبى الدار ومنتهاها وهي الجنّة الّتي وعد المتّقون ، والجملة خبر الموصولات ، إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لاولي الألباب فاستيناف لما استوجبوا بتلك الصفات.

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٤٠٥

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها) والعدن الإقامة أي جنّات لن يموتوا فيها ، وقيل هو طبقات الجنّة (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) من صلح للدخول منهم عطف على المرفوع في يدخلون ، ويحتمل كونه مفعولا معه ، والمعنى أنّه يلحق بهؤلاء ، كأنّ المراد به المؤمن ليخرج به الكافر ، والتقييد إشارة إلى أنّ مجرّد الأنساب لا ينفع بل لا بدّ من صلاح في الجملة ، وهو الايمان ، وليس المراد الصلاح الكلّي وإلّا فلا يحتاج للدخول إلى لحوق الأول بل هم أيضا يدخلون مثلهم ، وظاهر الآية أنّ سبب دخولهم اتّصاف هؤلاء الأول بهذه الصفات ، ففيها دلالة على أنّ الطاعة تنفع المطيع وهؤلاء الآباء إلخ بغير أن يشفع لهم ، فكيف مع الشفاعة ، والظاهر هو الأوّل لعدم القيد ، ولأنّ بالشفاعة يدخل غير هؤلاء أيضا (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أي من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مبشّرين بالدوام (بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) «بما» يتعلّق بعليكم أو بالسلام أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم ، وما مصدريّة أو موصول لصبرتم.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) (١) أي لا ترفعنّ عينيك إلى ما متّعنا الكفّار وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأولاد والأموال وغير ذلك من زهرات الدنيا ، فإنّها في معرض الزوال والفناء ، مع ما يتبعها من الحساب والجزاء ، وعلى هذا يكون أزواجا منصوبا على الحال ، والمراد به الأشباه والأمثال وقيل أنّ معناه لا تنظرنّ إلى ما في أيديهم من النعم الّتي هي أشياء يشبه بعضها بعضا فانّ ما أنعمنا عليك وعلى من اتّبعك من أنواع النعم وهي النبوّة والقرآن والإسلام والفتوح وغير ذلك أكثر وأوفر ممّا آتيناهم وقيل : معناه لا يعظمن في عينيك ولا تمدّهما إلى ما متّعنا به أصنافا من المشركين والأزواج والأصناف ويكون أزواجا على هذا مفعولا به.

نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرغبة في الدنيا ، فحرم عليه أن يمدّ عينيه إليها و

__________________

(١) الحجر : ٨٨ ، طه : ١٣١.

٤٠٦

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدّنيا هكذا في مجمع البيان وعلى هذا على تقدير وجوب التأسّي يحرم على أمّته أيضا ذلك ، إلّا أن يكون من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس بمعلوم ولا منقول في خصائصه ، والمراد بالنظر المنهيّ النظر الراغب الطامع فيه كما صرّح به في الكشّاف ، ويحتمل أن يكون على وجه الحسد والسلب عن غيره ، أو حصوله له من غير وجه شرعيّ فيحرم عليه وعلى أمّته بغير نزاع فتأمّل (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على كفّار قريش بأنّهم ما آمنوا ، أو نزل بهم العذاب ، أو لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب جهنّم ودلالة هذه أيضا على تحريم ذلك على أمّته مثل ما تقدّم وقريب منها قوله (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) وقوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) أي ألن لهم جانبك وارفق بهم ، يدلّ على وجوب ذلك على الكلّ كما تقدّم.

وأمّا قوله (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (٢) أي أظهره ولا تخفه خوفا وتقيّة لأنّ الله يعصمك عن الناس ، فالظاهر أنّه من خصائصه إذ يجب على غيره التقيّة في محلّها ، أو يحمل على غير محلّها ، وأمّا الترغيب بالتسبيح بقول سبحان الله والحمد لله [ومؤيّده واستعينوا بالصبر والصلاة] (٣) عند ضيق القلب وهجوم الغمّ ، والكون من الّذين يسجدون لله وحده ويتوجّهون إلى الله بالسجود له ، والكون على العبادة إلى أن يأتي الموت على ما يدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت ، فالظاهر أنه ليس بمخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) (٤) مبتدأ خبره ما يجيء في آخر السورة (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) إلخ (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) صفة لعباد الرحمن ، أو خبره و «أولئك» مبتدأ إشارة إلى عباد الرحمن ، ويجزون إلخ خبره ، في مجمع البيان وغيره هذه الإضافة للتخصيص والتشريف يريد أفاضل عباد الله كما يقال ابني الّذي يطيعني

__________________

(١) النور : ٢ ، الحجر : ٨٨.

(٢) الحجر : ٩٤.

(٣) البقرة : ٤٥ و ١٥٣.

(٤) الفرقان : ٦٣.

٤٠٧

وأنا راض عنه فلان ، ويكون توبيخا بأنّ غيرهم ليسوا كذلك ، فعباد الله الّذين هم عباده وهم عنهم راض هم المذكورون والموصوفون بالصفات المذكورة ، منها المشي على الأرض هونا : هينين ، فيكون حالا أو مشيا هيّنا ، فصفة مفعول مطلق محذوف وهو السكينة والوقار والتواضع ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها لا يتكلّف ولا يتبختر ، وقيل معناه علماء حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم عن الحسن وقيل أعفّاء أتقياء عن الضحّاك ، والهون الرفق واللين ، ومنه الحديث أحبب حبيبك هونا مّا وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنون هينون لينون ، والمثل إذا عزّ أخوك فهنّ ومعناه إذا عاسر فياسره ، والمعنى أنّهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع ولا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ولقوله (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (١) كذا في الكشاف ، فيدلّ على مرجوحيّة التبختر وغيره ممّا ينافي الهون بالمفهوم ، بل هو حرام على بعض الوجوه لما تقدّم (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) (٢).

ومنها (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بما يكرهونه أو يثقل عليهم (قالُوا) في جوابهم (سَلاماً) سدادا من القول لا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش ، وقيل : قولا يسلمون فيه عن الإثم والإيذاء أو تسلّما منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شرّ ولا نجاهلكم ونتسلّم منكم تسلّما فأقيم ذلك السلام مقام التسليم ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فانّ المراد هو الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ، والمراد بالجهل هنا السفه وقلّة الأدب ، وسوء الدّعة ، فيدلّ على مرجوحيّة مقابلة الجاهل بالجهل.

ومنها (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) في الكشاف البيتوتة خلاف الظلول ، وهو أن يدركك اللّيل نمت أو لم تنم ، وقالوا من قرأ شيئا من القرآن في صلوته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما ، وفيه إبهام وبعد ، والقائلون غير ظاهرين ثمّ قال : وقيل هما الركعتان بعد المغرب ، والركعتان بعد العشاء ، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء اللّيل كلّه أو أكثره ، يقال فلان يظلّ صائما ويبيت

__________________

(١) الفرقان : ٢٠.

(٢) أسرى : ٣٧.

٤٠٨

قائما ، والظاهر هو الظاهر ولا يبعد تحقّقه بالأكثر في اللّيالي والليلة إذ الكلّ بعيد ، والخروج عن العهدة مشكل وللعيون والزوجات مثلا حقّ كما يدلّ عليه بعض الأخبار ، ويدلّ عليه قوله (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).

وفي الذكرى أنّ الأحياء يحصل بمضيّ أكثر اللّيل ، وأيضا في العرف إذا فعل في أكثره ذلك يقال له فعل ذلك ، والمراد أنّهم يصلّون في الليل ويسجدون فيه ، في وقت ينبغي أن يسجد ويقام فيه يقومون ويسجدون فيه ، وهما جمع ساجد وقائم ، ويحتمل المصدر للمبالغة ، قيل : وتأخير القيام للرويّ وتخصيص البيتوتة لأنّ العبادة باللّيل أحمز ، وأبعد من الرياء ، فيدلّ على رجحان هذا الوصف ومرجوحيّة خلافه.

في مجمع البيان : قال الزّجّاج كلّ من أدركه اللّيل فقد بات ، نام أو لم ينم والمعنى يبيتون لربّهم باللّيل في الصّلاة ساجدين وقائمين ، طالبين لثواب ربّهم فيكونون سجّدا في مواضع السجود وقياما في مواضع القيام.

ومنها (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي يدعون بهذا القول (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إنّ جهنّم بئس موضع قرار وإقامة هي ، في الكشاف (غَراماً) هلاكا وخسرانا ملحّا لازما ومنه الغريم لالحاحه ولزامه ، وصفهم بإحياء اللّيل ساجدين وقائمين ، ثمّ عقّبه بذكر دعوتهم هذه إيذانا بأنّهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون متبتّلون إلى الله في صرف العقاب عنهم كقوله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ). «ساءت» في حكم بئست وفيها ضمير مبهم يفسّره مستقرّا ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، معناه ساءت مستقرّا ومقاما هي ، فتدلّ على أنّ قول هذا والدعاء به حسن ، وتركه ليس من دأب المؤمنين.

ومنها (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) قيل : الإسراف هو النفقة في المعاصي والإقتار الإمساك عن حقّ الله عن ابن عبّاس ، وقتادة ، وقيل السرف

٤٠٩

مجاوزة الحدّ في النفقة ، والإقتار التقصير عمّا لا بدّ منه عن إبراهيم النخعيّ ، وروي عن معاذ أنّه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال من أعطى في غير حقّ فقد أسرف ، ومن منع من غير حقّ فقد قتر ، وروي عن أمير المؤمنين علىّ عليه‌السلام أنّه قال : ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر ، (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافا فيدخلون في المبذّر ، ولا تضييقا فيصيرون به في المانع لما يجب ، وهذا هو المحدود ، والقوام من العيش ما أقامك وأغناك وقيل القوام بالفتح العدل ، وبالكسر ما يقوم به الأمر ويستقرّ عن ثعلب ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : القوام هو الوسط ، وقال عليه‌السلام : أربعة لا يستجاب لهم دعوة إلى قوله «ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا ربّ ارزقني ، فيقول ألم آمرك بالاقتصاد؟ (١) في الكشّاف القتر والإقتار التضييق الّذي هو نقيض الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحدّ في النفقة ، وصفهم بالقصد الّذي هو بين الغلوّ والتقتير ، وبمثله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٢) وقيل : الإسراف إنّما هو الإنفاق في المعاصي ، فأمّا في القرب فلا إسراف ، وسمع رجل رجلا يقول : لا خير في الإسراف فقال لا إسراف في الخير ويؤيّده ما في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : وأمّا الصدقة فجهدك حتّى تقول قد أسرفت ولم تسرف.

ثمّ قال القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء وقرئ قواما بالكسر وهو ما يقام به الشيء ، يقال أنت قوامنا يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص ، والمنصوبان أعني (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) جائز أن يكونا خبرين معا ، وأن يجعل «بين ذلك» ظرفا لغوا و «قواما» مستقرّا وأن يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكّدة.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) الآيات ، أي أولئك كما هم موصوفون بتلك الصفات الوجوديّة مبرّؤن عن هذه الصفات المقبّحة الّتي اتّصف أعداؤهم أي المشركون بها

__________________

(١) راجع الكافي ج ٦ ص ٢٧٩ ، ج ٢ ص ٥١٠.

(٢) أسرى : ٢٩.

٤١٠

من الشرك وقتل النفس بغير حقّ والزنا «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، [يضاعف إثمه] أي يأثم بالشرك وغيره ، وهم مخلّدون في النار إلّا التائب المؤمن الّذي يعمل عملا فإنّه يبدّل الله سيّئاته حسنات أي يمحو سيّئاته بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات والطاعة والتقوى ، وكذا (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يجلسون ولا يحضرون مجالس الخطائين ولا يقربونها تنزّها وصيانة لدينهم ، لأنّ مشاهدة الباطل على وجه الرضا به شرك فيه ، ولذلك قيل في النظارة إلى كلّ ما لم تسوّغه الشريعة : هم شركاء فاعليّة في الإثم ، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، لأنّ الّذي سلّطه على فعله هو استحسان النظارة في النظر ، ورغبتهم إليه ، ويحتمل أن يكون لا يشهدون شهادة الزور أي لا يكذبون في الشهادة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) اللّغو كلّ ما ينبغي أن يلغى ويطرح ، والمعنى وإذا مرّوا بأهل اللغو والمشتغلين به ، مرّوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن التوقّف عليهم والخوض معهم كقوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (١) وإذا ذكّروا بآيات الله ، أي إذا سمعوا بها أكبّوا عليها حرصا على استماعها وأقبلوا سامعين والعاملين بها والمتّعظين ، لا كالأصمّ والأعمى ، ويدعون ويقولون في دعائهم (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي ارزقنا من الأزواج والأولاد أزواجا وأعقابا يكونون قرّة عين لنا نسرّ بهم ، فيكون عملهم الطاعة والتقوى وما كان الله راض به (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) وأن يكونوا للمتّقين التابعين لله مخالطا وإماما لهم يقتدون بهم في دينهم للعلم والعمل ، وذلك موجب للجزاء العظيم المذكور بقوله (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ) الآية ، وبالجملة الآيات الشريفة دالّة على راجحيّة وحسن هذه الأوصاف الوجوديّة ، وأنّ لها دخلا في كمال الايمان مثل المرور باللّغو كراما ومرجوحيّة الصفات القبيحة مثل الشرك والرياء (٢) فلا بدّ من الاتّصاف بالأول وترك الثواني ، الله الموفّق.

__________________

(١) القصص : ٥٥.

(٢) الزنا خ.

٤١١

وفي قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (١) دلالة على كون الشعر صفة ذمّ وكذا متابعة الشعراء ويدلّ عليه الأخبار أيضا حتّى ورد إعادة الوضوء بقراءة ما زاد على ثلاثة أبيات إلّا أن يراد ما هو الباطل منه. في الكشّاف : «الشعرا» مبتدأ «ويتّبعهم الغاوون» خبره ، ومعناه أنّه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء والتمزيق بالأعراض والقدح في الأنساب ، ومدح من لا يستحقّ المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم إلّا الغاوون والسفهاء ويؤيّد التخصيص وجود الأشعار عن العلماء والصلحاء ، بل عن الأئمّة عليهم‌السلام والظاهر أنّه إذا كان مشتملا على النصيحة والحكمة والمباحات والحقّ والمراثي والمدح لأهل البيت عليهم‌السلام لا يذمّ ، ويدلّ عليه قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً). في الكشّاف استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الّذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ، أو إذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والآداب الحسنة ، ومدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة وصلحاء الأمّة ، وما لا بأس به من المعاني الّتي لا يتلطّخون فيها بذنب ، ولا يتلبّسون بشائبة ، ولا منقصة إلخ ، وتدلّ أيضا على مذمّة الخوض في الأمور من غير علم ، وكذا القول بما لم يفعل ، وهو مذموم جدّا ودلّت عليه الآيات والأخبار.

ويدلّ على مرجوحيّة الفرح في الدنيا قوله (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وكذا (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (٢) في الكشاف وذلك أنّه لا يفرح بالدنيا إلّا من رضي بها واطمأنّ إليها فأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنّه مفارق ما فيها عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح ، ويدلّ على تحريم التكبّر والعلوّ والفساد بل إرادتها أيضا فيدلّ على تحريم قصد المحرّم بمجرّده من غير فعله فافهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٤.

(٢) القصص : ٢٨ ، براءة ٧٢.

٤١٢

هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١) في الكشّاف إضافة اللهو إلى الحديث معناها التبيين وهي الإضافة بمعنى من ـ إلى قوله : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضيّة كأنّه قيل ومن الناس من يشتري بعض الحديث الّذي هو اللهو منه ، واللهو كلّ باطل ألهى عن الخير وعما يعنى ، ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير والأحاديث الّتي لا أصل لها ، والتحدّث بالخرافات والمضاحيك ، وفضول الكلام وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغنا وتعلّم الموسيقار وما أشبه ذلك وفي حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ وعنه عليه الصلاة والسلام ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الّذي يسكت وقيل الغنا منفذة للمال مسخطة للربّ مفسدة للقلب (٢).

الغناء مشهور فكلّ ما يسمّى في العرف بها فهو محرّم إذ لا معنى له شرعا قيل هو ترجيح الصوت المطرب وما اعتبر المطرب بعض ، والأصل أنّ تحريمه ثابت فكلّ ما يقال إنّه غناء فهو حرام إلّا ما استثنى مثل الحداء فان ثبت اعتبار الترجيع والطرب في الغنا فهو المحرّم فقط ، وما نعرفه ، وإلّا فيحرم الكلّ ، والاحتياط في ترك الكلّ.

في الكشّاف : والمراد بالحديث هنا الحديث المنكر كما جاء في الحديث الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش في مجمع البيان : وأكثر المفسّرين على أنّ المراد بلهو الحديث الغنا ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وأبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال منه الغنا وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال هو الطعن في الحقّ والاستهزاء به إلى قوله : فعلى هذا فإنّه يدخل فيه كلّ شيء يلهي عن سبيل الله وعن طاعته من الأباطيل والمزامير والملاهي والمعازف ، ويدخل فيه السخريّة

__________________

(١) لقمان : ٦.

(٢) راجع تفسير الكشاف ذيل الآية الشريفة.

٤١٣

بالقرآن واللّغو فيه وكلّ لهو ولعب والأحاديث الكاذبة والأساطير الملهية عن القرآن ، والظاهر حينئذ أنّه يدخل فيه القصص والحكايات السالفة الّتي لا فائدة تحتها ، بل جميع الأشياء الّتي ليس بعبادة فتأمّل ، ولكن قد يخصّ بالمعاصي فتأمّل.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (١) في الكشّاف يعني أنّ الحسنة والسيّئة متفاوتتان في أنفسهما ، فخذ بالحسنة الّتي هي أحسن من أختها ، إذا اعترضتك حسنتان ، فادفع بها السيّئة الّتي ترد عليك من بعض أعدائك ، ومثال ذلك رجل أساء إليك إساءة فالحسنة أن تعفو عنه والّتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك ، مثل أن يذمّك فتمدحه ، ويقتل ولدك فتفدّي ولده من يدعوه ، فإنّك إذا فعلت ذلك ، انقلب عدوّك المشاقّ مثل الوليّ الحميم ، مصافّة لك. ثمّ قال : وما يلقّى هذه الخليقة والسجيّة الّتي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلّا أهل الصبر وإلّا رجل خير وفّق لحظّ عظيم من الخير ويحتمل كون لا رائدة والمعنى ليستا بمتساويين وعدم الفاء يؤيّده والأحسن يؤيد الأوّل.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي منه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فأكّد العمل بتلك السجيّة بأنّه إن منعك وصرفك الشيطان عن هذا العمل الحسن الموجب للأجر العظيم ، فإنّه عدوّ يمنع عنه ، فاستعذ منه فإنّه يندفع عنك ومثلها (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٢) والمعنى أنّه تجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ، فإذا قال له أخزاك الله يقول أخزاك الله ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم ، قال فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ يقولون : نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا ، فيقال لهم ادخلوا الجنّة بإذن الله.

يجب السجود عند قراءة هذه الآية (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ

__________________

(١) فصلت : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢) الشورى : ٤٠.

٤١٤

وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (١) بالنصّ والإجماع ، قيل موضعه «تعبدون» لقربه من الأمر بالسجود وفيه تأمّل ، فإنّ هذا الأمر لا يدلّ على وجوبه عند قراءتها ، وهو ظاهر ، وقيل لا يسأمون وهو مذهب الأكثر لتمام المعنى ولأنّ الأصل عدم الوجوب وقد تحقّق حينئذ بالإجماع ولعلّ الفعل حينئذ أحوط ، إذ وجوبها فوريا بحيث يضرّ هذا المقدار من التأخير للاحتياط غير ظاهر ويمكن كون الأحوط السجدة مرّتين (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (٢) أي تركبونها وتركبونه حذف الضمير الأوّل لدلالة الثاني عليه (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) وظاهره مختصّ بالأنعام ، ويحتمل العموم قال في الكشّاف على ظهور ما تركبون ، وهو الفلك والأنعام (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) تكرار للمبالغة (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) وروي في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام قراءة هذه الآية وبعدها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عند الرّكوب (٣) وكذا آية (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) في السفينة.

في الكشّاف : ومعنى ذكر نعمة الله عليهم أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها ، ثمّ يحمدوا عليها بألسنتهم ، وهو ما يروى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا وضع رجله في الركاب قال «بسم الله» فإذا استوى على الدابّة قال الحمد لله على كلّ حال سبحان الّذي إلى قوله لمنقلبون ، وكبّر ثلاثا وهلّل ثلاثا. وقالوا إذا ركب السفينة قال (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وعن الحسين بن عليّ رضي‌الله‌عنهما أنّه رأى رجلا ركب دابّة فقال سبحان الّذي سخّر لنا هذا فقال أبهذا أمرتم فقال وبم أمرنا؟ قال أن تذكّروا نعمة ربّكم كان قد أغفل التحميد ، فنبّهه عليه ، وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله ، ومحافظتهم على دقيقها وجليلها ، جعلنا الله من المقتدين بهم ، وسائرين بسيرتهم. مقرنين مطيعين

__________________

(١) فصلت : ٣٨ و ٣٩. وقد مر البحث عنها في آيات العزائم.

(٢) الزخرف : ١٢.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ١٧٨.

٤١٥

(لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إلى الله تعالى ، ولمّا كان ركوبهما قد يؤل إلى الهلاك فقد أمروا أن يذكّروا ، ويجعلوا أنفسهم كالهالكة الراجعة إلى الله ، والغرض عدم الغفلة عن الله في كلّ حال والسّلام.

فيها دلالة على جواز ركوب البحر بالفلك ، وركوب الأنعام ، وأنّهما نعمة من الله على عباده ، واستحباب ذكر نعم الله بعد الوصول إليها والشكر عليها ، واستحباب قول (سُبْحانَ الَّذِي) إلى آخره بعد الركوب وإضافة الحمد.

ويدلّ على استحباب وسم موضع السجود ، بأن يظهر أثره فيه لكثرته قوله (سِيماهُمْ) علامتهم (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ) إلخ (١).

وفي قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٢) في القاضي : مستعار ممّا بين الجبهتين المتسامتتين ، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكم الله ورسوله فيه ، فلا تحكموا بأمر من أمور الدين ، قبل علمكم بأنّه بيّنه الله ورسوله فلا تقولوا ولا تفعلوا شيئا على أنّه أمر من أمور الدّين إلّا أن تعلموا أنّه ممّا قاله الله تعالى ورسوله دلالة على تحريم الفعل والقول من غير علم ، لعلّه يريد بالعلم أعمّ من الظنّ المعمول به في الفقه ، أو يؤل ذلك إلى العلم كما مرّ مرارا.

ويدلّ على عدم جواز التسخّر والاستهزاء بالمؤمنين وتحريمه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) (٣).

أي لا يسخر بعض المسلمين والمسلمات بعضهم ، وإنّما اقتصر في الأوّل على المسلمين وفي الثانية على المسلمات للوقوع والكثرة إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر ، وظاهره أنّ القوم مخصوص بالرّجال كالنساء بالمرأة ، ويحتمل العموم وخصّ هنا للمقابلة (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعيب بعضكم بعضا فإنّ المؤمنين كنفس واحدة ، واللمز الطعن باللّسان (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي ولا يدعوا بعضكم

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) الحجرات : ١.

(٣) الحجرات : ١١.

٤١٦

بعضا باللقب السوء الّذي لا يرضى به صاحبه ، النبز مختصّ باللقب السوء عرفا (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الجمع بين الايمان والفسق ، فلا يطلق الفاسق على المؤمن ، وفيه إشعار بعدم الاجتماع بينهما فتأمّل (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عمّا نهي عنه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع العصيان موضع الطاعة ، وتعريض النفس للعذاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) (١) : أي كونوا على جانب منه وإنّما ذكر الكثير ليحتاط في كلّ ظنّ ، ويتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ قبيل من الظنّ ، فانّ منه ما يجب اتّباعه كالظنّ ، حيث لا قاطع فيه من العمليّات ، وحسن الظنّ بالله ، وما يحرم كالظنّ في الالهيّات والنبوّات والامامات وحيث يخالفه قاطع ، وظنّ السوء بالله وبالمؤمنين ، ومباح كالظنّ في أمور المعاش (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل للأمر ، والإثم الذنب الّذي يستحقّ به العقاب (وَلا تَجَسَّسُوا) : ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ، والنهي عن تتّبع عورات المسلمين في الأخبار كثير مثل لا تتبّعوا عورات المسلمين فانّ من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته حتّى يفضحه ولو في جوف بيته (٢).

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء قولا أو فعلا إشارة وكناية ، وصريحا ، وبالجملة هي ما يفهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سئل عن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ، فان كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه ، لعلّ المراد بالذكر إظهار ما يكره باللّسان وغيره ، كما ذكره العلماء وصرّح به في الروايات (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيلا لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، مع مبالغات : الاستفهام المقرّر ، والإسناد إلى أحد ، فإنّه للتعميم وتعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وجعل المأكول لحم الأخ الميّت ، وتعقيب ذلك بقوله (فَكَرِهْتُمُوهُ) تقريرا وتحقيقا لذلك ، والمعنى إن صحّ ذلك أو عرض عليكم فقد كرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٣٥٤.

٤١٧

كراهته ، وانتصاب «ميتا» على الحال من اللّحم ، أو الأخ.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لمن اتّقى ما نهي عنه ، وتاب عمّا فرط منه ، وكانّ في قوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) إشارة إلى جواز غيبة الكافر ، والمعنى خصّوا أيّها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن غيبتها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممّن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ، فيه تأمّل إلّا أن يقصد حذر الناس عنه فيذكر ما فيه لذلك مع الحاجة فتأمّل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١) في الكشّاف المعنى أنّ الحكمة الّتي من أجلها رتّبكم على شعوب وقبائل ، هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ، فلا يعتزي إلى غير آبائه لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدّعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب ، ثمّ بيّن الخصلة الّتي بها يفضل الإنسان غيره ، ويكتسب الشرف والكرم عند الله ، فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) لا أنسبكم ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أيّها الناس إنّما الناس رجلان مؤمن تقيّ كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيّن على الله ، ثمّ قرأ الآية وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لما مات غلام أسود يحضر الجماعة فتولّى غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) الآية.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٢) أي تمّم وأكمل ما أمر به (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي سعيه «إن» هي المخفّفة من المثقّلة وهي مع ما بعده في محلّ الجرّ بيان لما في صحف موسى وإبراهيم ، أو في محلّ الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي «هو إلّا» كأنّه قيل : ما كان في صحف موسى وإبراهيم فأجاب به «وأن ليس» عطف عليه ، والمعنى لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ولا يثاب بفعل غيره ، ولا ينافي الاولى (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٣) وقوله عليه‌السلام من سنّ سنّة سيّئة فله

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) النجم : ٣٦.

(٣) المائدة : ٣٢.

٤١٨

وزر من عمل بها إلى يوم القيمة ، وهو ظاهر.

نعم ينافيه مؤاخذة العاقلة في الخطاء فخرج بالنصّ والإجماع ، وقيل لا ينافي الأخيرة ما هو المقرّر في الشرع من انتفاع الناس بعمل ولده وأخيه من الصدقة والحجّ ، بل الصلاة والصوم وغيرهما ممّا يفعل له بعده ، لأنّ سعي غيره كأنّه سعي نفسه ، وهو أن يكون مؤمنا صالحا لذلك فهو مبنيّ على سعيه ونتيجته ، ولهذا لو لم يكن مؤمنا لم ينفعه سعي غيره أصلا ، ولأنّ سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه له ، فهو بحكم الشرع ، كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه فيهما تأمل ، إذ لا شكّ أنّ الثواب الواصل إليه مثلا من الصدقة هو ثواب الصدقة وهي ليست فعله ، وفعل النائب أيضا على تقدير التسليم ليس فعل المنوب ، فليس الثواب مترتّبا على فعله ، وهو ظاهر.

ويمكن أن يقال إنّه من دين موسى وإبراهيم عليهما‌السلام وأن يقال : لمّا ثبت بالنصّ والإجماع وصول ثواب إلى شخص بفعل غيره مثل ما تقدّم ، لا بدّ من تخصيص هذه الآية بهما وليس ذلك بعزيز ، وأن يقال معناه أن ليس له ابتداء إلّا جزاء سعيه ، وهذا ليس له ابتداء بل لغيره ثمّ أعطاه إيّاه ، كالتفضّل الّذي يتفضّل الله تعالى به ، وأن يقال ليس له حقّ واجب يستحقّ طلبه إلّا جزاء عمله وسعيه فتأمّل أو يقال معناه ليس للإنسان مطلقا جزاء إلّا جزاء عمل إنسان ، وليس فيه تصريح بأن ليس لأحد إلّا جزاء عمله فتأمّل.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (١) قيل : مرفوع لفظا منصوب محلّا على الحاليّة عن فاعل «تمنن» أي ولا تعط مستكثرا ورائيا عادّا لما تعطيه كثيرا عظيما معتبرا في نظرك بل عدّه حقيرا كاللّاشيء ، ويحتمل كون المنّ بمعنى مطلق الإحسان ، قال في القاموس منّ عليه منّا أنعم واصطنع عنده صنيعة ومنة امتنّ. كما ورد في الروايات أنّ المحسن ينبغي أن يعدّ إحسانه إلى الغير حقيرا بل كالعدم وينساه ، بخلاف الإحسان إليه فإنّه ينبغي أن يعدّه عظيما ولا ينساه ، وإن كان قليلا وحقيرا

__________________

(١) المدثر : ٦.

٤١٩

فالاستكثار قد يكون حراما إذا لم يكن على الوجه المأمور به ، خصوصا إذا استلزم أذى المعطى ، فيضيّع ماله ويحصّل العقاب به من جهة الأذى والإسراف والتبذير وإليه أشير في قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) و (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) (١) فيكون النهي للتحريم وراجعا إلى القيد.

قال في الكشاف : أو طلبا لعوض كثير من الموهوب له ، فيكون نهيا عن الاستغزار ، وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب ، والظاهر أنّ هذا جائز في نفسه ، إلّا أن يضمّ إليه ما يحرّمه ، فيكون النهي للتنزيه والكراهة ، أو يكون حراما ومخصوصا به صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر خصائصه قاله في الكشاف والقاضي ولكنّه غير معلوم الكراهة ، إذا كان برضيّ فإنّ الهبة على طريق المعاوضة برضا الطرفين لم يظهر وجه كراهتها ، وما قالها الفقهاء أيضا وما عدّ من خصائصه أيضا إلّا أن يكون عندهم كذلك لهذه الآية.

وقال فيهما أيضا إنّه قرئ منصوبا بتقدير «أن» وقد قرئ بها ، ويحتمل حذفها على تقدير الرفع أيضا مع إبطال عملها كما روي القرائتان في أحضر في قول الشّاعر : ألا أيّهذا اللّائمي أحضر الوغى ، أي من أن أحضر الحرب والمعركة وقرئ أيضا بالجزم بدلا عن تمنن فيجزم بلا مثله ويكون حينئذ من مقولة قوله تعالى (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) الآية وعلى الأوّل من العطيّة كما يظهر من الكشّاف وفيه تأمّل ، إذ قد عرفت أنّ الأولى في الأوّل كونه بمعنى مطلق الإحسان واصطناع المعروف وفي غيره أيضا يصحّ العطيّة وأنّ قرأه النصب من الشواذّ مع إظهار أن وعدمه ، وإن حذف «أن» خصوصا مع العمل إذا لم تكن ظاهرة ، ويكون الأمر ملتبسا غير مستحسن ، سيّما في كلام الله تعالى وظاهر حذفه في الشعر فإنّه من دون تقديره لا معنى له ، وأنّ البدل إذا كان جملة عن جملة أخرى لا يعمل في لفظ البدل ما يعمل في لفظ مبدله ، فانّ البدل الّذي يعرب بإعراب مبدله من التوابع المعربة

__________________

(١) البقرة : ٢٦٤ و ٢٦٦.

٤٢٠