تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

ووحدانيّته فلا ينبغي لكم أن تشركوا به شيئا في العبادة والطاعة ، وإلّا يكن لكم به علم بل كنتم في ريب وشبهة ممّا أنزلنا على عبدنا من الأمر بالتوحيد وخلع الأنداد وإخلاص العبادة وملازمة الانقياد والطاعة حتّى في سائر الاحكام فانظروا في دلائل النبوّة من اعجاز القرآن وغيره كي يظهر لكم صحّة قوله ولزوم طاعته ويضطرّ عقولكم إلى وجوب تصديقه فيما أتاه من التوحيد وغيره ، فانّه كان مبعوثا ليخرج الناس من ظلمات الكفر والشرك والفسق إلى نور الإيمان والعبادة والطاعة ، ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله (١).

ثمّ المراد بالريب الشك مع تهمة ، وإنّما أضافه إلى التّنزيل دون الإنزال ، إذ كان من أسباب ارتيابهم وطعنهم فيه نزوله منجّما مفرّقا مدرّجا على قانون الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منها شيئا فشيئا حينا فحينا بحسب ظهور المقتضيات المتجدّدة وعروض الحاجات المختلفة إذ كانوا يقولون إنّه لو كان من عند الله سبحانه لأنزله جملة واحدة لعدم الحاجة حينئذ إلى سبق التروّي وانتظار المصالح وتتبع المقتضيات ، ولذا حكى الله تعالى عنهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٢) فقيل لهم ، إن ارتبتم في هذا الّذي نزل تدريجا كما يعطيه التكثير المستفاد من التفضيل فهاتوا أنتم بنجم من نجومه وسورة من سوره فانّه أيسر عليكم من أن ينزل الجملة دفعة واحدة يتحدّى بمجموعه فقد جعل ما اتّخذوه رتبة قادحة في اعجازه وسيلة إلى كونه حقا لا يحوم حوله شك وريبة تقوية للتحدّي ودفعا لما في صدورهم من الشبهة ، وهذه غاية الإلزام والتبكيت.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٧ ص ١١٣ عن تفسير القمي.

(٢) الفرقان : ٣٢.

٤٤١

وأضاف العبد إلى نفسه تكريما وتشريفا له وتنويها بذكره ، وتنبيها على شدّة اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله به سبحانه ، وإن ما ظهر منه من الدّعوة والرّسالة وسائر الشؤون فإنّما هو بأمره وإيجابه فمن أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله.

وقرء عبادنا يريد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله واوصيائه المعصومين الّذين هم مهابط الوحي ، وخزّان العلم ، وحملة الكتاب ، وهم المخصوصون بعلمه ومعرفة ظاهره وباطنه ، وتنزيله وتأويله ، وحقائقه وأسراره.

ولذا أضيف إليهم مع ما قرّر في محلّه من اتّحادهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله في عالم الأنوار قبل النّشأة البشريّة والكسوة العنصريّة إلّا أنّه صاحب التّنزيل وعليّ صاحب التأويل.

وأمّا ما يقال (١) : من أنّه أراد محمّدا وأمّته فإنّما هو ناش من العمى والقصور (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ... (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٢).

العبد وشرافته

وأمّا حقيقة العبوديّة فقد مرّ الكلام فيها في تفسير الفاتحة ، وهذا الإسم من أشرف أسمائه الشريفة ، وأخصّ ألقابه المنيفة ، ولذا قدّمه في تشهد الصلاة على الرّسالة.

ويضاف في إطلاقه عليه مرّة إلى الاسم المقدّم الجامع وهو الله كقوله : (وَأَنَّهُ

__________________

(١) الكشّاف للزمخشري ج ١ ص ٩٧.

(٢) سورة النور : ٤٠.

٤٤٢

لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) (١) وأخرى الى ضمير المتكلّم والغائب كما في المقام ، وخبر المعراج ، والتشهّد ، وذلك لعبوديّته المطلقة ووساطته الكليّة التّامّة العامّة في جميع الشؤون الالهيّة والفيوض الرّبانيّة من التكوينيّة والتشريعيّة ، بحيث قد ألقى في هويّته مثاله فأظهر عنه أفعاله كما في العلوي (٢).

ولذا قال الصادق عليه‌السلام على ما في مصباح الشريعة : العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة فما فقد من العبوديّة وجد في الربوبيّة وما خفي عن الربوبيّة أصيب في العبودية قال الله عزوجل (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣) أي موجود في غيبتك وفي حضرتك وتفسير العبوديّة بذل الكليّة ، وسبب ذلك منع النفس عمّا تهوى ، وحملها على ما تكره ، ومفتاح ذلك ترك الرّاحة وحبّ العزلة ، وطريقة الافتقار إلى الله عزوجل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعبد الله كانّك تراه ، فان لم تكن تراه فانّه يراك.

وحروف العبد ثلاثة : (ع ب د) فالعين علمه بالله تعالى ، والباء بونه عمّن سواه ، والدّال دنوّه من الله تعالى بلا كيف ولا حجاب.

ثمّ قال عليه‌السلام : وأصول المعاملات تنقسم على أربعة أوجه : معاملة الله ، ومعاملة النفس ، ومعاملة الخلق ، ومعاملة الدنيا ، وكلّ وجه منها ينقسم إلى سبعة أركان أمّا أصول معاملة الله فسبعة أشياء : أداء حقّه ، وحفظ حدّه ، وشكر عطائه ، والرضاء بقضائه ، والصبر على بلائه ، وتعظيم حرمته ، والشّوق إليه ، وأصول معاملة النّفس سبعة ، الخوف ، والجهد ، وحمل الأذى ، والرياضة ، وطلب الصدق ، والإخلاص ،

__________________

(١) الجنّ : ١٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٠ ص ١٦٥.

(٣) فصّلت : ٥٣.

٤٤٣

وإخراجها عن محبوبها ، وربطها في الفقر ، وأصول معاملة الخلق سبعة ، الحلم ، والعفو ، والتّواضع ، والسّخاء ، والشّفقة ، والنّصح ، والعدل والإنصاف ، وأصول معاملة الدنيا سبعة : الرّضا بالدّون ، والإيثار بالموجود ، وترك طلب المفقود ، وبغض الكثرة ، واختيار الزّهد ، ومعرفة آفاتها ، ورفض شهواتها مع رفض الرياسة ، فإذا حصل هذه الخصال بحقها في النفس فهو من خاصّة الله وعباده المقرّبين وأوليائه (١).

وفي البحار قال وجدت بخطّ شيخنا البهائي قدّس الله روحه ما هذا لفظه قال الشيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي نقلت من خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه‌الله عن عنوان البصري ، وكان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين ، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه‌السلام المدينة اختلفت إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك فقال لي يوما إنّي رجل مطلوب ، ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء اللّيل والنّهار فلا تشغلني عن ذكري ، وخذ من مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه ، فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده ، وقلت في نفسي لو تفرّس فيّ خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه ، فدخلت مسجد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمت عليه ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة ، وصلّيت فيها ركعتين ، وقلت أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم ، ورجعت إلى داري مغتمّا ، ولم اختلف إلى مالك ابن أنس لما شرب قلبي من حبّ جعفر ، فما خرجت من داري إلّا إلى الصّلوة المكتوبة حتّى عيل صبري ، فلمّا ضاق صدري تنعّلت وتردّيت وقصدت جعفرا ، وكان بعد ما صلّيت العصر ، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال حاجتك؟ فقلت : السّلام على الشريف ، فقال : هو قائم في مصلّاه ، فجلست

__________________

(١) مصباح الشريعة الباب ١٠٠.

٤٤٤

بحذاء بابه ، فما لبثت إلّا يسيرا إذ خرج خادم فقال : ادخل على بركة الله ، فدخلت وسلّمت عليه فردّ السّلام وقال : اجلس غفر الله لك ، فجلست فأطرق مليّا ثمّ رفع رأسه وقال : أبو من؟ قلت : أبو عبد الله قال : ثبّت الله كنيتك ووفّقك يا أبا عبد الله ما مسألتك؟ فقلت : سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته ، فقال : يا أبا عبد الله ليس العلم بالتّعلم إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك ، قلت : يا شريف فقال : قل : يا أبا عبد الله فقلت : يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟ قال : ثلاثة أشياء : أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكا ، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله ، يضعونه حيث أمرهم الله تعالى به ، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكا هان عليه الانفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه الدّنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدّنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند النّاس عزّا وعلوّا ، ولا يدع أيّامه باطلا ، فهذا أوّل درجة التّقى ، قال الله تبارك وتعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١) قلت : يا أبا عبد الله أوصني ، قال : أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى والله أسأل أن يوفقك لاستعماله : ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم ، فاحفظها وإيّاك والتّهاون بها قال عنوان : ففرغت قلبي له ، فقال : أمّا اللّواتي في الرياضة فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه ، فانّه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل إلّا

__________________

(١) القصص : ٨٣.

٤٤٥

عند الجوع ، وإذا أكلت فكل حلالا وسمّ الله ، واذكر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه ، فإن كان ولا بدّ فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ، وأمّا اللّواتي في الحلم فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل : إن قلت عشرا لم تسمع واحدة ، ومن شتمك فقل له : إن كنت صادقا فيما تقول فاسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذبا فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك ، ومن وعدك بالخناء فعده ، بالنصيحة والدّعاء ، وأمّا اللّواتي في العلم فاسأل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للنّاس جسرا ، قم عنّي يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي ، فإنّي امرء ضنين بنفسي (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (١).

قوله : إيّاك أن تأكل ما تشتهيه في بعض النّسخ : ما لا تشتهيه ولكلّ وجه ، وقد تقدّم شطر من الخبر عند تفسير قوله : إيّاك نعبد مع بعض الكلام في شرحه وفي هذين الخبرين الشّريفين كفاية وبلاغ (لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

تفسير (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)

أمر للتعجيز يظهر به عجزهم عن آخرهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه ، مع شدّة حرصهم وغاية أنفتهم وحميّتهم ، وتوفّر دواعيهم على المعارضة والمناقضة ، وهم العرب الغرباء ومصاقع الخطباء ، فأفحموا حتّى كأنّهم أبكموا ، وقد سمعت في المقدّمة العاشرة تمام البيان في وجوه إعجاز القرآن كما أنّه قد مرّ في غيرها الكلام في اشتقاق السّورة ومعناها.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

٤٤٦

وقوع التحدّي بكلّ سورة منه دليل على إعجاز كلّ منها ولذا نكّرها.

و (مِنْ مِثْلِهِ) إمّا متعلّق بمحذوف على أن يكون صفة للسورة أي بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا ، فعلى الأوّل يحتمل أن يكون من بيانيّة على معنى تعلّق الأمر التعجيزي بسورة هي مثل المنزل في حسن النظم وغرابة البيان فالمماثلة حينئذ في خصوص الكيفيّة ، وان تكون تبعيضيّة أي بسورة هي بعض مثل المنزل.

وربّما يقال : إنّ الأوّل أبلغ لإبهام الثاني بانّ للمنزل مثلا محقّقا عجزوا عن الإتيان ببعضه ، مع أنّ المماثلة المصرّح بها ليست من تتمّة المعجوز عنه حتّى يفهم أنّها منشأ العجز.

وفيه نظر لوقوع التحدّي حينئذ ببعض المماثل لإظهار عجزهم عنه فضلا عن الكلّ مع حمل الموصولة على ما هي ظاهرة فيه من العموم ، ومن هنا يظهر أنّ الثّاني أبلغ وأنسب ، وأن تكون زائدة كما عن الأخفش أي بسورة مماثلة له ويؤيّده قوله في موضع آخر (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١) وعلى الثّاني (٢) تكون ابتدائيّة لأنّ السّورة تكون مبتدئة ناشئة من مثل العبد.

وأمّا متعلّق بقوله : (فَأْتُوا) فالضّمير للعبد ، ويجوز أن يكون للمنزل على ما يأتي بيانه ، لكنّه في «الكشّاف» (٣) قد اقتصر على الأوّل عاطفا له على الأولين ، ولذا استشكلوا فيه حتّى صار معركة للآراء ومطرحا لأنظار الفضلاء ، سيّما بعد ما استعمله العضدي عن علماء عصره بطريق الاستفتاء وهذه عبارته : يا أدلاء الهدى

__________________

(١) يونس : ٣٨.

(٢) تفسير البيضاوي ج ١ ص ٣٥.

(٣) الكشّاف ج ١ ص ٩٨.

٤٤٧

ومصابيح الدّجى حيّاكم الله وبيّاكم وألهمنا بتحقيقه وإياكم ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم ملتبس ، ممتهن بالقصور لا ممتحن ذا غرور ينشد بأطلق لسان وأرقّ جنان :

ألا قل لسكّان وادي الحمى

هنيئا لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

قد استبهم صاحب الكشّاف (مِنْ مِثْلِهِ) متعلّق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله والضّمير لما نزّلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلّق بقوله : (فَأْتُوا) والضّمير للعبد حيث جوّز في الوجه الأوّل كون الضّمير لما نزّلنا تصريحا وحصره في الوجه الثّاني تلويحا فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا ، وفأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة ، وهل ثمّة حكمة خفيّة أو نكتة معنويّة أو هو تحكّم بحت ، بل هذا مستبعد من مثله ، فإنّ رأيتم ـ كشف الرّيبة وإماطة الشبهة والإنعام بالجواب أثبتم أجزل الأجر والثواب ، فأجاب عنه غير واحد ممّن عاصره أو تأخّر عنه كلّ منهم بشيء لا يخلو من شيء.

منها ما ذكره شيخنا البهائي طاب ثراه في رسالة صنّفها في هذا الباب وهو أنّ الآية الكريمة ما نزلت إلّا للتّحدي الّذي هو طلب المثل عمّن لا يقدر على الإتيان به ، فإذا قال المتحدّي فأتوا بسورة بدون قوله من مثله ، يفهم منه كلّ أحد أنّه يطلب سورة من مثل القرآن ، وإذا قال فاتوا من مثله ، فالظّاهر منه أنّه يطلب ما يصدق عليه أنّه مثل القرآن أيّ قدر كان سورة أو أقلّ منها أو أكثر ، وإذا أراد المتحدّي الجمع بين قوله (بِسُورَةٍ) وبين قوله (مِنْ مِثْلِهِ) فحقّ الكلام أن يقدّم من مثله ويؤخّر بسورة ، ويقول : فأتوا من مثله بسورة حتّى يتعلّق الأمر بالإتيان من المثل أوّلا بطريق العموم ، وكان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلا والكلام مفيدا

٤٤٨

لكن تبرّع ببيان القدر المأتي به فقال بسورة فيكون من قبيل التّخصيص بعد التعميم في الكلام والتّعيين بعد الإبهام وهذا الأسلوب ممّا يعتني به البلغاء.

وأمّا إذا قال (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، على أن يكون من مثله متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا ، وذلك لأنّه لما قال : بسورة عرف أنّ المثل هو المأتي منه فذكر من مثله على أن يكون متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا ، وكلام الله تعالى منزّه عن هذا ، فلهذا حكم بأنّه وصف للسورة قال : وتلخيص الكلام أنّ التّحدي بمثل هذه العبارة يقع على أربعة أساليب : الأوّل تعيين المأتي فقط ، الثّاني تعيين المأتي منه ، الثالث الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدّما والمأتي به مؤخّرا ، والرّابع العكس ، ولا يخفى أنّ أساليب الثلاث الأوّل مقبولة عند البلغاء والأخير مردود.

أقول : وفيه أنّ اعجاز القرآن لمّا كان من جهة بلاغته الغريبة الّتي فاق بها على كلّ كلام كان التّصريح على المثلية بعد ذكر السورة لزيادة التّنبيه على بلاغته وايقاظ المخاطب لزيادة التّامّل في وجوه إعجازه ، وهذه فائدة بليغة في المقام وأين هذا من الحشو في الكلام سيّما في مقام التّحدي وزيادة الاهتمام في رعاية المماثلة الّتي هي باعتبار الكيفيّة فلا يستغنى عنه بذكر السورة المنساقة للتنبيه على الكمّية ، هذا مضافا إلى ورود النقض عليه على فرض جعله وصفا للسورة ، وهو رحمه‌الله قد تنبّه لذلك في أثناء كلامه ثمّ ذكر أنّ له فائدة جليلة وهي التّصريح بمنشإ التّعجيز فإنّه ليس إلّا وصف المماثلة وعند ملاحظة منشأ التّعجيز أعني مثليته يحصل الانتقال إلى أنّ القرآن معجز وأنت خبير بحصول الفائدة على فرض التعلّق بفأتوا أيضا بناء على كون من مثله في موضع المفعول وبصورة بدلا عنه حسبما يأتي بيانه.

ومنها ما ذكره التفتازاني وهو أنّ هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به ، والذّوق شاهد بأنّ تعلّق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى

٤٤٩

منه بشيء ومثل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في البشرية والعربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة وأمّا إذا كان صفة السّورة فالمعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة ولا يقتضي وجود المثل بل ربما يقتضي انتفاؤه حيث يتعلّق به أمر التّعجيز ، وحاصله أنّ قولنا آت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل بخلاف آت ببيت من مثل الحماسة.

وردّه شيخنا البهائي رحمه‌الله بأنّه مبنيّ على كون القرآن كلّا له أجزاء وكون التّعجيز راجعا إلى الإتيان بجزء منه ، وامّا إذا جعلناه كليّا يصدق على كلّه وبعضه ، وعلى كلّ كلام يكون في لطيفة البلاغة القرآنيّة فلا نسلّم أنّ الذّوق يشهد بوجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى بشيء منه ، بل الذّوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكلّي فرد يتحقّق والأمر راجع إلى الإتيان بفرد من هذا الكلّي على سبيل التّعجيز.

وفي كلّ من الجواب والرّد نظر أما في الأوّل فلانّ دلالته على تحقّق ثبوت المثل غير واضحة بل هو ظاهر الدّلالة على فقده وتعذّره بعد حصول العجز عن الإتيان من مثله بسورة حيث أنّ من الواضح كون العجز ناشيا عن إيجاد المثل واختلاقه لا عن مجرّد الإتيان به مع تسليم الحمل على ظاهره وأمّا في الحقيقة فالإتيان بمثله ليس إلّا على وجه الرّسالة ونزول الوحي ، ومن البيّن أنّه متعذّر بالنّسبة إليهم وحيث إنّهم عاجزون عن الإتيان فالتّعجيز حاصل بالأمر بالإتيان ، وليس المراد أنّ المماثلة لا تتحقّق إلّا بصفة كونه وحيا بل الإتيان بمثل هذا الكلام لا يمكن إلّا بالوحي.

وأمّا في الثّاني فلانّ القرآن على فرض كونه كلّيا يصدق على الكلّ وعلى البعض الّذي يحصل به الاعجاز لكنّه لا يصدق على كلّ كلام يكون طبقة البلاغة القرآنية كما توهّمه على أنّه غير مذكور في الآية رأسا بل الضمير للموصولة الظاهرة بعمومه في الجميع وكونها كناية عن هذا المنزل الّذي له أسماء باعتبارات شتّى لا

٤٥٠

يوجب اعتباره من حيث كونه مسمّى للقرآن كما هو ظاهر.

ومنها ما ذكره صاحب الكشف (١) في حاشية الكشّاف قال : إذا تعلّق بسورة صفة له فالضمير للمنزل أو العبد ومن بيانيّة أو تبعيضيّة على الأول لأنّ السورة المفروضة مثل المنزل على معنى سورة هي مثل المنزل في حسن النظم أو لأنّ السورة المفروضة بعض المثل المفروض والأوّل أبلغ ولا يحمل على الابتداء على غير البعضيّة أو البيان فإنّهما أيضا يرجعان إليه على ما اختاره الرّازي وابتدائية على الثّاني ، وأمّا إذا تعلّق بالأمر فهي ابتدائية والضمير للعبد إلّا أنّه لا يبين إذ لا مبهم قبله وتقديره رجوع إلى الأوّل ولأنّ البيانيّة أبدا مستقرّ فلا يمكن تعلّقها بالأمر ولا تبعيض إذ الفعل حينئذ يكون واقعا عليه كما في قولك : أخذت من المال وإتيان البعض لا معنى له بل الإتيان بالبعض فتعيّن الابتداء ومثل السورة والسورة نفسها ان جعل مقحما لا يصلحان مبدأ للإتيان بوجه فتعين أن يرجع الضّمير إلى العبد وذلك لأنّ المعتبر في مبدئية الفعل المبدء الفاعلي أو المادي أو الغائي أو جهة يتلبّس بها ولا يصحّ واحد منها انتهى.

وحاصله أنّه بطريق السبر والتقّسيم حكم بتعيين كون من للابتداء ثمّ بيّن أنّ مبدئية الفعل لا يصلح إلّا للعبد فتعيّن أن يكون الضّمير راجعا إليه واعترضه شيخنا البهائي رحمه‌الله باحتمال كونه للتّبعيض إذ وقوع الفعل عليه لا يلزم أن يكون بطريق الأصالة بل يجوز أن يكون بطريق التبعيّة مثل أن يكون بدلا فكما يجوز أن يكون من الدّراهم مفعولا صريحا في المعنى على معنى بعض الدّراهم فكذا يجوز أن يكون بدلا عن المفعول فكأنّه قال بسورة بعض ما نزّلنا فتكون (بِسُورَةٍ) مفعولا

__________________

(١) الكشف عن مشكلات الكشّاف لعمر بن عبد الرّحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة (٧٤٥) ه ـ كشف الظنون ج ٢ ص ١٤٨٠.

٤٥١

بواسطة الباء وتكون البعضيّة المستفادة من من ملحوظة على وجه البدليّة ويكون الفعل واقعا عليه بالتّبع فيكون في حيّز الباء وإن لم يكن تقدير الباء عليه إذ قد يحتمل في التّابعيّة ما لا يحتمل في المتبوعيّة كما في قولهم ربّ شاة وسخلتها ، هذا مضافا إلى جواز كونها للابتداء أيضا بناء على كون القرآن مبدأ ماديّا للسورة من جهة التّلبس ولا بأس به على ما نبّه عليه في كلامه فانّ جهات التّلبس أكثر من أن تحصى من جهة الكميّة ولا تنتهي إلى حدّ من الحدود من جهة الكيفيّة وكون مثل هذا القرآن مبدأ مادّيا للسّورة من حيث التّلبس أمر يقبله الذّهن السّليم والطّبع المستقيم ، على أنك لو حقّقت معنى الابتدائيّة يظهر لك أن ليس معناه إلّا أن يتعلّق به على وجه اعتبار المبدئيّة الأمر الّذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهّما بل عن التفتازاني أنّ كون مثل القرآن مبدأ مادّيا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليّا وإن قيل إنّه أبعد منه بكثير فانّ الأوّل على وجه المجاز من جهة التّلبس والثّاني على وجه الحقيقة إذ لو فرض وقوعه لا يكون العبد إلّا مؤلفا لتلك السّورة مخترعا لها فيكون مبدأ فاعليّا لها حقيقة وأين هذا من مجرّد التّلبس المصحّح للسببيّة لكنّ الخطب سهل بعد اشتراكهما في صحّة الإطلاق.

ومنها ما هو المحكي عن حواشي الكشاف للقطب (١) رحمه‌الله من أنّه إذا تعلّق بقوله (فَأْتُوا) فالضمير للعبد لأنّ من لا يجوز أن يكون للتبيين ، لأنّ من البيانيّة تستدعي مبهما تبيّنه فتكون صفة له فتكون ظرفا مستقرّا أو لغوا وأنّه محال ، ولا يجوز أن تكون للتّبعيض وإلّا لكان مفعول (فَأْتُوا) لكن مفعول (فَأْتُوا) لا يكون إلّا بالباء ، فلو كان مثل مفعول فأتوا الزم دخول الباء في من وهو غير جائز فتعيّن أن تكون من للابتداء فيكون الضّمير راجعا إلى العبد لأنّ مثل العبد هو مبدأ الإتيان لا

__________________

(١) هو قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة (٧١٠) ه.

٤٥٢

مثل القرآن وهو قريب ممّا ذكره صاحب «الكشف» وقد سمعت الجواب عنه كما أنّه قد ظهر لك من تضاعيف ما مرّ فساد ما ربما يذكر في المقام أيضا من الوجوه الّتي لا طائل تحت الاطناب بذكرها في المقام سيّما بعد ما ظهر لك صحّة كون الضّمير للمنزل مع فرض التعلّق بالفعل كما لعلّه ظاهر القول المحكي في «المجمع» وهو وإن لم يكن على حدّ غيره من الوجوه الثلاثة المتقدّمة في الظّهور إلّا أن ذلك لا يقضي عليه بالفساد ولا يوجب ترك التّعرض لذكره في عداد المحتملات ولذا ترى صاحب الكشّاف وغيره يتصدّون لذكر الوجوه والمحتملات في الآيات من دون اقتصار منهم على خصوص الرّاجح منها في كلّ مقام ، ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لترك التّعرض لما مرّ من الاحتمال وإنّ شيئا ممّا سمعت لا يصلح عذرا لذلك. نعم قد يقال إنّ ردّ الضمير إلى المنزل أوجه ، وذلك لأوجه :

أحدها : المطابقة مع نظائره كقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١) وقوله (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) (٢) وقوله : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٣).

ثانيها : أن البحث إنّما وقع في المنزّل لأنّه قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) فوجب صرف الضّمير إليه فيفهم منه ضمنا إثبات نبوّة المنزل عليه ، ولو سيق الكلام للعكس لكان الأولى بالنظم أن يقال : وإن كنتم في ريب في أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله.

ثالثها : أن الضّمير لو كان عايدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو تفرّدوا وسواء كانوا أمّيين أو كانوا عالمين محصّلين

__________________

(١) يونس : ٣٨.

(٢) هود : ١٣.

(٣) الإسراء : ٨٨.

٤٥٣

أمّا لو كان عايدا إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فذلك لا يقتضي إلّا كون آحادهم من الأمّيين عاجزين عنه لأنّه لا يكون مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم وفي أنظارهم إلّا الشّخص الواحد الامي فلو اجتمعوا وكان كلهم أو بعضهم قارئين لم يكونوا مثله إذ الجماعة لا تماثل الواحد والقاري لا يكون مثل الامي ومن البيّن أن التحدي على الوجه الأوّل أقوى.

رابعها : أنّه مع عوده الى العبد لا دلالة فيه على كون السورة ينبغي أن يكون مثل ما أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في البلاغة والفخامة وحسن النظم والأسلوب وقضيّة التحدّي التّنبيه عليه.

خامسها : إنّ عوده إلى العبد يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته بأن كان ممارسا لدراسة العلوم وتتبّع الكتب.

سادسها : أن عوده إلى المنزّل هو الملائم لقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) وحرّره بعضهم بأنّ المعنى في قوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) إن كان ، وادعوا من حضركم إلّا الله فلا معنى للاستعانة بالكلّ على تقدير رجوعه إلى المنزل عليه ، لأنّ المراد فأتوا بسورة من واحد أخر عربي مثله في الفصاحة وتركيب الكلام ، وهذا ممّا لا حاجة فيه إلى الاستعانة سيّما بجميع من سوى الله وان كان المعنى وادعوا الهتكم واستظهروا بهم في المعارضة فلا يبقى للتّهكم معنى لأنّ التّهكم نشأ من طلب الأصنام للإتيان بمثل المنزل وإذا كان من يطلب منه المثل واحدا عربيّا ولا ندخل لغيره في الإتيان به فلا يكون في دعوة الأصنام تهكّم بل لا يكون لدعوتها للمعارضة معنى مناسب فيتنافر النظم أيضا وان كان المعنى وادعوا زعمائكم الّذين هم أمراء الكلام ليشهدوا انكم أتيتم بالمثل ففيه إيهام أنّ المأمور بالإتيان واحد من غيرهم فلا يتم الاعجاز بخلاف عوده إلى المنزل لعموم الخطاب.

٤٥٤

هذا غاية ما وجّه به الترجيح وكثير منه لا يخلو عن تكلّف ثمّ أنّه على فرضه لا يأبى عن الحمل على الوجه الاخر ايضا ولو على وجه التأويل بعد وروده في تفسير الامام عليه‌السلام فانّه قد فسّره على الوجهين معا على ما مرّت عبارته عليه‌السلام.

وقال عليه‌السلام مضافا إلى ما مرّ وإن كنتم يا أيّها المشركون واليهود وساير النواصب المكذّبين لمحمّد في القرآن وفي تفضيله أخاه عليّا المبرّز على الفاضلين الفاضل على المجاهدين الّذي لا نظير له في نصرة المتقين وقمع الفاسقين وإهلاك الكافرين وبثّه دين الله في العالمين ، (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) في ابطال عبادة الأوثان من دون الله وفي النهي من موالاة اعداء الله ومعادات أولياء الله ، وفي الحثّ على الانقياد لأخي رسول الله واتّخاذه إماما واعتقاده ، فاضلا راجحا لا يقبل الله ايمانا ولا طاعة إلّا بموالاة وتظنّون أنّ محمّدا تقوّله من عنده وينسبه إلى ربّه ، فان كان كما تظنّون (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّي لم يختلف قطّ إلى أصحاب كتب وعلم ولا تلمذ لأحد ولا تعلّم منه ، وهو من قد عرفتموه في حضره وسفره ، لم يفارقكم قطّ إلى بلد ليس معه منكم جماعة يراعون أحواله ويعرفون أخباره ، ثمّ جاءكم بهذا الكتاب المشتمل على هذه العجائب ، فان كان متقوّلا كما تظنّون فأنتم الفصحاء والبلغاء والشعراء والأدباء الّذين لا نظير لكم في سائر الأديان ومن سائر الأمم ، فان كان كاذبا فاللّغة لغتكم وجنسه جنسكم ، وطبعه طبعكم ، وسيتفق لجماعتكم أو لبعضكم معارضة كلامه هذا بأفضل منه أو مثله ، لأنّ ما كان من قبل البشر لا عن الله فلا يجوز أن لا يكون في البشر من يمكن من مثله ، فأتوا بذلك لتعرضوه وسائر النظّار إليكم في أحوالكم انّه مبطل كاذب على الله.

٤٥٥

تفسير (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ)

يشهدون بزعمكم أنكم محقون ، وأنّ ما تجيئون به نظير لما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهداءكم الّذين تزعمون أنّهم شهداؤكم عند ربّ العالمين لعبادتكم لها وتشفع لكم إليه ، انتهت عبارته عليه‌السلام في هذا المقام (١).

وقال عليه‌السلام متّصلا بما مرّت حكايته آنفا ما عبارته : ثمّ قال لجماعتهم (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) أدعوا أصنامكم الّتي تعبدونها يا أيّها المشركون ، وادعوا شياطينكم يا أيّها النصارى واليهود ، وادعوا قرناءكم من الملحدين يا منافقي المسلمين من النصّاب لآل محمّد وسائر أعوانكم على ارادتكم إن كنتم صادقين بأنّ محمّدا تقوّل هذا القرآن من تلقاء نفسه لم ينزله الله عزوجل عليه ، وإنّ ما ذكره من فضل عليّ عليه‌السلام على جميع أمّته وقلّده سياستهم ليس بأمر أحكم الحاكمين (٢) والشهداء جمع شهيد ، ويكسر شينه على ما في القاموس ، ويطلق بمعنى الحاضر ، والقائم بالشهادة ، والأمين في شهادة ، والّذي لا يغيب عن علمه شيء ، والقتيل في سبيل الله ، لأنّ ملائكة الرحمة تشهده ، أو لأنّ الله تعالى وملائكته شهود له بالجنّة ، أو لأنّه ممّن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية ، أو لسقوطه على الشاهدة وهي الأرض ، أو لأنّه حيّ عند ربّه حاضر ، أو لأنّه يشهد ملكوت الله تعالى وملكه على ما أشار إليها في «القاموس» والمعاني بجملتها كما ترى تدور على معنى الحضور ، قال الله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) (٣) وفي الخبر فليبلغ الشاهد الغائب.

ومعنى دون أدنى مكان من الشيء وأصله التّفاوت في الأمكنة ، يقال لمن هو

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) تفسير الإمام عليه‌السلام ص ١٥٤.

(٣) البقرة : ١٨٥.

٤٥٦

أنزل مكانا من الأخر : هو دون ذلك ، فهو ظرف مكان مثل «عند» إلّا أنّه ينبئ عن دنوّ أكثر وانحطاط قليل ، ومنه تدوين الكتب لجمعه ، فانّه إدناء البعض إلى البعض ، والشّيء الدّون للدّني الحقير ، ودونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك ، ويقال : هذا دون ذاك إذا كان أحطّ منه قليلا حطّا محسوسا ثمّ استعير للتفاوت في الأحوال والرّتب حتّى صار استعماله فيه أكثر من الأصل فيقال : زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ومنه قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث أثنى عليه بعض المنافقين : أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك (١).

ثمّ اتّسع في هذا المستعار فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ وإن لم يكن بينهما تفاوت قريب ، وهو بهذا المعنى قريب معناه من معنى الغير ، بل قيل : إنّه بمعناه ولذا فسّره به شيخنا الطبرسي في المقام (٢) وفي «القاموس» دون بالضمّ نقيض فوق ، ويكون ظرفا وبمعنى أمام ووراء وفوق ضدّ ، وبمعنى غير قيل : ومنه ليس فيما دون خمس أواق صدقة (٣) أي في غير خمس أواق ، وبمعنى سوى قيل ، ومنه الحديث : أجاز الخلع دون عقاص رأسها أي بما سوى عقاص رأسها (٤) ، ومعنى الشريف والخسيس ضد ، وبمعنى الأمر والوعيد.

ثمّ أنّه في الآية يمكن أن يكون بمعنى التّجاوز وهو الّذي يقال إنّها أداة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٧ ص ٤٦ طبع مصر سنة ١٣٧٨.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ١٣٦.

(٣) في لسان العرب : في حديث مرفوع : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. قال أبو منصور : خمس أواق : مأتا درهم.

(٤) في لسان العرب : الخلع تطليقة بائنة وهو ما دون عقاص الرأس يريد أنّ المختلعة إذا افتدت نفسها من زوجها بجميع ما تملكه كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها.

٤٥٧

استثناء ، ويكون بمعنى غير كما في قوله :

يا نفس ما لك دون الله من واق

وما للسع بنات الدّهر من راق (١).

وعلى هذا فالشهيد بمعنى القائم بالشهادة ، فان كان الظرف مستقرا على أن يكون حالا وأريد بالشهداء الأصنام فالمعنى أدعوا من اتّخذتموهم آلهة متجاوزين المعبود الحقّ في دعواكم ألوهيّتها وزعمكم أنّها شهداؤكم وشفعاؤكم يوم القيامة ، كأنّه قيل أدعوهم ليعينوكم في معارضة القرآن المعجز.

وفيه تهكّم بهم من جهة الاستظهار بالجماد ، وتنبيه لهم بأنّها من الله بمكان ، ومبالغة في التهكّم من حيث إنّهم يدّعون أنّهم شهداء عند الله ثمّ يجعلونه شركاءه ، وترشيح له للدّلاله على انّهم معروفون بنصرتهم وشهادتهم ، ولذا أمرهم بالاستظهار بهم.

وان أريد به الشهود على الحقيقة فالمعنى أدعوا أشرافكم ورؤسائكم الّذين هم أمراء الكلام وفرسان المقاولة ليشهدوا أنّكم أتيتم بمثل القرآن متجاوزين اولياء الله الذين لا شهادة عندهم بذلك ، يعني أنّ اشرافكم أيضا لا يشهدون بذلك حيث تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحّة الفاسد البيّن عندهم فساده ، فالكلام على إضمار مضاف أي من دون اولياء الله ، فانّ شهداءهم أولياءهم ، وعلى هذا فالدّعاء لإقامة الشهادة بانّ ما أتوا به مثل ، وفيه دلالة على أنّ عجزهم بمكان وأنّ أولياءهم وهم أصحاب المعارضة بالحقيقة معترفون بأنّه لا مثل

__________________

(١) أميّة بن أبي الصلت الشاعر الجاهلي الحكيم لم يوفق للإسلام ومات سنة (٥) ه والمراد ببنات الدهر : الحوادث استعارة ، وكلمة (من) في الموضعين زائدة لتوكيد الاستغراق ، أي لا حافظا لك إلّا الله ، ولا جابر لك إلّا هو.

٤٥٨

له ، وإنّما سمّاهم شهداء لأنّهم القائمون لهم بالشهادة ، أو لأنّهم يشاهدونهم عند المعاونة ، والشهيد بمعنى المشاهد كالجليس والأكيل ، ويمكن أن يكون الدّعاء للاستظهار والاستعانة ، وللأعم من أمرين بناء على عموم المجاز في الشهادة أيضا ، أو على أن يكون صفة لكنّه على ما قيل حكاية لمعتقدهم الباطل لزيادة التّهكم لا ابتداء خطاب منه تعالى ، فانّ الدّعاء غير متعلّق حينئذ بقوله من دون الله أصلا ، مع أنّ الشرط في إطلاق «دون» التقابل أو التداخل ، ومن البيّن أنّ قيام الأصنام بالشّهادة أنّهم يشهدون لهم يوم القيامة والقيام بالشهادة في حقّه تعالى أن يقولوا الله شاهد على ما نقول ، ولا تقابل بينهما حتّى يمنع أحدهما ويثبت الاخر بل الجمع بينهما أظهر بالنّسبة إلى مقاصدهم ولا إخراج إذ لا دخول ، لكنّه قد يمنع الشرط المذكور وكذا معنى القيام بها في حقّه ، وان كان الظرف لغوا متعلّقا بأدعوا فالمعنى أدعوا أوليائكم ولا تدعوا أولياءه ، بناء على ما سمعت من الإظمار ، ويرجّحه أصل التّعلق بالفعل وصراحة إخراجهم من تعلّق الدّعاء بهم ، وهو لإقامة الشهادة فيفيد التهكم ، ولو قيل لا تستظهروا بالله فانّه القادر عليه لفات معنى التهكم إلى الأمر بالامتحان لتبيّن العجز مع أنّه لا يصحّ استثناء الباري حينئذ لعدم دخوله في الشهيد بالمعنى المتقدّم ، أو أنّ المعنى أدعوا شهداء من البشر ، ولا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أنّ ما ندّعيه حقّ كما يقوله المبهوت العاجز عن اقامة الحجّة على صحّة دعواه ، وفيه تعجيز وتبكيت لهم وبيان لدحوض حجّتهم وانقطاع كلمتهم ، وأنّه لم يبق لهم متشبّث غير قولهم : الله يشهد إنّا صادقون ، وإن كان الشهيد بمعنى الحاضر فالظّرف إمّا متعلّق بالفعل والمعنى أدعوا من يحضركم من دون الله أي إلّا الله فإنّه

٤٥٩

أيضا حاضر ، والحاصل استعينوا بغير الله ولا تستعينوا به ، وانّا متعلّق بشهدائكم أي حاضرين كائنين من دون الله ، ويمكن أن يكون دون بمعنى قدّام حيث انّها جهة دانية من الشيء كما في قول الأعشى (١) : تريك القذى من دونها وهي دونه أي تريك القذى قدّامها وهي قدّام القذى.

فالشهيد بالمعنى الأوّل ودون ظرف له لغو ، والمعنى : أدعوا الّذين يشهدون لكم بين يدي الله للاستظهار بهم في المعارضة لا في أداء الشهادة بين يدي الله تعالى ، وفيه تهكّم وترشيح ، ومن محمولة على التبعيض ، لأنّ الشهادة كالجلوس ونحوه يقع في بعض تلك الجملة ، أو لأنّ صاحبها في بعضها.

وهذه الوجوه العشرة وإن ذكرت على وجه الاحتمال إلّا أنّ بعضها بمكان من الضّعف ولعلّه لا مانع من الحمل على الجلّ بل الكل بناء على عموم المجاز أو جواز الاستعمال في الجميع مطلقا على ما مرّ غير مرّة أو في خصوص الآيات القرآنية.

تفسير (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وقوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، والمعنى إن كنتم صادقين ، أنّه من كلام البشر وأنّ محمّدا تقوّله من تلقاء نفسه إلى آخر ما مرّ عن التفسير أو أنّكم مرتابون في التنزيل أو في المنزل فأتوا بسورة.

و «إن» دخلت هاهنا لغير شك لأنّ الله تعالى علم أنّهم مرتابون ، ولكنّ الله خاطبهم على عادتهم في الخطاب فيستعمل مع العلم بكلّ من الطرفين كما في

__________________

(١) الأعشى : عامر بن الحارث بن رباح الباهلي شاعر جاهلي.

٤٦٠