فإنْ قيل : فقد رجع الأمر إلى أنّ العقل هو الموجب ، من حيث أنّه بسماع كلامه ودعواه يتوقّع عقاباً ، فيحمله العقل على الحذر ولا يحصل إلاّ بالنظر ، فوجب عليه النظر.
قلت : الحق ـ الذي يكشف الغطاء في هذا من غير أتباع وهم وتقليد أمر ـ هو أن الوجوب لما كان عبارةً عن نوع رجحان في الفعل ، فالموجب هو الله تعالى ، لأنه هو المرجح ، والرسول مخبر عن الترجيح ، والمعجزة دليل على صدقه في الخبر ، والنظر سبب في معرفة الصدق ، والعقل آلة النظر والفهم معنى الخبر ، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور بالعقل ، فلابدّ من طبع يخالفه العقوبة الموعودة ، ويوافقه الثواب الموعود ليكون مستحثّاً. لكن لا يستحثُّ ما لم يفهم المحذور ولم يقدّره ظناً أو علماً ، ولا يفهم إلا بالعقل ، والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه ، بل الله هو المرجع والرسول مخبر ، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه بل المعجزة ، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها ، والنظر بالعقل.
فإذا قد انكشفت المعاني ، فالصحيح في الألفاظ أنْ يقال : الوجوب هو الرجحان ، والموجب هو الله تعالى ، والمخبر هو الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المعرّف للمحذور ، ومصدّق الرسول هو العقل ، والمستحث على سلوك سبيل الخلاص هو الطبع.
هكذا ينبغي أنْ يفهم الحق في هذه المسألة ، ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي العليل ولا يزيل الغموض » (١).
__________________
(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ١١٩ ـ ١٢١.