٨ ـ وأن يعلم أن للعالم محدثا أحداثه. والدليل على ذلك وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر ، ولا يجوز أن يكون ما تقدم منها وتأخر متقدما ومتأخرا لنفسه ، لأنه ليس التقدم بصحة تقدمه أولى من التأخر بصحة تأخره ، فوجب أن يدل على فاعل فعله ، وصرفه في الوجود على إرادته وجعله مقصورا على مشيئته ، يقدم منها ما شاء ويؤخر ما شاء. قال الله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل : ٤٠] ويدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلا كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بالفعل ، فإن تعلق الكتابة ، والصناعة بالكاتب والصانع كتعلق الكاتب في كونه كاتبا بالكتابة ؛ فلو جاز وجود فعل لا من فاعل ، وكتابه لا من كاتب وصورة وبنية محدثة لا من مصور ، لجاز وجود كاتب لا كتابة له ، وصانع لا صنعة له ، فلما استحال ذلك وجب أن يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلا. لوجود الفعل وحصوله منه ، ومن صفات هذا الصانع تعالى أنه : موجود ، قديم ، واحد ، أحد ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، سميع ، بصير ، باق (١) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] وسندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله بعد البداية بفرائض المكلفين ، وشرائع المسلمين مما يقرب فهمه ولا ينبغي جهله ، ولا بد للمكلف من علمه والعمل [به] فإذا أتينا على هذه الجملة رجعنا إلى القول في التوحيد ، وإثبات أسماء الله تعالى وصفاته ، وذكر ما يجوز عليه وما يستحيل في صفته ، وما توفيقي إلا بالله.
٩ ـ وأن يعلم : أن أول نعم الله تعالى على خلقه الحيّ الدرّاك خلقه فيهم إدراك اللذات ، وسلامة الحواس ، ونيل ما ينتفعون به من الشهوات التي تميل إليها طباعهم ، وتصلح عليها أجسامهم ، ولو أحياهم ، وآلمهم ومنعهم إدراك اللذات لكانوا مستضرين بالآلام ، وبمثابة الأحياء المعذبين من أهل النار ، وهذه نعمة الله سبحانه على جميع الحيوان الحاس ، العاقل منهم والناقص ، والمؤمن والكافر.
١٠ ـ وأن يعلم أن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم ، وإجراؤه على ألسنتهم ، وتوفيقهم لفعله ، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان ، والتوفيق له نعمة خصّ الله تعالى بها المؤمنين دون الكافرين ، ولذلك قال عزوجل : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [البقرة :
__________________
(١) والبقاء ليس صفة حقيقة عند الباقلاني بل هو دوام الوجود (ز).