تبليغ الشاهد للغائب ، ووفاء بميثاق تبيين الحق : أن لا تكون جماعة العلماء في كل عصر يعلمون من هم مجتهدو ذلك العصر ، الحائزون لتلك المرتبة العالية ، القائمون بواجبهم؟.
فإذا ذاع رأي رآه جمهرة الفقهاء في أي قرن من القرون ، من غير أن يعلم أهل الشأن مخالفة أحد من الفقهاء لهذا الرأي ، فالعاقل لا يشكّ في أنّ هذا الرأي مجمع عليه ، وهو الذي يعوّل عليه المحققون من أئمة الأصول ، وهذا مما لا يمكن أن تجري حوله الثرثرة : بأنّ في الإجماع كلاما من جهة حجيته ، وإمكانه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، وإمكان نقله كما لا يخفى.
وليس معنى الإجماع أن يدوّن في كل مسألة مجلّدات تحتوي على أسماء مائة ألف صحابيّ مات عنهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهم ، بالرواية عن كل واحد منهم فيها ، بل تكفي في الإجماع على حكم صحّة الرواية فيه عن جمع من المجتهدين من الصحابة ، وهم نحو عشرين صحابيا فقط في التحقيق ، بدون أن تصحّ مخالفة أحد منهم لذلك الحكم ، بل قد لا تضرّ مخالفة واحد أو اثنين منهم ، في مواضع فصّلها أئمة هذا الشأن في محله ، وهكذا الأمر في عهد التابعين وتابعيهم.
ومن أحسن من أوضح هذا البحث بحيث لا يدع وجه شكّ لمتشكّك ، ذلك الإمام الكبير أبو بكر الرازيّ الجصّاص ، في كتابه «الفصول في الأصول» ، وقد خصّ فيه لبحث الإجماع وحده نحو عشرين ورقة من القطع الكبير ، وهو كتاب لا يستغني عنه من يرغب في العلم للعلم ، وكذا العلامة الإتقانيّ في «الشامل» شرح «أصول» البزدوي ، وهو في عشرة مجلّدات ، يذكر فيه نصوص الأقدمين بحروفها ، ثم يناقشهم فيما تجب المناقشة فيه ، مناقشة من له غوص.
ومن الإجماع ما يشترك فيه العامّة مع الخاصّة ، لعموم بلواهم ، كإجماعهم على أنّ الفجر ركعتان ، والظهر أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ركعات ، ومنه ما ينفرد به الخاصّة وهم المجتهدون ، كإجماعهم على الحقّ الواجب في الزّروع والثمار ، وتحريم الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، فلا تنزل مرتبة هذا الإجماع عن ذاك ، لأنّ المجتهدين لا يزدادون حجّة إلى حججهم بانضمام العوامّ إليهم.
فمن ادّعى أنّ من الإجماع ما هو قطعيّ يستغنى عنه بالكتاب المتواتر والسنة المتواترة ، وما دونه يتسكّع في الظن ، فقد حاول ردّ حجيّة الإجماع ، واتّبع غير سبيل المؤمنين ، وشرح ذلك في الكتب المبسوطة ، ولا يتحمّل هذا الموضع للإفاضة فيه.