ثم الغريب ممن لا يرى الحجة في أحاديث الصحيحين والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات ، كيف يحتجّ بأقوال أناس من المتأخرين وبينهم من لم ينشف حبر ما كتبه بعد؟!! فابن الصلاح إن كان حجة عنده فيما يقوله في المتواتر ، يكون حجّة أيضا فيما يقوله في الصحيحين ، وهو يقول في مقدمته بالقطع بصحة أحاديثهما ، وحديث نزول عيسى مما اتّفقا على روايته ، فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون.
والواقع أنّ قول ابن الصلاح إنما هو في الواتر اللفظي ، فلا يمسّ كلامه كلامنا من قرب ولا بعد ، ثم ظنّه ندرة التواتر اللفظي خلاف الواقع كما توسّع في بيان ذلك الحفّاظ بعده أمثال الزين العراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وغيرهم ، فأبانوا الدليل وأوضحوا السبيل ، ونقل نصوصهم هنا يخرجنا إلى التوسع فيما يعلمه صغار طلبة العلم.
ولا يستطيع أحد أن ينكر كثرة التواتر المعنوي باشتراك الأحاديث في معنى خاص ، والتواتر في حديث نزول عيسى عليهالسلام ، تواتر معنوي حيث تشاركت أحاديث كثيرة جدا ، بينها الصّحاح والحسان بكثرة في التصريح بنزول عيسى ، مع اشتمال كل حديث منها على معاني أخرى ، وهذا ما لا يستطيع إنكاره أحد ممن شمّ رائحة علم الحديث.
وليس الاختلاف في شروط التواتر أو الإجماع مما يوهن أمر أحدهما لأن الاختلاف في شيء لا يوجب عدم الجزم بشيء فيه ، والاختلاف بعقل وبدون عقل شأن البشر ، وقد اختلف الناس في الله وفي رسوله وفي كل شيء ، ولم يمنع ذلك من الجزم بالحقائق بعد تمحيص الأقوال.
فالاستناد في توهين أمر الإجماع أو التواتر ، على الاختلاف في شرط قبول كلّ منهما ، لا يكون إلا من ضيق العطن وجمود القرحية ، وقد استقرّ عند أهل العلم بأدلة ناهضة ملموسة ، أنّ التواتر ليس في حاجة إلى عدد خاص من خمسة فما فوقها ، بل إلى مجرّد ورود الخبر عن أناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات ، وهذا النوع من الخبر في غاية الكثرة لكثرة طرقه في دواوين الحديث.
وما نصّ أهل الشأن على تواتره يكون كثير الطرق في كتب الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والمصنفات والأجزاء والتواريخ ، ويكون كيان أسانيده من صحاح وحسان وضعاف من جهة قلة الضبط منجبر ضعفها بأدلة تدلّ على ضبط من رمي بقلة الضبط ، بموافقة الثقات الأثبات له في الرواية ، فتكون الضّعاف مغمورة بين تلك