جوابهم ، وعرفت أنّ للحق من يعبر عنه ، وليس الحق بمنقوض والباطل مزهوق به ، وكرهت أيضا لنفسي الجهالة بأصل الدين وما انتحل من الحق وأن تكون منزلتي في أصل ما أدعي كمنزلة الصبي المتعلم الذي لا علم له بأصل ما يتكلم به ، أو كمنزلة المبرسم أو المجنون الذي يهذي بما ينقض على نفسه ويشين به نفسه ، فأجبت أصلحك الله تعالى أن أكون عالما بأصل ما انتحل من الحق وأتكلم به حتى إذا جاءني مارد يتمرد علي ، أو يريد أن يزيلني عن الحق لم يطق ، وإن جاءني متعلم أوضحت له وأكون على بصيرة من أمري.
وقال العالم : نعم ما رأيت في ابتحاثك عما يغنيك ، واعلم أن العمل تبع للعلم كما أن الأعضاء تبع للبصر ، فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير ، ومثل ذلك الزاد القليل الذي لا بد منه في المفازة مع الهداية بها أنفع من الجهل مع الزاد الكثير ، ولذلك قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزّمر : ٩] و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : ١٩].
قال المتعلم : لقد زدتني في طلب العلم رغبة ، فأما قول الأصناف فإني سأبدأ بأدناهم منزلة عندي إن شاء الله تعالى ، فأخبرني بالحجج عليهم رأيت أقواما يقولون لا تدخلن هذه المداخل فإن أصحاب نبي الله صلىاللهعليهوسلم لم يدخلوا في شيء من هذه الأمور وقد يسعك ما وسعهم. وأن هؤلاء زادوني غما ، ووجدت مثلهم كمثل رجل في نهر عظيم كثير الماء كاد أن يغرق من قبل جهله بالمخاضة فيقول له آخر : اثبت مكانك ولا تطلبن المخاضة.
قال العالم رحمهالله : أراك قد أبصرت بعض عيوبهم والحجة عليهم ، ولكن قل لهم إذا قالوا ألا يسعك ما وسع أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : بلى يسعني ما وسعهم لو كنت بمنزلتهم ، وليس بحضرتي مثل الذي كان بحضرتهم ، وقد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، فلا يسعنا أن لا نعلم من المخطئ منا والمصيب؟ وأن لا نذب عن أنفسنا وحرمنا. فمثل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون السلاح ، ونحن قد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، مع أن الرجل إذا كفّ لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك لم يطق أن يكف قلبه ، لأنه لا بد للقلب من أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعا. فأما إن يحبهما وهما مختلفان فهذا لا يكون ، فإذا مال القلب إلى الجور أحبّ أهله. وإذا أحبّ القوم كان منهم ، وإذا مال القلب إلى الحق وأهله كان لهم وليا ، وذلك بأن تحقيق الأعمال والكلام لا يكون إلا من قبل القلب ، وذلك أن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لم يكن عند الله مؤمنا. ومن آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه كان عند الله مؤمنا.