مانعة من الرؤية. وكذلك البعد لا يمنع الرؤية ، لأن السماء أبعد الأشياء منا والكواكب فيها ، لأن بيننا وبينها خمسمائة عام ، ونحن نراها ، ولم يمنعنا بعدها من رؤيتها ، وكذلك الحجاب لا يمنع من الرؤية ؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت التحت ، ودونه ألف ألف حجاب [عند الخلق] وكذلك الهدهد يرى الماء من تحت الأرض ودونه حجاب وحجاب ، فبطل أن يكون جميع ما ذكرتم هو المانع من الرؤية ، حتى يجب أن نراه الساعة.
فإن قيل : فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى؟ قلنا : إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض ، فإذا خلق فينا إدراكا رأينا مرئيا لم نكن نراه من قبل ؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه ، ويراه إذا نزل به ، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكا له عند موت غيره ، وخلق في بصره إدراكا له عند موته. وكذلك الفرس ، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده ، ونحن لا نرى ذلك ؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكا حتى رأت ، ولم يخلق في أبصارنا إدراكا حتى نرى ، كما ترى ؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكا له في الدنيا حتى نراه ، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكا حتى نراه ، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.
فإن قالوا : وإذا كان الأمر كذلك ، فجوّزوا أن يخلق الله لكم إدراكا ترون به ذرة ، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا : هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى ، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة ، والنار ، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط ، وهما من أعظم المخلوقات ، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه صلىاللهعليهوسلم ، ولون ثوبه مع صغر ذلك ، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما رأى ، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة ، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد ، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليهالسلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئا من الجنة والنار ، أو ما هو على صورهما ، يخلق منهما إذا خلقنا ، واختص هو صلىاللهعليهوسلم برؤية ما لم يره أصحابه ، وإن كانوا يرون الذرة لو دبّت على قميصه صلىاللهعليهوسلم ، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا : أن بعض الخلق يدرك صوتا خفيا جدا ، ولا يدرك صوتا عاليا جدا ، وإن وجد الصوتان في وقت واحد ، ومسافة واحدة ، وقد رأينا ذلك عيانا ؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل