فأخفى صوته غاية الإخفاء ، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي ، ولم يدرك الصوت العالي ؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه ، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي ، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي ، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة ، ويخلق فيه مانعا من إدراك الفيل الكبير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤].
فإن قيل : فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها ، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية ، لأن ذلك جائز في المقدور ، أو نشك في ذلك ، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.
الجواب : أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم ؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى ، ولا نشك فيه ، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار ، ونشك في ذلك ؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك ، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم ، وكذلك أيضا من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلا لا من ذكر ولا من أنثى ، ثم لا يجب علينا أن نجوّز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ، وكذلك أيضا يجوز في مقدوره تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم ، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا ، أو نشك فيه ؛ فبطل ما قلتم ، وصحّ الحق.
فإن احتجوا فقالوا : لو جاز أن يكون مرئيا لجاز أن يقال : يرى كله أو بعضه.
فالجواب : أن هذا محال من القول ؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض ، والله تعالى منزّه عن الوصف بالكل والبعض ، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا : لو كان معلوما لجاز أن نقول : نعلم كله أو بعضه ، فنقول له : لا نقول نعلم كلّا ولا بعضا ، بل نقول نعلم واحدا أحدا فردا صمدا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فكذلك نقول : نرى واحدا أحدا فردا صمدا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].
فإن قيل : لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقصت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون ، ولا يجوز أن تتناقض أحوال أهل الجنة.