فصل
في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها ، وأخبار ، وشبه في نفي الرؤية.
فإن احتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] قالوا : فأخرج ذلك مخرج التمدح ، كما تمدح بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : ١٠١] فكيف يجوز أن يزول عن مدحته ، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة :
أحدها : أن يقال لهم : ما أنكرتم على قائل يقول لكم ، لا حجة لكم في ذلك ، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه ، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار ، ولا يوجب كون ذلك مدحة له ، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار ، وليست بممدوحة ، لأنها لا تدركها الأبصار.
فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون متمدحا بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه؟ قيل لهم : لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢٨ ، ٢٤٠ ، ٢٦٠ ، الأنفال : ١٠ ، ٤٩ ، التوبة : ٧١] و (عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النّحل : ٧٠] فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه ، تجدد أو انضم إلى غيره ، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم.
جواب آخر : وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] فحسب ، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات ، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود ، قادر على الرؤية ، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى ، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى ، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له ، بأن يحدث في أبصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته ؛ فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق ، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محييا مميتا ، أي لا يقدر على ذلك غيره ، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت ، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعا في البصر من الإدراك ، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف ، ولا شبه ، ولا تحديد. فاعلم ذلك.
جواب آخر : وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية ؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية ، لأن البصر عندهم عرض ؛ فلا يدرك عند