القيامة (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي ما يسرّه بعضكم إلى بعض وما يخفيه في صدره عن غيره. والفرق بين الإسرار والإخفاء أن الإخفاء أعم لأنه قد يخفي شخصه ويخفي المعنى في نفسه ، والاسرار يكون في المعنى دون الشخص (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بأسرار الصدور وبواطنها. ثم أخبر سبحانه أن القرون الماضية جوزوا بأعمالهم فقال (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء الكفار (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي وخيم عاقبة كفرهم ، وثقل أمرهم بما نالهم من العذاب بالإهلاك والاستئصال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم يوم القيامة.
٦ ـ ١٠ ـ لما قرّر سبحانه خلقه بانهم أتاهم اخبار من مضى من الكفار وإهلاكهم ، عقّبه ببيان سبب إهلاكهم فقال (ذلِكَ) أي ذلك العذاب الذي نالهم في الدنيا ، والذي ينالهم في الآخرة (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ) أي بسبب أنه كانت تجيئهم (رُسُلُهُمْ) من عند الله (بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الواضحات ، والمعجزات الباهرات (فَقالُوا) لهم (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) والمعنى : أخلق مثلنا يهدوننا إلى الحق ، ويدعوننا إلى غير دين آبائنا؟ استصغارا منهم للبشر أن يكونوا رسلا من الله إلى أمثالهم ، واستكبارا وأنفة من اتباعهم (فَكَفَرُوا) بالله وجحدوا رسله (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن القبول منهم ، والتفكر في آياتهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) بسلطانه عن طاعة عباده ، وإنما كلّفهم لنفعهم لا لحاجة منه إلى عبادتهم وقيل معناه : واستغنى الله بما أظهره لهم من البرهان ، وأوضحه من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد ، وتهدي إلى الإيمان (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي غني عن أعمالكم ، مستحمد إليكم بما ينعم به عليكم. ثم حكى سبحانه ما يقوله الكفار فقال (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) زعم : كنية الكذب ، بيّن الله سبحانه بعض ما لأجله اختاروا الكفر على الإيمان ، وهو أنهم كانوا لا يقرّون بالبعث والنشور ، فأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يكذبهم فقال (قُلْ) يا محمد (بَلى وَرَبِّي) أيّ وحق ربي على وجه القسم (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرنّ. أكّد تكذيبهم بقوله : بل وباليمين ، ثم أكّد اليمين باللام والنون (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرنّ وتحاسبنّ بأعمالكم وتجازون عليها (وَذلِكَ) البعث والحساب مع الجمع والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هين لا يلحقه مشقة ولا معاناة فيه (فَآمِنُوا) معاشر العقلاء (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ، سمّاه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة إلى الحق ، فشبّه بالنور الذي يهتدى به إلى الطريق (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ، أي ذلك البعث والجزاء يكون في يوم يجمع فيه خلق الأولين والآخرين (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهو تفاعل من الغبن ، وهو أخذ شرّ وترك خير ، أو أخذ خير وترك شر. وروي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في تفسير هذا قوله ما من عبد مؤمن يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي معاصيه (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي مؤبدين فيها ولا يفنى ما هم فيه من النعيم أبدا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الذي ليس وراءه شيء من العظمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ودلائلنا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المآل والمرجع.
١١ ـ ١٨ ـ ثم قال سبحانه (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي ليس تصيبكم مصيبة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والمصيبة : المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبه ، وإنّما عمّ ذلك سبحانه وإن كان في المصائب ما هو ظلم وهو سبحانه لا يأذن بالظلم لأنه