لما ختم الله سبحانه سورة الصف بالترغيب في عبادته ، والدعاء إليها ، وذكر تأييد المؤمنين بالنصر والظهور على الأعداء ، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك وعلى جميع الأشياء فقال :
١ ـ ٥ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينزّهه سبحانه كل شيء ، ويشهد له بالوحدانية والربوبية بما ركب فيها من بدائع الحكمة ، وعجائب الصنعة ، الدالة على أنه قادر عالم حي قديم سميع بصير حكيم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وإنما قال : مرة سبح ، ومرة يسبح ، إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي والمستقبل (الْمَلِكِ) أي القادر على تصريف الأشياء (الْقُدُّوسِ) أي المستحق للتعظيم ، الطاهر عن كل نقص (الْعَزِيزِ) القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) العالم الذي يضع الأشياء موضعها (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني العرب وكانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ ، ولم يبعث إليهم نبي (رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، نسبه نسبهم ، وهو من جنسهم كما قال : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام ، والحجج والأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهّرهم من الكفر والذنوب ، ويدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب : القرآن ، والحكمة : الشرائع (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) معناه وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلّا في عدول عن الحق ، وذهاب عن الدين بيّن ظاهر (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي ويعلم آخرين من المؤمنين (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وهم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم ، وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة ، وقيل : هم الأعاجم ومن لا يتكلم بلغة العرب ، فإن النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من بعدهم من العرب والعجم ، وروي أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قرأ هذه الآية فقيل له من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء ، وعلى هذا فإنما قال منهم ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم ، فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم ، وأمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم كما قال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) يعني النبوة التي خصّ الله بها رسوله (يُؤْتِيهِ) أي يعطيه (مَنْ يَشاءُ) بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة وتحمل أعباء الرسالة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذو المنّ العظيم على خلقه ببعث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي كلّفوا القيام بها ، والعمل بما فيها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) حق حملها من أداء حقها ، والعمل بموجبها ، لأنّهم حفظوها ودوّنوها في كتبهم ثم لم يعملوا بما فيها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يحسّ بما فيها ، فمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل بموجبه كمثل من لا يعلم ما يحمله (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) معناه : بئس القوم قوم هذا مثلهم ، لأنه سبحانه ذمّ مثلهم ، والمراد به ذمّهم ، واليهود كذبوا بالقرآن والتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يفعل بهم من الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون.
٦ ـ ١١ ـ لما تقدّم ذكر اليهود في انكارهم ما في التوراة ، أمر سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال (قُلْ) يا محمد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي سمّوا يهودا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله وان الله ينصركم (مِنْ دُونِ