على الطاعة (خَيْرٌ وَأَبْقى) من هذه المنافع القليلة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بتوحيد الله وبما يجب التصديق به (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والتوكل على الله ، تفويض الأمور إليه باعتقاد أنها جارية من قبله على أحسن التدبير ، مع الفزع إليه بالدعاء من كل ما ينوب (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) يجوز أن يكون موضع الذين جرا عطفا على قوله للذين آمنوا فيكون المعنى : وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين المتوكلين على ربهم ، المجتنبين كبائر الإثم (وَالْفَواحِشَ) ويجوز أن يكون في موضع رفع بالإبتداء ويكون الخبر محذوفا فيكون المعنى : والذين يجتنبون الكبائر والفواحش (وَإِذا ما غَضِبُوا) ممّا يفعل بهم من الظلم (هُمْ يَغْفِرُونَ) ويتجاوزون عنه لهم مثل ذلك.
والفواحش جمع فاحشة وهي أقبح القبيح ، والمغفرة في الآية المراد بها ما يتعلّق بالإساءة إلى نفوسهم ، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين ، فأمّا ما يتعلق بحقوق الله وواجبات حدوده فليس للإمام تركها ولا العفو عنها ، ولا يجوز له العفو عن المرتدّ وعمن جرى مجراه.
ثم زاد سبحانه في صفاتهم فقال : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أجابوه فيما دعاهم إليه من أمور الدين (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أداموها في أوقاتها بشرائطها (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) يقال : صار هذا الشيء شورى بين القوم إذا تشاوروا فيه ، وهو فعلى من المشاورة ، وهي المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ ، أي لا يتفرّدون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه وقيل : ان المعني بالآية الأنصار ، كانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام ، وقبل قدوم النّبيّ (ص) اجتمعوا وتشاوروا ثم عملوا عليه ، فأثنى الله عليهم بذلك ، وقيل : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وورود النقباء عليه ، حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به ، والنصرة له ، عن الضحّاك.
وروي عن النبي (ص) أنه قال : ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله تعالى وسبيل الخير (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) من غيرهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ممّن بغى عليهم من غير أن يعتدوا عن السدّي. وقيل ينتصرون : أي يتناصرون ، ينصر بعضهم بعضا ، نحو يختصمون ويتخاصمون عن أبي مسلم وقيل : يعني به المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممّن ظلمهم ، عن عطاء (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله من غير أن تعتدي. ثم ذكر سبحانه العفو فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فمن عفا عما له المؤاخذة به وأصلح أمره فيما بينه وبين ربّه فثوابه على الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ثم بيّن سبحانه أنه لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبّه إياه ، ولكن ليعرضه بذلك لجزيل الثواب ولحبّه الإحسان والفضل.
٤١ ـ ٤٥ ـ ثم ذكر سبحانه المنتصر فقال : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) معناه : من انتصر لنفسه ، وانتصف من ظالمه بعد ظلمه ، أي بعد أن ظلم وتعدى عليه ، فأخذ لنفسه بحقّه ، فالمنتصرون ما عليهم من إثم وعقوبة وذمّ (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي الإثم والعقاب (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) ابتداء (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع (وَلَمَنْ صَبَرَ) أي تحمّل المشقّة في رضاء الله (وَغَفَرَ) فلم ينتصر ف (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والأجر (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي ومن يضلله الله عن رحمته وجنته (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) أي معين (مِنْ بَعْدِهِ) أي سواه. وقيل : من عذبه الله عقوبة له على عناده وجحوده فما له