بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي ولكنه ينزّل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء نظرا منه لهم ، والمعنى : أنه يوسّع الرزق على من تكون مصلحته فيه ، ويضيّق على من يكون مصلحته فيه ، ويؤيده الحديث الذي رواه أنس عن النبي (ص) عن جبرائيل (ع) عن الله : إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم ولو صححته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ، وذلك انّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي عليم بأحوالهم ، بصير بما يصلحهم وما يفسدهم.
ثمّ بين سبحانه حسن نظره بعباده فقال : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي ينزله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله ، والغيث : ما كان نافعا في وقته ، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارّا في وقته وغير وقته ، ووجه إنزاله بعد القنوط أنّه ادعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه ، والمعرفة بموقع إحسانه (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي ويفرّق نعمته ويبسطها بإخراج النبات والثمار التي يكون سببها المطر (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى تدبير عباده ، وتقدير أمورهم ومصالحهم ، المالك لهم (الْحَمِيدُ) المحمود على جميع أفعاله لكون جميعها إحسانا ومنافع (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته وصفاته التي باين بها خلقه (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب والأجناس (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) والدابة : ما تدبّ فيدخل فيه جميع الحيوانات (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي : وهو على حشرهم إلى الموقف بعد اماتتهم قادر لا يتعذّر عليه ذلك.
ثم قال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ) معاشر الخلق (مِنْ مُصِيبَةٍ) من بلوى في نفس أو مال (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من المعاصي (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) منها فلا يعاقب بها.
٣١ ـ ٣٥ ـ ثم قال سبحانه : (وَما أَنْتُمْ) يا معشر المشركين (بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تعجزونني حيث ما كنتم فلا تسبقونني هربا في الأرض ، وفي هذا استدعاء إلى العبادة ، وترغيب فيما أمر به ، وترهيب عمّا نهى عنه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنكم عقابه (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم عليه (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن حججه الدالّة على اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره (الْجَوارِ) أي السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال الطوال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله يسكن الريح فتبقى السفن راكدة واقفة على ظهر الماء لا يبرحون من المكان لأنّ ماء البحر يكون راكدا ، فلو لم تجىء الريح لوقفت السفينة في البحر ولم تجر فالله سبحانه جعل الريح سببا لجريها فيه ، وجعل هبوبها في الجهة التي تسير إليها السفينة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ) أي حججا واضحات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على أمر الله (شَكُورٍ) على نعمته (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) معناه : إن يشأ إسكان الريح يسكن الريح ، أو إن يشأ يجعل الريح عاصفة فيهلك السفن ، أي أهلها بالغرق في الماء عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها فلا يغرقهم ولا يعاجلهم بعقوبة معاصيهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) إي في إبطال آياتنا ودفعها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي ملجأ يلجأون إليه.
٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم فقال : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي الذي أعطيتموه من شيء من الأموال (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو متاع الحياة الدنيا تتمتّعون به أيّاما ثم تموتون فيبقى عنكم ، أو يهلك المال قبل موتكم (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والنعيم ، وما أعدّه للجزاء