في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام على منازلهم وقراهم بالنهار وبالليل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعتبرون بهم ، ومن كثر مروره بموضع العبر فلم يعتبر كان ألوم ممن قلّ ذلك عنه والمعنى : أفلا تتفكرون فيما نزل بهم لتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر والضلال. والوجه في ذكر قصص الأنبياء وتكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الخلال ، وصرف الخلق عما كان عليه الكفار من مساوى ، الخصال ، ومقابح الأفعال (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي فرّ من قومه إلى السفينة المملوءة من الناس والأحمال خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم (فَساهَمَ) يونس القوم بأن القوا السهام على سبيل القرعة أي قارعهم (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي من المقروعين وقيل من المسهومين عن مجاهد ، والمراد : من الملقين في البحر واختلف في سبب ذلك فقيل : إنهم اشرفوا على الغرق فرأوا انهم ان طرحوا واحدا منهم في البحر لم يغرق الباقون وقيل : ان السفينة احتبست فقال الملاحون : ان ها هنا عبدا آبقا ، فإن من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فلذلك اقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات ، فعلموا انه المطلوب ، فألقى نفسه في البحر وقيل : انه لما وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) أي ابتلعه وقيل : ان الله سبحانه أوحى إلى الحوت : اني لم أجعل عبدي رزقا لك ولكني جعلت بطنك مسجدا له فلا تكسرنّ له عظما ، ولا تخدشنّ له جلدا (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مستحق للوم ، لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي كان من المصلين في حال الرخاء ، وكان تسبيحه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي فطرحناه بالمكان الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر ، ألهم الله سبحانه الحوت حتى قذفه ورماه من جوفه على وجه الأرض (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي مريض حين ألقاه الحوت (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وهو القرع وروي عن ابن مسعود قال : خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش ، فاستظل بالشجر من الشمس (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) إن الله سبحانه أرسله إلى أهل نينوى ومعنى قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) انهم كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال : هم مائة ألف أو يزيدون (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) حكى سبحانه عنهم انهم آمنوا بالله ، وراجعوا التوبة فكشف عنهم العذاب ، ومتّعهم بالمنافع واللذات إلى انقضاء آجالهم.
١٤٩ ـ ١٦٠ ـ ثم عاد الكلام إلى الردّ على مشركي العرب فقال سبحانه (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم واطلب الحكم منهم في هذه القصة (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أي كيف أضفتم البنات إلى الله تعالى واخترتم لأنفسكم البنين وكانوا يقولون : ان الملائكة بنات الله على وجه الاصطفاء لا على وجه الولادة (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) معناه : بل خلقنا الملائكة إناثا (وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حاضرون خلقنا إياهم ، أي كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم؟ ثم اخبر عن كذبهم فقال (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) حين زعموا ان الملائكة بنات الله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) والمعنى : كيف يختار الله سبحانه الأدون على الأعلى مع كونه مالكا حكيما؟! ثم وبّخهم فقال (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتعظون فتنتهون عن مثل هذا القول (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي حجّة بيّنة على ما تقولون وتدّعون ، وهذا كله انكار في صورة الإستفهام (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) المعنى : فأتوا بكتابكم الذي لكم فيه الحجة إن كنتم صادقين في قولكم ؛ والمراد انه دليل لكم على