بيّن سبحانه ما يدلّ على إلهيته واستحقاقه العبادة فقال (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أخرجهما من العدم إلى الوجود ولم يخلقهما عبثا ، بل خلقهما ليسكنهما خلقه ، وليستدلّوا بهما على اثباته ووحدانيته (بِالْحَقِ) أي على وجه الحكمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون بذلك. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني القرآن أي اقرأه على المكلفين ، واعمل بما تضمنه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّها بحدودها في مواقيتها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) في هذا دلالة على ان فعل الصلاة لطف للمكلف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والشرع ، وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما منعته قبلت منه (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وعن معاذ قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير وشرّ فيجازيكم بحسبه.
٤٦ ـ ٥٠ ـ لمّا تقدّم الأمر بالدعاء إلى الله سبحانه بيّن عقيبه كيف يدعونهم ، وكيف يجادلونهم فقال : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) وهم نصارى نجران وقيل اليهود والنصارى (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريق التي هي أحسن ؛ وإنما يكون أحسن إذا كانت المناظرة برفق ولين لإرادة الخير والنفع بها ، ومثله قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). وفي هذا دلالة على وجوب الدعاء إلى الله تعالى على أحسن الوجوه وألطفها ، واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي الذين ظلموك في جدالهم أو في غيره مما يقتضي الاغلاظ لهم فيجوز أن يسلكوا معهم طريقة الغلظة (وَقُولُوا) لهم في المجادلة وفي الدعوة إلى الدين (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي بالكتاب الذي أنزل إلينا وبالكتاب الذي أنزل إليكم (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون طائعون (وَكَذلِكَ) أي ومثل ما أنزلنا الكتاب على موسى وعيسى (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وهو القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علم الكتاب فحذف المضاف (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام ونظرائه (وَمِنْ هؤُلاءِ) يعني كفار مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يعني من أسلم منهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما ينكر دلالاتنا إلا الكافرون ، ولا يضرّك جحودهم ، ثم خاطب نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) أي وما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا والمعنى : انك لم تكن تحسن القراءة قبل أن يوحى إليك بالقرآن (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) معناه : وما كنت أيضا تكتبه بيدك (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي ولو كنت تقرأ كتابا أو تكتبه لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشك في أمرك ، وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوتك ولقالوا : إنما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأولين ، فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثم أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنه من عند الله تعالى وليس من عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره ، ويرونه في حضره وسفره لا يتعلم شيئا من غيره ، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأولين (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني : ان القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء وهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنون به لأنهم حفظوه ووعوه ، ورسخ معناه في قلوبهم (وَما يَجْحَدُ