اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإيمان والنفاق فلا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا.
١١ ـ ١٥ ـ ثم أقسم سبحانه فقال : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله على الحقيقة ظاهرا وباطنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فيجازيهم بحسب أعمالهم قال الجبائي : معناه : وليميزنّ الله المؤمن من المنافق ، فوضع العلم موضع التمييز توسعا وقد مرّ بيانه ، وفي هذه الآية تهديد للمنافقين بما هو معلوم من حالهم التي استهزؤا بها ، وتوهّموا أنهم قد نجوا من ضررها بإخفائها ، فبيّن أنها ظاهرة عند من يملك الجزاء عليها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) نعم الله وجحدوها (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بتوحيده وصدق رسله (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي ونحن نحمل آثامكم عنكم إن قلتم : إن لكم في اتباع ديننا إثما ، ويعنون بذلك أنه لا إثم عليكم باتباع ديننا ، ولا يكون بعث ولا نشور فلا يلزمنا شيء مما ضمنا ، والمأمور في قوله : ولنحمل هو المتكلم به نفسه في مخرج اللفظ ، والمراد به إلزام النفس هذا المعنى كما يلزم الشيء بالأمر ، وفيه معنى الجزاء وتقديره : ان تتبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم. ثم قال سبحانه (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة ، فإن الله سبحانه عدل لا يعذّب أحدا بذنب غيره ، فلا يصحّ إذا أن يتحمل أحد ذنب غيره ، وهذا مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، ولا يجري هذا مجرى تحمل الديّة عن الغير ، لأنّ الغرض في الديّة أداء المال عن نفس المقتول ، فلا فرق لأنّ الغرض في الديّة أداء المال عن نفس المقتول ، فلا فرق بين أن يؤدي زيد عنه وبين أن يؤدّيه عمرو ، فإنه بمنزلة قضاء الدين (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بما ضمنوا من حمل خطاياهم (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) يعني انهم يحملون خطاياهم وأوزارهم في أنفسهم التي لم يعملوها بغيرهم ، ويحملون الخطايا التي ظلموا بها غيرهم ، وقيل معناه : يحملون عذاب ضلالهم وعذاب اضلالهم غيرهم ، ودعائهم لهم إلى الكفر ، وهذا كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) ومعناه : انهم يسألون سؤال تعنيف وتوبيخ وتبكيت وتقريع لا سؤال استعلام واستخبار (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) يدعوهم إلى توحيد الله عزوجل (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يجيبوه وكفروا به (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) جزاء على كفرهم فهلكوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بما فعلوه من الشرك والعصيان (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان والذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به (وَجَعَلْناها) أي وجعلنا السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة ، لأنها فرّقت بين المؤمنين والكافرين ، والأبرار والفجار ، وهي دلالة على صدق نوح وكفر قومه.
١٦ ـ ٢٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (وَإِبْراهِيمَ) أي وأرسلنا إبراهيم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي أطيعوا الله وخافوه بفعل طاعاته ، واجتناب معاصيه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلك التقوى خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما هو خير مما هو شر لكم (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) المعنى : أنكم تعبدون أصناما من حجارة لا تضر ولا تنفع (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تفتعلون كذبا بأن تسمّوا هذه الأوثان آلهة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم ، والملك : قدرة القادر على ماله أن يتصرف في ماله أتمّ التصرف ، وليس ذلك إلا لله على الحقيقة ، فإن الإنسان إنما يملك ما يملّكه الله تعالى ويأذن له في التصرف فيه ، فأصل الملك لجميع الأشياء لله تعالى ، فمن لا يملك أن يرزق غيره لا يستحق العبادة لأن العبادة تجب بأعلى مراتب النعمة ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى فلا يستحق العبادة سواه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي اطلبوا الرزق من عنده دون من