الإيمان بالله ، والثقة برحمته ، وإلهاما روحيا يتحسّس فيه الأمل الكبير بعودة يوسف إليه. أما الآن ، فإن انطلاقة الضوء قد عادت إلى عينيه ، والتماعة البشرى قد أشرقت في روحه ، فها هو البشير يحدّثه عن يوسف العزيز الذي رفع الله مكانته فجعله حاكما يدير شؤون الدولة الاقتصادية ، وها هو يدعوه إليه ، ليحدثه عن رحلة العذاب الطويلة ، وعما أنعم الله عليه ، من الإرادة القوية المنفتحة على الرسالة ، ومن الموقف الصلب أمام حالات الإغراء ، ومن حركة الدعوة في أجواء السجن وظلماته ، ومن سعة المعرفة في تأويل الأحلام ، وتحليل الأمور التي دفعت به إلى هذا الموقع الكبير ...
وهكذا سار يعقوب مع عياله وأولاده ، ليلتقي بالحلم الذي تحوّل إلى حقيقة ؛ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) وضمّهما إليه ، ليمسح دموعهما ، ويخفف حزنهما ، (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي أقيموا فيها وامكثوا طويلا دون أن يعكر صفوكم أحد ، فلكم مطلق الحرية في أن تتحركوا كما تشاءون دون خوف ولا وجل ... وقد جاء في مجمع البيان : «وإنما قال لهم : آمنين لأنهم كانوا في ما خلا يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجوازهم». (١)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) وهو السرير الذي يمثل موقع المسؤولية التي كان يشغلها في البلاد ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكان المتعارف لديهم تماما كما يمثل الانحناء لونا من ألوان التحية لدى بعض الشعوب ، ولا يمكن اعتبار ذلك منافيا لتوحيد الله في العبادة ، لأن السجود العبادي هو ما يعيش الإنسان فيه معنى العبودية بأن يقصد من خلاله التعبير عن الخضوع المطلق.
(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي رؤياه التي كان قد
قصها على أبيه في أوّل السورة في قوله : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً
__________________
(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ٤٠٥.