ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل (الْمَفْتُونُ) في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا |
|
أن لا تفارقهم فالرّاحلون همو |
ويجوز أن يكون (الْمَفْتُونُ) مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد ؛ والميسور لليسر ، والمعسور لضده ، وفي المثل «خذ من ميسوره ودع معسوره».
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على (الْمَفْتُونُ) وهو مبتدأ.
يضمن فعل (تبصر ويبصرون) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين.
والمعنى : فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيّكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب (يبصر ويبصرون).
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))
تعليل لجملة : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٥ ـ ٦] باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنّى عنه قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) [القلم : ٥] من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه مجنون المردود عليهم بقوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] إذ هم الضالون عن سبيل ربّ النبي صلىاللهعليهوسلم لا محالة ، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواة مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلىاللهعليهوسلم بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون ، فتنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء.
وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا ، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلة من ضل عنه بالمهتدين.