الحياة.
وجملة (نَبْتَلِيهِ) في موضع الحال من الإنسان وهي حال مقدرة ، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل ، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف ، وهذه الحال كقولهم : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا.
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة (خَلَقْنَا) وبين (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لأن الابتلاء ، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع (نَبْتَلِيهِ) بعد جملة (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣] ، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة.
وجيء بجملة (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بيانا لجملة (نَبْتَلِيهِ) تفننا في نظم الكلام.
وحقيقة الابتلاء : الاختبار لتعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته.
وفرع على خلقه (مِنْ نُطْفَةٍ) أنه جعله (سَمِيعاً بَصِيراً) ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره ، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه : سامعا مبصرا ، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلا وتمييزا في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان ، فبالسمع يتلقّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وجود الله وبديع صنعه.
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإنسان من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإنسان التي بها ارتكزت مدنيته وانتظمت جامعاته ، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) الآيات.
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣))
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة (نَبْتَلِيهِ) [الإنسان : ٢] ولتفصيل جملة (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : ٢] ، وتخلّص إلى الوعيد على الكفر والوعد على الشكر.
وهداية السبيل : تمثيل لحال المرشد. و (السَّبِيلَ) : الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي ، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سيره.