وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيّض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار ، قال : فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم».
فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ظنية لاحتمالها تأويلات تأوّلها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخوّل رؤيتها لغير أهل السعادة.
ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة ، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها لأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات ، ومقدار يحاط بجميعه أو ببعضه ، إذا كانت الرؤية بصرية ، فلا جرم أن يعد الوعد برؤية أهل الجنة ربّهم تعالى من قبيل المتشابه.
ولعلماء الإسلام في ذلك أفهام مختلفة ، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التي تخلقوا بها من سيرة النبي صلىاللهعليهوسلم من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله ، وصرف أنظارهم عن التعمّق في تشخيص حقيقته وإدراجه تحت أحد أقسام الحكم العقلي ، فقد سمعوا هذا ونظائره كلّها أو بعضها أو قليلا منها ، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله ، ولكنهم انصرفوا إلى ما هو أحق بالعناية وهو التهمّم بإقامة الشريعة وبثّها وتقرير سلطانها ، مع الجزم بتنزيه الله تعالى عن اللوازم العارضة لظواهر تلك الصفات ، جاعلين إمامهم المرجوع إليه في كل هذا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] بالنسبة إلى مقامنا هذا ، مع اتفاقهم على أنّ عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإيمان ، فلما نبع في علماء الإسلام تطلّب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته ، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم في العلم طريقة تمحيص وهي اللائقة بعصرهم ، وقارن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية ، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم ، وحدا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل ، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين ، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كلّ حقيقة في نصابها ، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل.