وكان رواية عن الأوزاعي لا يتقلّد مذهبا ، ويقضي بما يراه صوابا ، وكان خيّرا ، وسجّل على أحد رجال الأمير هشام في دار أخرجه عنها ، فشكاه إلى الأمير ، وطمع أن يأمره بحلّه فقال الأمير : والله لو سجل عليّ في مقعدي هذا لخرجت عنه. أقرّه الحكم بعد أبيه هشام حتى مات مصعب.
٧٦ ـ أبو بكر محمد بن بشير المعافري (١)
من كتاب ابن عبد البر : أنه ولاه الحكم بعد وفاة مصعب ، وهو من أهل باجة ، رحل ، وحج ، وسمع علما كثيرا. كان يكتب لأحد الوزراء ، فأشار به على الحكم فاستدعاه ، فمرّ في طريقه بعابد كان له صديقا ، فأخذ معه في أمره ، فقال له العابد : اصدقني في ثلاثة أسألك عنها : كيف مدح الناس وذمّهم من قبلك؟ وكيف حبّك في أن يخدمك الفتيان ، وتكثر بين يديك الألوان؟ وكيف حبّك للباس الحسن وركوب الفاره؟ فقال ابن بشير : أما مدح الناس وذمّهم فما أبالي من مدحني أو ذمّني في الله عزوجل ، وأما أن تخدمني الفتيان وتكثر بين يدي الألوان فما أجد قلبي يتوق إلى ذلك ولا يشتهيه ، وأما الركوب واللباس فما أفضّل على ملبسي ومركوبي شيئا سواه أبدا ، قال : فأقبل القضاء ولا بأس عليك. فلما وصل قبل القضاء على ثلاثة شروط : نفاذ الحكم على كل أحد ، وإذا ظهر له العجز من نفسه أعفي ، وأن يكون رزقه من الفيء. وكان يدخل المسجد ، وعليه رداء معصفر ، وحذاء صرّار ، ولمّة مسرّحة مدهونة ، فيخطب على المنبر ، فإذا رام أحد من دينه شعرة فالثّريّا أقرب إليه. وكان لا يجالسه أحد إذا قعد للقضاء ، ولا يكالمه ، ولا يسايره ، ولا يخلو به في داره ، وله طوابع من وقف عليها بادر إلى مجلس الحكم.
واحتاج سعيد الخير بن عبد الرحمن الداخل إلى شهادة سلطان الأندلس الحكم وهو ابن أخيه ، فردّها القاضي ، فركب إلى ابن أخيه وقال : اليوم ذهب سلطاننا من الأندلس ، قاضيك الذي ولّيته يرد شهادتك ، فقال : القاضي رجل صالح فعل ما يجب عليه ولست أعارضه.
وأوّل سجلّ سجّل به على الوزير الذي سعى في ولايته ، فشكاه إلى الحكم ، فقال له : أنت اخترته ، ولكن امضي إليه في منزله. فإن أوصلك إلى نفسه ، وخرج إليك فقد جعلت عزله بيدك ، فلما استأذن عليه خرج إذن القاضي بأن يصل إلى مجلس الحكم ، ورجع الوزير خائبا. فأرسل له :
__________________
(١) انظر ترجمته في التكلمة لابن الأبار (ص ٩٠) وقال المقري : هو القاضي الشهير محمد بن بشير ، وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل ، المعافري نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٥٨ / ٣٦٢). وترجمته في قضاة قرطبة (ص ٧٣) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ٤٧) والذيل والتكملة (ص ٢٠٨) والتكملة (ص ٣٥٥). وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة ١٩٨ ه قبل الشافعي بست سنين.