بعض تلك الفنون كتب كثيرة ، غير أنه لم يخل فيها من غلط ، وسقط ، لجراءته في التّسوّر على الفنون ، لا سيما المنطق ، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك ، وضلّ في سلوك تلك المسالك ، وخالف أرسططاليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه ، ولا ارتاض في كتبه. ومال أوّلا به النّظر في الفقه إلى رأي الشافعيّ ، وناضل عن مذهبه ، وانحرف عما سواه حتى وسم به ، ونسب إليه ، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء ، وعيب بالشذوذ ، ثم عدل في الآخر ، إلى قول أصحاب الظاهر ، مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار ، فنقّحه ، ونهجه ، وجادل عنه ، ووضع الكتب في بسطه ، وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله ، رحمهالله. كان يجادل عن عمله هذا من خالفه ، على استرسال في طباعه ، ومذل بأسراره ، واستناده إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده ، (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فلم يك يلطف بما عنده بتعريض ، ولا يزفّه بتدريج ، بل يصكّ به معارضه صكّ الجندل ، وينشقه أحرّ من الخردل ، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم ، ويسيّرونه عن بلادهم ، إلى أن انتهوا به منقطع أثره ، بقرية بلده ، من بادية لبلبة. وبها توفي رحمهالله سنة ست وخمسين وأربعمائة.
وكان متشيّعا في بني أمية منحرفا عمّن سواهم من قريش ، وادعى أنه من الفرس ، وهو خامل الأبوّة من عجم لبله. وصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالة فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه : سمعت وأطعت لقول الله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليهالسلام : صل من قطعك ، واعف عمّن ظلمك ، ورضيت بقول الحكماء : كفاك انتصارا ممّن تعرّض لأذاك إعراضك عنه ، وأقول (١) : [المتقارب]
تبغّ (٢) سواي امرءا يبتغي |
|
سبابك ، إنّ هواك السّباب |
فإني أبيت طلاب السّفاه |
|
وصنت محلّي عما يعاب (٣) |
وقل ما بدا لك من بعد ذا |
|
فإنّ سكوتي عنه خطاب (٤) |
وأقول (٥) : [الطويل]
كفاني بذكر الناس لي ومآثري |
|
وما لك فيهم يا ابن عمّي ذاكر |
__________________
(١) الأبيات في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٢٩٤).
(٢) في النفح : تتبّع.
(٣) في النفح : ونزهت عرضي.
(٤) في النفح : وأكثر فإنّ سكوتي خطاب.
(٥) الأبيات في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٢٩٥).