من قرطبة ، فلحق جمهور منهم بطليطلة وكاتبوا مهاجر بن القتيل الذي كان قد لحق بدار الحرب ، وولّوه عليهم ، وصار معه نحو خمسة عشر ألفا في البحر إلى الإسكندرية ، وتقاتلوا مع أهلها فأنزلهم عبد الله (١) بن طاهر جزيرة إقريطش (٢) ، وكانت حينئذ خالية ، فعمروها.
وكان في حبس الحكم يومئذ شبريط. صاحب وشقة (٣) ، وهو ابن عم عمروس صاحب الثغر الأعلى ، فلما سمع بثورة الناس قال : أهي غنم؟ لو كان لها راع! كأني بهم قد مزّقوا ، فأمر الحكم بصلبه وأغرب الحكم في بأساء حربه هذه عندما حمي وطيسها بنادرة ما سمع لأحد من الملوك بمثلها ، وذلك أنه في مقامه بالسطح وعند بصره باشتداد الحرب دعا بقارورة غالية فجاءه بها خادم له ، فأفرغها على رأسه ، فلم يملك الخادم نفسه أن قال له : وأيّة ساعة طيب هذه؟ فقال : اسكت لا أمّ لك! ومن أين يعرف قاتل الحكم رأسه من رأس غيره ، ثم أعتق مماليكه ، ووالى الإحسان عليهم ، وجعل يقول : ما استعدت الملوك بمثل الرجال ، ولا حامى عنها كعبيدها. وكان ممن هرب من أهل الرّبض إلى طليطلة الفقيه يحيى بن يحيى (٤) ، ثم أمّنه الحكم. وكان منهم طالوت بن عبد الجبار المعافري (٥) أحد من لقي مالك بن أنس ، استخفى عند يهودي أحسن خدمته ، ثم انتقل إلى الوزير الإسكندراني (٦) واثقا به ، فسعى به إلى الحكم ، وأمكنه منه ، فوجده أغلظ ما كان عليه ، فلما قرّر عليه ذنوبه قال له : إني أبغضتك لله وحده ، فلم ينفعك عندي ما صنعته معي ، وأخبره ما جرى له مع اليهودي والوزير ، فرقّق الله قلبه عليه ، فقال له : إن الذي أبغضتني من أجله قد صرفني عنك ، ونقص الإسكندرانيّ في عين الحكم. قال : ولقد بلغ من استخفاف أهل الرّبض بالحكم أنهم كانوا ينادونه ليلا من أعلى صوامعهم : الصلاة الصلاة يا مخمور. ولم يتملّ بالعيش بعد هذه الوقعة من علّة طاولته أربعة أعوام ، فمات نادما مستغفرا. وكان مما نعوه عليه أن جعل العشر ضريبة على الناس بعد أن كان مصروفا إلى أمانتهم.
سنة ست ومائتين
بايع الحكم لابنيه بالعهد : عبد الرحمن ثم المغيرة ، فانخلع المغيرة لأخيه ومات مكرّما في
__________________
(١) عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون ابن الرشيد. نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٧).
(٢) جزيرة إقريطش : جزيرة كبيرة في بحر المغرب. معجم البلدان (ج ١ / ص ٢٣٦).
(٣) وشقة : مدينة في شمال شرقي إسبانيا فتحها العرب سنة ٧١٣ ثم استعادها الإسبان سنة ١٠٩٦. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٧٤٢).
(٤) سيترجم له ابن سعيد في هذا الجزء (ص ١٦٣).
(٥) ترجمته في الذيل والتكملة (ج ٤ / ص ١٥٠) ، وتاريخ افتتاح الأندلس (ص ٧٠) ونفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٧).
(٦) هو الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني. ترجمته في نفح الطيب (ج ٥ / ص ٨٥).