وإذا نظرنا إلى حلمه ، كفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم حلمه عن أهل الجمل عموماً ، وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزّبير خصوصاً ، وشدّة عداوتهما له معلومة ، وإيصاؤه جيوشه بأنْ لا يتبعوا مُدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، وعدم منعه الماء لعسكر معاوية يوم صفّين لمّا استولى عليه بعدما منعوه منه.
وإذا نظرنا إلى عدله لمْ نجد له نظيراً. وفي (الإستيعاب) : إنّه كان إذا ورد عليه مال لمْ يُبقِ منه شيئاً إلاّ قسّمه ، ولا يترك في بيت المال منه إلاّ ما يعجزعن قسمته في يومه ذلك ، ولمْ يكن يستأثر من الفيء بشيء ، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً ، ولا يخصّ بالولايات ألاّ أهل الديانات والأمانات ، واذا بلغه عن أحدهم خيانة ، كتب إليه : «قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أذا أتاك كتابي هذا ، فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك مَن يتسلّمه منك».
وإذا نظرنا إلى فصاحته وبلاغته ، وجدناه إمام الفصحاء وسيّد البلغاء ، وحسبُك أنْ يُقال في كلامه : إنّه بعد كلام الرسول (ص) ، فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق.
ويقبح بنا أنْ نُقيم شيئاً من الشواهد والأدلّة على ذلك ؛ فإنّه كإقامة الدليل على الشمس الضاحية.
وليسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ |
|
إذا احتاجَ النَّهارُ الى دليلِ |
ولا أدلّ على ذلك ممّا اُثر عنه وجمع من كلامه ، كنهج البلاغة وغيره.
وإذا نظرنا إلى زهده في الدّنيا ، أخذَنا العجب والبهر من رجل في يده الدنيا كلّها ـ عدا الشام ـ ؛ العراق وفارس ، والحجاز ومصر ، وهو يلبس الخشن ويأكل الجشب ؛ مواساة للفقراء ، ويقول «يا دُنيا غرِّي غيري»!
ومِن عجيب أحواله ، إنّه اجتمعت في صفاته الأضداد ، فبينما هو يمارس الحروب ، ويبارز الأقران ويقتل الشجعان ، ومَن تكون هذه صفته لابدّ أنْ يكون قاسي القلب شرس الخُلق ، بينا نراه كذلك ، إذا به أعبد العُبّاد ؛ يقضي ليله بالصلاة والعبادة ، والتضرع والإبتهال والخشوع لله تعالى ، وإذا به أحسن النّاس خُلقاً ، وأرقّهم طبعاً