المجلس الثّامن والأربعون بعد المئة
في بعض فترات التّاريخ يبدو الواقع حادّاً شديد الحدّة ، فيُخيّل للإنسان الذي يُعايش هذا الواقع أنّ كلّ ما قرأه عن القيم الخيّرة ، والنّزوغ البشري إلى الخير ، إنْ هو إلاّ أوهام كتّابٍ حالمين لم يصطدموا بالواقع ، فعند احتدام هذا الواقع لا يستطيع الإنسان أنْ يُميّز بين الخطأ والصّواب.
وحين ينتصر الباطل في أفضع صوره ، في موقعة إثر موقعة ، ويكتسح الحكم الإرهابي أمامه كلّ العقبات ، يحدث ما يشبه الوباء العام ، وتصبح أغلبية النّاس جبناء وانتهازيين ، وقتلة ومُجرمين حتّى يصعب تصديق أنّ الطّبيعة الإنسانيّة تحتوي على أي أساس يمتّ للخير بصلة.
إنّ نفوس النّاس تنهار واحدة إثر الاُخرى ، والعدوى تنتقل انتقال الوباء المستشرى ، وتفقد البشرية إحساسها بالكرامة ، وكأنّها هي تحكُم على نفسها بالانّّحطاط إلى أبعد مدى ، تعاقب نفسها بما ترتكبه من آثام.
وليست بعد ذلك صراعاً بين قوى ظالمة وقوى مظلومة ، إنّما هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانيّة العُليا والقيم السّفلى. ومهما تلبس القوى المُتحكّمة تصرفاتها من أردية المنطق والعدالة والسّياسة ، فإنّها في الواقع تنخر في صميم الكيان البشري ، وتوشك أنْ تودي بهذا الكيان إلى الفناء.
وكلّ سلطة متحكّمة ترى دائماً ـ إلى جانب السّيف والمال ـ مفكريها الذين يفلسفون التّسلط ويبررونه ، ولقد كان معاوية يُردّد كثيراً : (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ) وكأنّ مُلكه قدر إلهي ، وأنّ هذا القدر قد اختاره ؛ وبناء على ذلك فكلّ سلوك له يستمد شرعيته من هذا الاختيار.