المجلس الحادي والثلاثون
لمّا أسّر محمّد بن الأشعث مسلم بن عقيل ، أقبل به حتّى انتهى إلى باب قصر الأمارة وقد اشتد بمسلم العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن فيهم عمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي ، وإذا قلّة ماء باردة موضوعة على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها؟ لا والله ، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثم جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبّ فيه ماء ، فقال له : اشرب. فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ولا يقدر أنْ يشرب ، ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب ، سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.
كأنّما نفسُك اختارتْ لهَا عَطشاً |
|
لمّا دَرتْ أنْ سيقضي السّبطُ عَطشانَا |
فلمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عنْ ظمأٍ |
|
منْ ضربةٍ ساقَها بكرُ بنُ حمرانَا |
وخرج رسول ابن زياد وأمر بإدخاله إليه ، فلمّا دخل لمْ يسلّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : لِم لا تسلّم على الأمير ? قال : اسكت ويحك! والله ، ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم : إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ منّي. فقال له ابن زياد : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال مسلم : أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك. فقال ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال مسلم : كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك