تخبرنّ أحداً من النّاس بشيء ممّا اُخبرك به. قال : نعم. فأخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته ، فاضطجع وسكت ، فلمّا أصبح غدا إلى عبد الرحمن بن محمّد ابن الأشعث فأخبره ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه ـ وهو عند ابن زياد ـ فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره فقال : قم فأتي به السّاعة. وبعث معه عبيد الله بن العبّاس السّلمي في سبعين رجلاً من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلّما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ؛ فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السّيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثنّاه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه. فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطناب القصب ثمّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلمّا رأى ذلك خرج مصلتا سيفه في السكّة ، فقال محمّد بن الأشعث : لك الأمان ، لا تقتل نفسك. فقال مسلم : وأيّ أمان للغدرة؟! ثمّ أقبل يقاتلهم وهو يرتجز ويقول :
أقسمت لا اُقتلُ إلاّ حُرّا |
|
وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا |
أكرهُ أنْ اُخدعَ أو اُغرّا |
|
أو أخلطَ الباردَ سخناً مُرّا |
ردَّ شُعاعُ النَّفسِ فاسْتَقرّا |
|
كلُّ امرئٍ يوماً يُلاقي شَرّا |
أضربُكُمْ ولا أخافُ ضَرّا
فنادوه : إنّك لا تُكذب ولا تُغر. فلمْ يلتفت إلى ذلك إلى أنْ قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً ـ على ما رواه ابن شهر آشوب ـ ، وتكاثروا عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً. وفي رواية المفيد : أنّه أخذ بالأمان بعد أنْ عجز عن القتال. فاُتي ببغلة فحُمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثمّ قال : هذا أول الغدر. فقال له محمّد بن الأشعث : أرجو أنْ لا يكون عليك بأس. فقال : وما هو إلاّ الرجاء ، أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى ، فقال له عبيد الله بن العبّاس السلمي : إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب ، إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ. فقال : والله ، ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي ، وإنْ كنت لم اُحبّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكنّي أبكي لأهلي المقبلين ؛ أبكي الحسين وآل الحسين ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال : يا عبد الله ، إنّي أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني أنْ يبلّغ حسيناً ، فإنّي لا أراه إلاّ وقد