ولكن الخطبة أعقبها صمت تام ، ثُمّ تقدّم الحرّ يُحذّره بأنّه إذا قاتل فسيُقتل. فصاح فيه الحسين (ع) : «أبالموت تخوفني؟».
واصطبر الحسين (ع) ومضى ، والحرّ وراءه يمنعه كلّما ابتعد عن طريق الكوفة ، والحسين (ع) يرفض أنْ يبدأ بالقتال.
وأخيراً ظهرت طلائع جيش جديد من أربعة الآف رجل مع رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص لا أحد غيره ، وانتهى الأمر بين الطّرفين إلى أنْ حُصر الحسين (ع) وصحبه في كربلاء ، وبدا أنّ الحرب لا بدّ أنْ تقع ؛ فبعد قليل وصل شمر بن ذي الجوشن ليكون رقيباً على عمر بن سعد بن أبي وقاص إذا تخاذل.
وهُنا جمع الحسين (ع) أصحابه ، وقال لهم : «لقد بررتم وعاونتم ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً ؛ فإذا جنّكم الليل ، فتفرّقوا في سواده وانجَوا بانفسكم».
ولم يقبل واحد منهم أنْ يترك الحسين (ع) ويهرب بحياته.
ويعود الحسين (ع) فيلحّ في هذا ، فلا يخرج من معسكره رجل واحد. وكانوا سبعين رجلاً بازاء خمسة آلاف رجل.
عرض عمر بن سعد التّسليم فرفض الحسين (ع) ، بل الاحتكام إلى الشّعب.
وحُصر الحسين (ع) وصحبه عند كربلاء بعيداً عن الماء ؛ حيث يحميه جيش عمر بن سعد ، واشتدّ الظّمأ بالأطفال والنّساء ، وحمل الحسين (ع) ولده عبد الله ليسقيه بنفسه ظانّاً أنّ وجوده ومعه الطّفل قد يمنع مُحاصريه من إيذائه ، ولكنّهم رشقوا الطّفل بسهم فسقط صريعاً بين يدي أبيه (ع). وتمالك الحسين (ع) أمام هذا كلّه نفسه ، فإلى آخر لحظة كان يأمل في أنْ يبعث الرّوح في هذه الضّمائر الميتة.
وتقدّم الحسين (ع) يخطب الجيش ، وهو في رداء النّبي (ص) ، فإذا بالجيش يحدث من الضّجيج والضّوضاء ما يُغطّي على كلامه ، ولم يتراجع الحسين (ع) بل ظلّ صامتاً حتّى هدأت ضجّتهم ، ثُمّ انفجر قائلاً : «أنسبوني من أنا؟ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألسّت ابن بنت نبيكم؟ أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة. ويحكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟».