السعادات الأخروية المصونة عن الزوال (وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه (حَكِيمٌ) (٦٧) يعلم ما يليق بكل حال كما أمر بالأثخان ، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخير بين أخذ الفداء وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨) أي لو لا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب شديد (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حال كونه حلالا مستلذا.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر ولم يمدوا أيديهم إليها ، فنزلت هذه الآية. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه في المستقبل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩) في الحالة الماضية من استباحة الفداء قبل ورود الإذن من الله تعالى فيه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى).
قرأ أبو عمرو «من الأسارى» بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف ، وبالإمالة ، أي من الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي إيمانا وعزما على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف منكم قبل الإيمان (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه (رَحِيمٌ) (٧٠) بأهل طاعته.
روي أن العباس كان أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لمن خرجوا من مكة إلى بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر ، وأخذ ذلك العشرون منه فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم أكرموني فقال صلىاللهعليهوسلم : «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا». قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال صلىاللهعليهوسلم : «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا». قال العباس : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس : يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله ، ولعبيد الله ، والفضل ، وقثم». وما يدريك يا ابن أخي؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «أخبرني به ربي» (١). قال العباس : أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا في
__________________
(١) رواه الطبري في التفسير (٩ : ١٢٤) ، وابن كثير في التفسير (٣ : ٥٥٧) ، والبيهقي في دلائل النبوة (٣ : ٣٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٢٦٢).