كقول السيد لعبده وقد أهانه بعض الناس أيها العبد إنه ما أهانك وإنما أهانني. والمقصود تعظيم الشأن لا نفي الإهانة عن العبد ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].
روي أن الحرث بن عامر من قريش قال : يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب.
وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا لسائر قريش ، فنزلت هذه الآية. وعن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنا لا نكذبك فإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به ، فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي ولقد كذب الرسل قومهم كما كذبك قومك فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم حتى أتاهم النصر بهلاك قومهم ، فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا تظفر كما ظفروا ، بل أنت أولى بالتزام الصبر لأنك مبعوث إلى جميع العالمين (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) بالنصرة فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤) أي خبرهم في القرآن كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي وإن كان شق عليك إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن ، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه فإن قدرت أن تتخذ منفذا فيه إلى جوف الأرض ، أو مصعدا ترتقي فيه إلى السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك من تحت الأرض أو من فوق السماء فلتفعل.
وعن ابن عباس رضياللهعنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم في نفر من قريش فقالوا : يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك. فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوه فأعرضوا عنه صلىاللهعليهوسلم فشق ذلك عليه لشدة حرصه على إيمان قومه ، فنزلت هذه الآية. والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر وهذا دليل على مبالغة حرصه صلىاللهعليهوسلم على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمانهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنهم التام منه في مشاهدتهم للآيات الداعية إليه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) أي فلا تكونن