الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) والصحيح أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة وقد قام الإجماع على أن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم مرسل للإنس والجن. والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، فالله تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين ، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يتلونها عليكم مع التوضيح (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة (قالُوا) عند ذلك التوبيخ الشديد (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أن الرسل أتونا قد بلغوا الرسالة وأنذرونا عذاب يومنا هذا (وَ) إنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي اغتروا من الدنيا بما في الزهرة والنعيم (وَشَهِدُوا) في الآخرة (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) (١٣٠) فيهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم أقروا على أنفسهم بالكفر في عاقبة أمرهم (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١) أي شهادتهم على أنفسهم بالكفر ثابت لانتفاء كون ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول وكتاب. أو المعنى إرسال الرسل ثابت لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى ملتبسين بظلم وهم غافلون عن تبليغ الرسل وعن أمرهم ونهيهم (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل من الجن والإنس مراتب من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢) أي فلا يترك شيئا مما يستحق كل عامل من الفريقين من الجزاء فيجزي كلا بما يليق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على الخطاب (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أي إن تخصيص الله المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه تعالى محتاج إلى طاعة المطيعين أو ناقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه تعالى غنيا فإن رحمته عامة كاملة. ومن رحمته تعالى على الخلق ترتيب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومن رحمته تعالى إرسال الرسل وعدم استئصالهم بالهلاك بذنوبهم في وقت واحد (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها العصاة (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أي ويوجد من بعد إذهابكم خلقا آخر مخالفا للجن والإنس فتخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣) أي وينشئ الله إنشاء كائنا كإنشائكم من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم في العصيان. أي فكما أن الله تعالى قادر على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة كذلك قادر على تصويرهم بصورة مخالفة لها (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من مجيء الساعة (لَآتٍ) أي لواقع لا بد لأنهم كانوا ينكرون القيامة