كافرا ، لأن الكل مخلوقون في دار العمل فأزاح تعالى العذر عن الكل ، وأوصل تعالى متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح (انْظُرْ) أيها الإنسان بنظر الاعتبار (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فيما أمددناهم به من العطايا في الدنيا فمن وضيع ورفيع ، وضالع وضليع ، ومالك ومملوك ، وموسر وصعلوك (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) من درجات الدنيا فإن درجات الآخرة باقية غير متناهية ونعم الدنيا فانية متناهية (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١) من تفضيل درجات الدنيا أي التفاوت في الآخرة أكبر ، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ، ثم ذكر الله تعالى من أنواع التكاليف خمسة وعشرين نوعا بعضها أصلي وبعضها فرعي وهي : تفصيل لثلاثة شروط لأهل الثواب وهي إرادة الآخرة بالعمل ، وأن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة وأن يكون مؤمنا فقال : (لا تَجْعَلْ) أيها الإنسان (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ) أي فتمكث في الناس أو فتعجز عن سعادة الآخرة أو فتصير (مَذْمُوماً) من الملائكة والمؤمنين (مَخْذُولاً) (٢٢) من الله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر أمرا جزما.
وقرأ علي وابن عباس وعبد الله «ووصى ربك» ، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فـ «أن» إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لا» ناهية (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي أحسنوا بهما (إِحْساناً) عظيما كاملا فإن إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ومع ذلك لا تحصل المكافأة ، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادئ بالبر لا يكافأ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي إن يبلغا إلى حالة الضعف وهما عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر فلا تتضجر لواحد منهما بما تستقذر منه ولا تستثقل من مؤنه ، أي ولا تقل له كلاما رديئا إذا وجدت منه رائحة تؤذيك كما أنهما لا يتقذران منك حين كنت تخرأ أو تبول.
وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» فأحدهما بدل من ضمير التثنية. وقرأ ابن كثير وابن عامر «أف» بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء مع التنوين. والباقون بكسر الفاء من غير تنوين. (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تغلظ لهما في الكلام. والمراد من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ومن قوله (وَلا تَنْهَرْهُما) المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) أي لينا حسنا بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) أي لين لهما جانبك المذلول. والمراد افعل التواضع لهما (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي من أجل فرط عطفك عليهما ورقتك لهما بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤) أي ادع لهما بالرحمة ولو خمس مرات في اليوم والليلة بأن تقول : رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية رحمة مثل تربيتهما