وأمّا في المقام الثاني : فقد يقال : إنّ التعيين يتضمّن ضيقا على المكلّف وأصل البراءة ينفيه لعموم أدلّته ، خصوصا قوله عليهالسلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا (١) » ولا يتفاوت الحال فيه بين ما لو فرضت مسألة الدوران في أمرين متبائنين كالظهر والجمعة ، أو في فرد وكلّي مشترك بينه وبين غيره إذا قطع تعلّق الوجوب بالأوّل وشكّ في تعلّقه به بالخصوص ، أو على أنّه أحد فردي الواجب المخيّر بينه وبين الثاني أو بين الفرد الآخر من الكلّي ، بناء على كون متعلّقه بحسب الواقع هو الكلّي لا الفرد بالخصوص.
ولكن هذا كلّه حسن لو لا أصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة ، بناء على أنّ أصل البراءة إنّما يجري فيما لو كان الشكّ في التكليف ، أو آئلا إلى الشكّ في التكليف ، ومرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير إلى الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، لأنّه لو قيل بأنّ الأصل عدم تعلّق الوجوب بالظهر بالخصوص كان معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالكلّي أو بالثاني على التخيير بينه وبين الأوّل ، فيشكّ في أنّ البراءة لا تحصل إلاّ بالظهر أو تحصل به وبالجمعة ، والقدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة هو الأوّل ، فهو المتعيّن عملا بالأصل المشار إليه. ويعضده استصحاب الاشتغال إن قلنا باستصحاب القدر المشترك وهو نفس الاشتغال المتيقّن ، لا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التعيين ولا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التخيير.
وحينئذ فلا يرد : أنّه إن اريد بالاشتغال المستصحب اشتغال الذمّة بأحدهما تخييرا أو بالكلّي ، فهو مرتفع يقينا بفعل المعادل المشكوك في تعلّق الوجوب به أو بأداء الفرد الآخر من الكلّي ، وإن اريد اشتغال الذمّة بأحدهما تعيينا فهو من أوّل الأمر غير ثابت.
وربّما يذكر من صور دوران الأمر بين التخيير والتعيين ما إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، وهذا الفرض إن صحّ واستقام لا يجري فيه شيء من أصلي البراءة والاشتغال ، وإن قلنا بجريان الأوّل في غير هذا الفرض لنفى احتمال التعيين ، إذ لا ضيق بوجود المسقط حتّى ينفى بأصل البراءة ، ويكفي حصوله في رفع الاشتغال وحصول البراءة وإن لم يصدق معه الامتثال ، فلا مجرى لأصالة الاشتغال.
نعم يجري بالنسبة إلى المسقط أصالة العدم ، ومفادها نفي تعلّق الطلب به ولو تخييرا.
__________________
(١) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.