ولا حاجة مع ذلك في دفع الإشكال إلى تكلّف القول بأنّه يكفي في إحراز النيّة المعتبرة في العبادة قصد التخلّص من النار ، وهو على ما قرّر في محلّه إحدى الغايات المقصودة في العبادات الكافية في صحّتها كما صنعه بعض مشايخنا ، مع أنّه عند التحقيق مخدوش بأنّ قصد التخلّص من النار عند الإتيان بشيء ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز الأمر النفسي في المأتيّ به ، فإن كان محرزا في الأقلّ وكما يتأتّى قصد التخلّص فكذلك يتأتّى قصد القربة وقصد الامتثال الموجب لها ، وإن لم يكن محرزا فكما لا يتأتّى قصد القربة فكذلك لا يتأتّى قصد التخلّص ، فالإشكال على حاله إلاّ بأن يلتزم وجود الأمر النفسي في الأقلّ ومعه لا فرق ولا حاجة إلى تكلّف أصلا.
وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر بل المقطوع أنّ أخبار البراءة المتقدّمة في الشبهة الحكميّة من الشكّ في التكليف كلّها آتية هنا ، ضرورة أنّ وجوب الأكثر الّذي مرجعه إلى وجوب الزائد على الأقلّ بعد العلم التفصيلي بوجوبه على وجه يترتّب العقاب على المخالفة على تقدير جزئيّة الزائد في الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف ، وأنّه ما لا يعلمه ، فيندرج في عموم قوله عليهالسلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١) » و « رفع عن امّتي تسعة » ـ ومنها ـ « ما لا يعلمون (٢) » و « الناس في سعة ما لم يعلموا (٣) » فيكون موضوعا ومرفوعا عنهم ، سواء فسّر الرفع برفع المؤاخذة خاصّة أو رفع الآثار الشرعيّة الّتي منها المؤاخذة ، ويكونون في سعة عن العقاب والمؤاخذة. والمراد بالمؤاخذة والعقاب المنفيّين بهذه الأخبار العقاب على ترك المأمور به الواقعي اللازم من الإخلال بالجزء المستندة إلى جهل المكلّف بجزئيّته فلا يرد أنّ الجزء لا يترتّب على الإخلال به من حيث هو عقاب ولو كانت جزئيّته ثابتة معلومة بالتفصيل فكيف يضاف إليه نفي العقاب والمؤاخذة.
ولو فرضنا عدم حكم العقل بمرجعيّة البراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة كان النقل من جهة الأخبار المذكورة كافيا في إثباتها ، لأنّ غاية ما يسلّم من العقل حينئذ إنّما هو تجويز العقاب على المخالفة ، على معنى أنّه ممّا لا ضير فيه ولا قبح على الشارع من جهته ، لا لزومه ووقوعه لا محالة ، ومؤدّى الأخبار المذكورة أنّ الشارع لا يعاقب عليها. ومن الظاهر أنّ نفي العقاب شرعا لا ينافي جوازه عقلا ، لأنّ مرجعه إلى عدم قبحه عقلا الموجب لامتناعه ، ومرجع نفيه إلى نفي وقوعه فعلا فلا تعارض ، كيف وقد عرفت حكم
__________________
(١) الكافي ١ : ١٦٤ ، ح ٣.
(٢) التوحيد : ٣٥٣ ، ح ٢٤.
(٣) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.