لأنّه من جملة ما وراء العلم ، فإنّه اعتقاد جازم لا يعتبر فيه مطابقة الواقع بخلاف العلم فيتغايران بحسب المفهوم ، فإذا حرم اتّباع غير المعلوم بعمومه لزم منه حرمة اتّباع المقطوع به (١) ، وهذا خلاف الإجماع المنعقد على حجّيّة القطع بل حكم العقل المستقلّ بحجّيته ، فلا بدّ من تصرّف وتأويل في الآية دفعا لهذه الحزازة ، وهو يتأتّى بحمل « العلم » على إرادة الاعتقاد الراجح ، فيعمّ القطع والظنّ أيضا ، فيحرم اتّباع ما وراء ذلك وهو الشكّ والوهم ـ واضح الدفع.
في الأوّل : بأنّ ظاهر الآية كون خطابها من باب « إيّاك أعني ويا جار [ ة ] اسمعي » ، فالحكم المستفاد منها للامّة لا للنبيّ ، ومع الغضّ عن ذلك فمجرّد اختصاص الخطاب به لا يوجب اختصاص الحكم به ، بل كونه من الخصائص يحتاج إلى دليل خاصّ ، بخلاف عمومه لسائر الامّة فإنّه يكفي فيه أصالة الاشتراك في التكليف ـ المقرّرة في محلّه ـ حتّى بينه وبين سائر الامّة.
وفي الثاني : بالأصل.
وفي الثالث : بعدم الفرق عندنا في إفادة عموم النفي بين صورتي ورود النفي على العامّ أو ورود العامّ على النفي ـ كما ذكرنا في غير موضع ـ والأصل فيه أنّ لفظة « كلّ » وما بمعناها وضع لغة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه ، ومرجعه إلى أنّها بحسب الوضع آلة لإدراك عموم الحكم للأفراد سواء كان الحكم إيجابيّا أو سلبيّا ، وسواء دخل العامّ على النفي أو انعكس الأمر.
وفي الرابع : بعدم إمكان توجّه النهي في الآية إلى المقطوع به في شيء من فرديه وهما العلم والجهل المركّب ، لاستحالة النهي عن اتّباع الواقع ، واستحالة تكليف الغافل والقاطع بخلاف الواقع [ الذي ] لا يلتفت إلى كون قطعه جهلا مركّبا ، فالآية عامّ في غير المقطوع به ، ولو سلّم عمومها له فالتأويل بالتخصيص بإخراج القطع أولى وأرجح من التأويل بالتجوّز بإرادة الاعتقاد الراجح من العلم ، ولو سلّم التجوّز فيكفي فيه تعرية العلم عن اعتقاد المطابقة ، ولا حاجة إلى تعريته عن اعتبار الجزم ، فيدخل الظنّ حينئذ في المنهي عن اتّباعه.
وممّا استدلّ به أيضا على حرمة العمل بما وراء العلم قوله تعالى ـ في سورة البقرة ـ : ( كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(٢) فإنّ النهي عن اتّباع خطوات الشيطان
__________________
(١) وفي الأصل : « غير المقطوع به » والظاهر أنّه سهو منه قدسسره والصواب ما أثبتناه في المتن.
(٢) سورة البقرة : آية ١٦٨ ، ١٦٩.