طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلابدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.
لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.
لأنّا نقول : إنّه بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أن لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وفائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر » انتهى (١).
أقول : أوّل ما يرد عليه : أنّ مقتضى النواهي عن العمل بالقياس ، وأنّه محق به الدين ، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وأنّ أوّل من قاس شيطان ، وغير ذلك كون استعمال القياس بجميع وجوهه وجهاته مبغوضا للشارع ، فيكون استعماله في الترجيح مبغوضا له أيضا.
وثاني ما يرد عليه : أنّ قوله : « فتعيّن العمل بما طابقه » تعليلا بحصول الظنّ به ، مع قوله : « فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح » ، كرّ على ما فرّ منه ، من جعل معنى مطروحيّة القياس في الشريعة عدم كونه دليلا على الحكم.
أمّا أوّلا : فلأنّ الحكم الّذي لا يكون القياس دليلا عليه أعمّ من الحكم الفرعي والحكم الاصولي ، ومعنى كون القياس رافعا للعمل بالخبر المرجوح أنّه يحرم العمل به ، وهو حكم اصولي صار القياس دليلا عليه مقتضيا له ، لأنّه لولاه لكان العمل به جائزا.
وأمّا ثانيا : فلأنّ الدليل الّذي ليس القياس فيه بدليل على الحكم ـ على تقدير كون المراد به الحكم الفرعي خاصّة ـ أعمّ من تمام المقتضي للحكم وجزء المقتضي له بوحدة المناط ، وأخذ الظنّ الحاصل من القياس مرجّحا للخبر المطابق له يؤول إلى جعله جزءا للمقتضي ، لأنّ مرجع ترجيح الخبر به إلى أنّ المقتضي للحكم هو الخبر المظنون صدق مضمونه ، والمفروض أنّ هذا الظنّ هو الظنّ الحاصل من القياس لا غير.
وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الظنّ على طريقة القائلين بمطلق الظنّ في الأحكام ـ بناء على كون الحجّة عندهم هو الظنّ الفعلي ـ تمام المقتضي ، والمفروض استناده إلى القياس بلا مدخل للخبر في حصوله ، وإلاّ لم يعقل كونه مرجّحا له.
ولأجل ذا كلّه صار القياس مهجورا في نظر الأصحاب ، واستقرت سيرتهم في
__________________
(١) فرائد الاصول : ١ : ٥٩٥ ـ ٥٩٨.