العمليّات والعلميّات.
والفارق كما بيّناه سابقا : أنّ المقصود بالذات في العمليّات بعد الإقرار والقبول إنّما هو العمل ، والعلم لا يطلب فيها إلاّ مقدّمة للعمل ، لكون اعتباره لمجرّد الطريقيّة ، بخلاف العلميّات الّتي يطلب فيها الإذعان بمعنى العلم ، والقبول بمعنى التديّن بالمعلوم ، لما عرفت سابقا من أنّ المعتبر في الإسلام شيئان : الإذعان للواقع ، وقبوله وأخذه دينا ، فالكفر يلزم تارة باعتبار انتفاء الإذعان ، واخرى لأجل انتفاء القبول ، ومرجعه إلى كون منكره كافرا ، سواء كان عن شبهة أو مع العلم ، بخلاف الضروري الّذي لم يكن من قبيل العلميّات ، إذ لا يعتبر منه في الإسلام إلاّ الإقرار والقبول ، فإنكاره إنّما يؤثّر في الكفر بعد العلم بمقدّمتين ، أعني العلم بأنّه ما جاء به النبيّ وكلّما جاء به النبيّ فهو من الدين ، وإن لم يكن هذا العلم مقصودا للشارع بالذات.
وقضيّة ذلك أن لا يكون انتفاء العلم مؤثّرا في الكفر والتكفير أصلا ، وهذا هو معنى خروج صورة الشبهة.
وأمّا دعوى : خلوّ الأخبار المحدّدة للإسلام عن اعتبار التصديق بخصوص الضروريّات ، ففيها : أنّ الأخبار وإن لم تشتمل على التصديق بالضروريّات ، إلاّ أنّها مشتملة على اعتبار الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ من عند الله ، فإنّ الإقرار لا يراد به هنا الإقرار اللساني بل الإقرار القلبي ، وهو قبول كلّما جاء به النبيّ من عند الله ، وأخبر به عن الله والتديّن به ، من « قرّ وأقرّ بمعنى ثبت وأثبت » ، ولا يكون إلاّ بقبوله وتسليمه وأخذه دينا ، وضروريّات الدين يقال لطائفة ممّا جاء به النبيّ طرئها الضرورة ، فيجب الإقرار بها باعتبار أنّها ممّا جاء به النبيّ ، على ما دلّ عليه الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة ، مضافا إلى الإجماع وغيره.
فإنكار الضروري على معنى عدم قبوله والتديّن به ، إنّما يوجب الكفر لكونه إنكارا لما جاء به النبيّ ، لا لكونه ضروريّا بوصف الضروريّة ، فإنّ هذا الوصف لا مدخليّة له في موضوع هذا الحكم ، بل المناط فيما يعتبر في الإسلام وما يكون كفرا هو الإقرار بما جاء به النبيّ وإنكاره ، حتّى أنّه يلزم الكفر المصحّح للتكفير بإنكار ما علم كونه ما جاء به النبيّ من جهة النظر والبرهان ، كما تقدّم التصريح بذلك في عبارة مجمع البرهان (١).
__________________
(١) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ١٩٩.