تماميّة دليل الانسداد ، بواسطة عدم ثبوت ما هو العمدة من مقدّماته ، وهو انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ ، فلا يعقل الاستناد لإتمامه إلى منع مرجعيّة الأصل لوجود الخبر.
وأمّا ما أورد أيضا ـ على القول بالرجوع إلى الأصل مع وجود الأمارة الظنّيّة كالخبر : ـ من أنّ دليل الأصل وهو الإجماع ليس بموجود فيما قابله الخبر وغيره ، فهو أضعف من سابقه ، لأنّ الإجماع على تقدير انحصار دليل الأصل فيه قائم بالأصل الكلّي ، ووجود الخبر المختلف فيه لا يخرج المورد عن موضوعه في نظر من لا يراه معتبرا من باب الظنّ الخاصّ.
ومن الأعلام من أورد على الرجوع إلى الأصل على تقدير كون مدركه العقل المستقلّ : « بأنّ حكم العقل إمّا أن يراد به الحكم القطعي أو الظنّي ، فإن كان الأوّل فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل ، سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، ولكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجمالا يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا. كما لا يخفى ، سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود الخبر الواحد الصحيح على خلافه ، وإن أراد الحكم الظنّي سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ، فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار الّتي لم يثبت حجّيّتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه » (١) انتهى.
وفيه : أنّه لا ريب في كون حكم العقل بالبراءة قطعيّا ولا ينبغي الاسترابة فيه ، لأنّ مناطه عدم البيان من جهة استقلاله بقبح التكليف بلا بيان ، والبيان بمجرّد وجود الخبر المشكوك الاعتبار غير حاصل ، وكذلك غيره من الأمارات الغير المعتبرة ، وحيث حصل البيان بنصب دليل علمي أو قطعي الاعتبار فلا حكم له ، لا بعنوان القطع ولا الظنّ.
وأمّا الخبر الصحيح المفروض وجوده في المسألة ، فإن قام دليل قطعي على اعتباره كان بيانا ، ومعه لا مجرى لأصل البراءة ، وإلاّ فوجوده كعدمه في عدم منعه من حكم العقل ، سواء فرضناه قطعيّا أو ظنّيّا.
وأمّا المنع من حكمه من جهة العلم الإجمالي الحاصل بعد ورود الشرع ، فهو حقّ لا سترة عليه ، فالوجه في إبطال الرجوع إلى أصل البراءة هو ما بيّناه من الوجوه الثلاث.
__________________
(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤٢.