دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

____________________________________

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في بحر الفوائد وشرح الاستاذ الاعتمادي هو أنّه إن قلنا بشمول الأخبار الواردة في القرعة الدالّة على اعتبارها للشبهة الحكميّة والشبهة في الموضوعات المستنبطة ، فلا إشكال في تقديم أخبار الاستصحاب على الأخبار الواردة في القرعة من باب التخصيص ، لأنّها أخصّ مطلقا بالنسبة إليها.

وبالجملة ، إنّ دليل الاستصحاب يكون أخصّ مطلقا من دليل القرعة فيكون مخصّصا له ، كما أنّ الإجماع ـ أيضا ـ مخصّص لدليل القرعة بإخراج الشبهات الحكميّة والموضوعات المستنبطة منه ، فيكون قول المصنف قدس‌سره ـ أعني : فلا بد من تخصيصها بها ـ صحيحا من دون حاجة إلى تكلّف التوجيه.

وأمّا لو قلنا بأنّ أدلّة القرعة لا تشمل جميع الشبهات بل من الأوّل مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ، فيمكن أن يقال بتقديم أخبار الاستصحاب على أخبار القرعة أيضا ، وذلك لا من باب التخصيص ، لأنّ النسبة بينهما ـ حينئذ ـ هي عموم من وجه ، مادّة الاجتماع كالإناء المشكوك بالطهارة ، ومادّة الافتراق من جانب دليل الاستصحاب هو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة كاستصحاب الطهارة بعد خروج المذي ، ومادّة الافتراق من جانب دليل القرعة مورد انتفاء الحالة السابقة كالإناءين المشتبهين ، بل من جهة حكومة أخبار الاستصحاب على أخبار القرعة ، حيث إنّ الاستصحاب وإن كان أصلا أيضا كالقرعة على الفرض ، إلّا إنّ أخبار الاستصحاب فيها جهة الطريقيّة من حيث كون لسانها البناء على بقاء المتيقّن وأنّه لم يرتفع ، ولذا يكون الاستصحاب حاكما على أصالة الحلّية الشرعيّة. هذا ما في بحر الفوائد.

قال الاعتمادي : إنّ مقتضى كون النسبة بين دليل الاستصحاب والقرعة عموما من وجه هو تعارضهما في مادّة الاجتماع ، إلّا إنّه لا بدّ من ترجيح الاستصحاب ، لأنّ أكثر أدلّتها وردت في مورد الشبهة الموضوعيّة وتخصيص المورد غير ممكن ، والتفصيل بالأخذ بالاستصحاب في خصوص الموارد المأخوذة في الأدلّة والأخذ بالقرعة في غيرها مدفوع بعدم الفصل في المسألة. هذا تمام الكلام في تعارض القرعة مع الاستصحاب ، أمّا حكم تعارضها مع غيره فقد أشار إليه بقوله :

٤٢١

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير وأصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل.

____________________________________

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير.

كما إذا شكّ في أنّ هذا الغنم حلف بذبحه أو بترك ذبحه أو اشتبه الغنم المحلوف بذبحه مع الغنم المحلوف بترك ذبحه.

ووجه الورود أنّ التخيير أصل عقلي موضوعه التحيّر ، ومن المعلوم أنّه مع وجود القرعة يزول التحيّر.

وأصالتي الإباحة كما إذا شكّ في أنّ هذا المائع خلّ أو خمر والاحتياط كما في الإناءين المشتبهين إذا كان مدركهما العقل.

ووجه الورود على الإباحة هو أنّ الإباحة العقلية موضوعها عدم البيان ينتفي ويرتفع بالقرعة ، لأنّها بيان.

ووجه الورود على الاحتياط هو أنّ موضوع الاحتياط العقلي هو احتمال العقاب في ترك ما يحتمل وجوبه أو فعل ما يحتمل تحريمه ، ومع القرعة يرتفع احتمال العقاب. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

وأمّا الجهة الثالثة ـ أعني : تشخيص موارد جريانها من حيث اختصاصها بالشبهات الموضوعية الصرفة أو عدم الاختصاص ـ فالظاهر من كلماتهم هو الاختصاص ، بل قام الإجماع على الاختصاص وعدم جريانها في الأحكام الشرعيّة والموضوعات المستنبطة كما في بحر الفوائد ، إلّا إنّ الكلام في أنّ خروجهما من جهة عدم شمول أخبار القرعة لهما بمعنى خروجهما عنها بالذات أو من جهة شمولها لهما ، ثمّ قيام الدليل على تخصيصها باخراجهما ظاهر بعض هو الأوّل.

وكيف كان ، فهل يختصّ اعتبار القرعة فيما إذا كان هناك واقع مجهول كقصة يونس عليه‌السلام وكالإناءين المشتبهين فلا تجري فيما ليس هناك واقع مجهول كقصّة مريم عليها‌السلام كما في شرح الاعتمادي ، وكذا ما إذا أوصى بعتق عبدين ولم يف ثلثه إلّا بأحدهما أو لا يختصّ؟ ظاهر بعض كالشهيد الثاني وإن كان الأوّل ، أعني : الاختصاص كما في شرح الاعتمادي ، إلّا إنّ الحقّ هو عدم الاختصاص وعدم الفرق بين ما هو المشتبه في الواقع أو الظاهر ، فلا

٤٢٢

____________________________________

إشكال في اعتبارها في المقامين ، لأنّ المستفاد من الأخبار أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه أو مجهول أو مشكل ، فيشمل ما هو كذلك في الظاهر.

وأمّا الجهة الرابعة : ـ وهي القرعة من الأمارات أو الاصول ـ فملخّص الكلام فيها هو أنّه يمكن أن يقال : إنّها من الأمارات الجعليّة ، بمعنى أنّ أماريّتها تكون بجعل من الشارع ، كالاستخارة ، فأماريّتها إنّما هي بملاحظة ما وصل من الشارع في شأنها ، إنّ الله تعالى بعد تفويض الأمر إليه يرشد العبد إلى الواقع ، لا ممّا يكون أماريّتها بالوجدان مع قطع النظر عن الشارع ، كأكثر الأمارات في الأحكام والموضوعات ، ثمّ استشهد من قال بكون القرعة من الأمارات بما ورد في القرعة من الأخبار ، فإنّ ظاهر أكثرها في كون القرعة من الأمارات ، فالقرعة ـ حينئذ ـ مثل البيّنة في كونها من الأمارات لا مثل أصالة الطهارة والحلّية ونحوهما من الاصول ، فإنّ تسمية الشيء دليلا وأمارة في الاصطلاح مبنيّة على كونه ناظرا إلى الواقع بالذات أو بجعل الشارع ، والقرعة من القسم الثاني حيث يكون الوجه في اعتبارها جهة نظرها إلى الواقع ، ثمّ هذا بالنسبة إلى ما كان له واقع مجهول للمكلّف لا إشكال فيه.

أمّا بالنسبة إلى ما لا تعيّن له واقعا فربّما يتراءى في بادئ النظر عدم تصور الطريقيّة الجعليّة فيه من جهة عدم وجود واقع مجهول فيه بالفرض ، إلّا أنّه يمكن تصور الطريقيّة فيه بعد التأمّل أيضا ، فإنّه وإن لم يكن فيه واقع مجهول ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون هناك امور أوجبت أحقيّة أحد الطرفين بالتقديم بالنسبة إلى الآخر ، وإن كانت ممّا لا ندركه ، اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الأمارة في اصطلاح الاصوليّين ما كانت أماريّتها بالذات مع قطع النظر عن بيان الشارع وإحداثه القرب فيها ، أو يقال بعدم حصول الظنّ من القرعة ولو نوعا بعد ملاحظة ما ورد من الأخبار فيه ، هذا كلّه على تقدير الاستناد في القرعة إلى الأخبار ، أمّا لو استند فيها إلى الإجماع فلا دلالة فيه على اعتبارها من باب الطريقيّة والأماريّة ، فتلحق بما كان اعتباره من باب التعبّد في الحكم. هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة كما في بحر الفوائد مع تلخيص منّا.

وأمّا الجهة الخامسة : فقد أشار إليها بقوله : لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم.

٤٢٣

____________________________________

حاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ ما ذكر من كون القرعة واردة أو حاكمة على الاصول الثلاثة إنّما هو مع قطع النظر عن تطرّق الوهن في عمومات القرعة بكثرة التخصيص ، وأمّا بالنظر إلى ذلك فالتمسّك بالقرعة في مورد محتاج إلى جبر وهن عمومها بعمل الأصحاب ، ففي كلّ مورد لم يعمل الأصحاب فيه بالقرعة يرجع إلى هذه الاصول لسلامتها عن الوارد والحاكم.

قال المحقّق غلام رضا رحمه‌الله في تعارض القرعة مع الاصول ما هذا لفظه : «فنقول أنّ الاصول مقدّمة عليها ، وذلك :

تارة : لأنّ مورد القرعة عامّ ومورد الاصول خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ ، أمّا خصوصيّة الاستصحاب ، فلأنّ مورده مختصّ بما لوحظ فيه الحالة السابقة دون موردها. والبراءة ، فلاختصاصها موردا بما إذا كان الشكّ في التكليف دونها ، وهكذا الاحتياط والتخيير.

فإن قلت : إنّ القرعة كما أنّ لها جهة عموميّة كذلك لها جهة خصوصيّة ، لأنّ موردها مختصّ بالموضوعات دون الأحكام ، بخلاف الاصول فإنّ موردها عامّ بالنسبة إليهما فتكون النسبة بينهما عموما من وجه ، فلا وجه للتقديم.

قلت : إنّ هذا مسلّم لو خصّص العامّ ـ أعني : ما دلّ على اعتبار القرعة أوّلا ـ بالإجماع الذي دلّ على اعتبارها في الموضوعات ، فتكون النسبة بينهما وبين سائر المخصّصات الأخر ـ أعني : الاصول ـ عموما من وجه ، لكنّ هذا غير مسلّم لأنّه هنا مخصّصات متعدّدة وكلّها في عرض واحد ، فكيف يلاحظ العامّ أوّلا بالنسبة إلى بعض ، ثمّ بالنسبة إلى بعض آخر.

واخرى : لأنّ عموم أدلة القرعة موهونة ، لأنّها كأدلّة نفي الضرر وردت عليها تخصيصات كثيرة لا يعلم مقدارها ، فهي مجملة بالنسبة إلى الباقي فلا بدّ من جابر لوهنها وهو عمل الأصحاب ، ولهذا اقتصر في العمل بها على موارد خاصّة يحصل الاطّلاع عليها بالتتبّع في الفقه.

وبما ذكر يندفع ما يتوهّم في المقام من الإشكال وهو أنّ كثرة التخصيص فيها ؛ إمّا

٤٢٤

____________________________________

وصلت إلى حدّ أوجب الإجمال فيها أم لا ، وعلى التقديرين لا وجه لإيقاف العمل بها على الانجبار.

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ عمل جماعة من الأصحاب لا يوجب خروج اللفظ من الإجمال وصيرورته مبيّنا.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ ظواهر الألفاظ بعد اعتبارها من باب الظنّ النوعي لا مدخليّة في العمل بها إلى ضمّ عمل الأصحاب أو جماعة منهم.

وجه الاندفاع أنّ الإجماع قد وقع على خروج موارد عديدة عن تحت أدلّة القرعة ، ولمّا كان المخرج غير معيّن فلا بدّ في مقام التثبّت بعمومها ملاحظة عمل الأصحاب ، فإن عملوا ولو جماعة منهم بها انكشف عملهم عن أنّ هذا المورد ليس ممّا خرج عن تحتها بالإجماع ، فيكون عمومها بالنسبة إليه محكما وإلّا يكون محتمل الخروج ، وبعد عروض هذا الاحتمال لا وجه لإتيان العموم في معرض الاستدلال». انتهى مورد الحاجة من كلامه.

وقال سيّدنا الاستاذ بتقديم الاستصحاب على القرعة من باب الورود ، حيث قال : «إنّ مورد القرعة نظرا إلى مورد الروايات الواردة فيها هو اشتباه الحكم الواقعي والظاهري ، فالمراد ـ من المجهول في قوله عليه‌السلام : كلّ مجهول ففيه القرعة (١) ـ هو المجهول المطلق ، أي : المجهول من حيث الحكم الواقعي والظاهري ، وظهر بما ذكرناه أنّه يقدّم الاستصحاب على القرعة تقدّم الوارد على المورود ، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري ، فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي والظاهري على ما ذكرناه ، بل يقدّم على القرعة أدنى أصل من الاصول ، كأصالة الطهارة وأصالة الحلّ وغيرهما ممّا ليس له نظر إلى الواقع ، بل يعيّن الوظيفة الفعليّة في ظرف الشكّ في الواقع ، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهريّة تنتفي القرعة بانتفاء الموضوع.

وظهر بما ذكرناه ـ أيضا ـ أنّه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم من أنّ أدلّة القرعة قد تخصّصت في موارد كثيرة ، وكثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها ، فلا يمكن الأخذ

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤. التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣. الوسائل ٢٧ : ٢٦٠ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ب ١٣ ، ح ١١.

٤٢٥

وإن كان مدركهما تعبّد الشارع بهما في مواردهما فدليل القرعة حاكم عليهما كما لا يخفى. لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، والله العالم.

____________________________________

بها إلّا في موارد انجبر ضعفها بعمل الأصحاب بها ؛ وذلك لأنّ الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة إنّما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري فيها لجريان قاعدة من القواعد الظاهريّة ، لا لأجل تخصيص أدلّة القرعة ، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.

نعم ، قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهريّة للنصّ الخاصّ الوارد فيه ، كما إذا اشتبه غنم موطوءة في قطيع ، فإنّه ورد نصّ دالّ على أنّه ينصّف القطيع ويقرع ثمّ يجعل نصفين ويقرع وهكذا إلى أن يعين الموطوء ، فيجتنب عنه دون الباقي ، ولو لا النصّ الخاصّ لكان مقتضى القاعدة هو الاحتياط والاجتناب عن الجميع». انتهى مورد الحاجة.

وإن كان مدركهما تعبّد الشارع بهما في مواردهما فدليل القرعة حاكم عليهما كما لا يخفى.

لأنّ موضوع الإباحة الشرعيّة هو الشكّ في الحلّية ، وموضوع الاحتياط الشرعي هو الشكّ في المكلّف به ، والشكّ وإن كان لا يزول بالقرعة إلّا أنّ دليل القرعة مفسّر لدليلهما ، وأنّ المراد من الشكّ غير الشكّ الموجود مع القرعة وأنّه ليس بشكّ ، ثمّ إنّ ما ذكرنا من ورود القرعة أو حكومتها على هذه الاصول إنّما هو في الشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الشبهات الحكميّة فلا تجري فيها القرعة أصلا حتى تكون واردة أو حاكمة على الاصول كما في شرح الاعتمادي.

وكذا قال سيدنا الاستاذ بعدم جواز الرجوع إلى القرعة في الشبهات الحكميّة أصلا ، إذ المرجع في جميع الشبهات الحكميّة هي الاصول العمليّة التي مفادها أحكام ظاهريّة ، فإنّ الشبهة الحكميّة إن كانت لها حالة سابقة فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وإلّا فإن كان الشكّ في التكليف فيرجع إلى قاعدة البراءة ، وإن كان الشكّ في المكلّف به فلا بدّ من الاحتياط. هذا تمام الكلام في تعارض الاستصحاب مع القرعة ، وقد خرجنا في البحث عن مقتضى الكتاب للفائدة.

٤٢٦

المقام الثالث

في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة

أعني : البراءة ، والاشتغال ، والتخيير.

الأوّل : تعارض البراءة مع الاستصحاب

أمّا أصالة البراءة فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلّة ، سواء كان مدركها العقل أو النقل.

____________________________________

المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول.

قال الاستاذ الاعتمادي : إنّ الاصول الثلاثة متباينة من حيث المورد ، ولذا لا يعارض بعضها بعضا أبدا وأمّا الاستصحاب فهو متّحد مع سائر الاصول من حيث المورد ، وإنّما التمايز بلحاظ الحالة السابقة وعدمه. ولذا يقع التعارض بينه وبينها في بدو النظر ، وإن كان الاستصحاب متقدّما عليها بعنوان الورود أو الحكومة فلا يكون بينه وبينها تعارض حقيقة ، لعدم التعارض بين الوارد والمورود والحاكم والمحكوم ، وكيف كان ، فيقع الكلام في ثلاثة مقامات :

المقام الأوّل : في حكم تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة.

والمقام الثاني : في حكم تعارضه مع قاعدة الاشتغال.

والمقام الثالث : في حكم تعارضه مع قاعدة التخيير. وأولى بالتعبير كما في المتن هو حكم تعارض كلّ واحد من الاصول الثلاث مع الاستصحاب.

وقد أشار إلى المقام الأوّل بقوله :

أمّا أصالة البراءة فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلّة ، سواء كان مدركها العقل أو النقل. أمّا العقل ، فواضح.

لأنّ موضوع البراءة العقليّة وحكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان على التكليف وجودا وعدما ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب بيان شرعا على وجود التكليف أو عدمه ،

٤٢٧

أمّا العقل ، فواضح ، لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف ، واقعا أو ظاهرا.

وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتّضح أمره ، والاستصحاب وارد عليه.

وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) فقد يقال : إنّ مورد

____________________________________

فيرتفع موضوع حكم العقل وجدانا ، كما أشار إليه بقوله :

لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف ، واقعا أو ظاهرا.

فلا تجري البراءة العقليّة في مورد الاستصحاب ، كما إذا غلى العصير العنبي وذهب ثلثاه بالهواء لا بالنار ، فشكّ في حلّيته وحرمته ، لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وذلك لوجود البيان الظاهري ، أعني : استصحاب الحرمة ، كما لا يحكم به بعد الغليان لوجود البيان الواقعي ، وهو الدليل على أنّ العصير إذا غلى يحرم.

وكيف كان ، فالاستصحاب وارد على البراءة العقليّة.

وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل بأن يكون مفاده عدم التكليف والمؤاخذة مع عدم بيان التكليف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امّتي ما لا يعلمون (٢) ، والناس في سعة ما لا يعلمون (٣) وغيرهما فقد اتّضح أمره من البراءة العقليّة حيث يكون الاستصحاب واردا على النقل أيضا ، لأنّه بيان شرعا يرتفع به عدم البيان ، فانّ موضوع البراءة الشرعيّة هو عدم البيان أصلا وعدم العلم بالتكليف.

وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) وقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام) (٤) ، ففيه أقوال :

١ ـ ورود الاستصحاب عليها.

٢ ـ تعارضه معها.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الخصال ٢ : ٤١٧ / ٩. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٥٦ ، ح ١.

(٣) الرسائل التسع (المحقّق الحلّي) : ١٣٢. غوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ / ١٠٩.

(٤) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

٤٢٨

الاستصحاب خارج منه لورود النهي في المستصحب ولو بالنسبة إلى الزمان السابق.

وفيه : إنّ الشيء المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه ، فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورد

____________________________________

٣ ـ حكومته عليها.

وقد أشار إلى القول الأوّل بقوله :

فقد يقال : إنّ مورد الاستصحاب خارج منه لورود النهي في المستصحب ولو بالنسبة إلى الزمان السابق.

وتقريب ورود الاستصحاب على ما في شرح الاعتمادي : إنّ المستصحب ، يعني : الشيء الذي نهي عن فعله أو عن تركه في الزمان السابق كالعصير إذا غلى وذهب ثلثاه بالهواء فهو داخل فيما بعد الغاية ، أعني : قوله : تعلم أنّه حرام ، وقوله : يرد فيه النهي وليس بداخل في المغيّى ، أعني : قوله : كلّ شيء لك حلال ، وقوله : كلّ شيء مطلق.

ومعلوم أنّ المغيّى يرتفع بالغاية ، فالحكم بالحلّية والرخصة يرتفع باستصحاب الحرمة أو الوجوب ، لورود النهي عن الفعل في الأوّل وعن الترك في الثاني.

والملخّص أنّ هذه الروايات تدلّ على إنشاء الإباحة والرخصة مع عدم العلم بالتكليف بورود النهي لا واقعا ولا ظاهرا ، ومستصحب الحرمة ممّا ورد فيه النهي ظاهرا فيكون الاستصحاب واردا عليها.

وفيه : إنّ الشيء المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه.

وحاصل الإشكال على القول بالورود يتّضح بعد مقدّمة ، وهي :

إنّه لا بدّ في الاستصحاب من تعدّد زمان المتيقّن والمشكوك دائما ، فورود النهي في الزمان السابق ـ أعني : زمان المتيقّن ـ لا دخل له في رفع الشكّ حتى يحكم بارتفاع أصل البراءة بالاستصحاب ، بل لا بدّ فيه من ورود النهي في الزمان اللاحق.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك ما هو الإشكال على ورود الاستصحاب على الحلّية ، إذ المفروض ـ حينئذ ـ عدم ورود النهي فيه ، كي يحكم بارتفاع موضوع أصل البراءة والحلّية به ، فتبقى ـ حينئذ ـ الرخصة على حالها فيكون الشيء المشكوك مرخّصا

٤٢٩

النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عنه بعده.

____________________________________

فيه ، ثمّ تطبيق ذلك في المثال المذكور في المتن : أنّ عصير العنب ورد فيه النهي في زمان قبل ذهاب ثلثيه بالهواء ، وأمّا بعده فورود النهي فيه غير معلوم ، فالذي ورد فيه النهي ليس هو مورد الاستصحاب ، أعني : قبل ذهاب ثلثيه بالهواء ، والذي هو مورد الاستصحاب لم يعلم ورود النهي فيه حتى يدخل في ما بعد الغاية ويخرج عن المغيّى ، فهذا الشيء من حيث إنّه مسبوق بالحرمة تستصحب حرمته ، ومن حيث إنّه لا يعلم ورود النهي فيه يكون مرخّصا فيه. ومن هنا يتوهّم التعارض والتساقط والرجوع إلى البراءة العقليّة وهو القول الثاني ، ولكن ستعرف فساده وأنّ الاستصحاب حاكم على الرواية المذكورة ، كما في شرح الاعتمادي.

ونذكر ما في بحر الفوائد فإنّ ذكره لا يخلو عن فائدة ، حيث قال ـ بعد ذكر كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، وكلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام ونحوهما ـ ما هذا لفظه :

«فهل يكون الاستصحاب واردا عليها أو يكونان من المتعارضين ، أو يكون حاكما عليها؟ وجوه : فقد يتوهّم الوجه الأوّل ، أي : ورود الاستصحاب عليها على هذا التقدير أيضا ، أمّا بتوهّم كون المراد من ورود النهي والعلم بالحرمة ونحوهما من الغايات هو الوجود والتحقّق في الجملة ولو بالنسبة إلى الزمان السابق ، أو بتوهّم كون الاستصحاب كاشفا عن إرادة البقاء والدوام من دليل المستصحب بالنسبة إلى الزمان اللاحق.

أو بتوهّم كون النهي المستفاد من قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ (١) من أفراد الغاية ولو لم يكن ناظرا إلى بيان المراد من دليل المستصحب ، لكنّك خبير بفساد التوهّم المذكور استنادا إلى أحد الوجوه المذكورة.

أمّا الوجه الأوّل ، فللقطع بعدم إرادة هذا المعنى من أخبار البراءة ، كيف ولازمها عدم جريان البراءة على تقدير عدم جريان الاستصحاب أو عدم اعتباره أيضا كما هو ظاهر؟! وهو كما ترى ممّا لا يلتزم به أحد ، هذا مضافا إلى خروجه عن ورود الاستصحاب على

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٢ / ٣. الوسائل ٨ : ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٣.

٤٣٠

____________________________________

البراءة ، كما أنّ لازمها الالتزام بعدم جريان البراءة في كلّ كلّي ورد النهي عن بعض أنواعه ضرورة عدم الفرق بين كون الاختلاف بحسب الزمان أو غيره من العوارض والخصوصيّات كما هو ظاهر ، هذا مضافا إلى أنّ اعتبار هذا المعنى بالنسبة إلى أخبار البراءة يوجب اعتباره بالنسبة إلى أخبار الاستصحاب ، فإنّ العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء مثلا ممّا يتيقّن حلّيته ولو في زمان من الأزمنة ، فلا يجري استصحاب الحرمة لكونه مغيّا بعدم العلم بالحلّية ، فتدبّر.

وأمّا الوجه الثاني ، ففساده غني عن البيان ، ضرورة استحالة صيرورة الاستصحاب قرينة على المراد عن دليل المستصحب وكاشفا عنه بناء على القول به من باب الظنّ فضلا عن التعبّد الذي ليس من سنخ دليل المستصحب.

وأمّا الوجه الثالث ، فهو أيضا واضح الفساد ضرورة عدم كون النهي المستفاد من أخبار الاستصحاب نهيا عن الشيء بعنوانه الأوّلي ، وإلّا خرج عن كونه حكما ظاهريّا ، كما هو ظاهر.

وقد يتوهّم الوجه الثاني نظرا إلى إثباتهما الحكمين المتنافيين في الموضوع الواحد وهذا معنى التعارض ، كما هو ظاهر على ما سنقف عليه أيضا.

حيث إنّ قوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق مثلا من حيث عدم ورود النهي في العصير بعد ذهاب ثلثيه بغير النار مثلا يقتضي حلّيته ، وقوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين ، إلّا بيقين مثله (١) من حيث عدم اليقين صيرورة العصير في الفرض حلالا يقتضي حرمته ، فلا محالة يقع التعارض بينهما ، لكنّه ضعيف أيضا وإن لم يكن في الضعف كالوجه الأوّل ، فإنّ الاستصحاب وإن لم يكن رافعا لموضوع البراءة في الفرض حسّا حتى يكون واردا عليها ، إلّا إنّه بمنزلة المعمّم للنهي الأوّل فيكون شارحا لقوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، فإنّ لسان الاستصحاب بقاء النهي المتعلّق بالعصير بعد الغليان من حيث هو في حكم الشارع ، وإن كان حكمه ببقائه ظاهريّا ، ومنه ينقدح وجه الوجه الثالث وكونه وجيها ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١. الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٤٣١

____________________________________

هذا كلّه في الاستصحاب الحكمي.

وأمّا الاستصحاب الموضوعي كاستصحاب عدم ذهاب الثلثين فيما شكّ فيه ، فأمره من حيث حكومته على البراءة أظهر ، حيث إنّ المجعول في الاستصحابات الموضوعيّة على ما أسمعناك مرارا وإن كان هو الحكم الشرعي أيضا ، إلّا إنّ المستصحب هو الموضوع الخارجي ، فالمشكوك ذهاب ثلثيه من العصير داخل بحكم الشارع فيما دلّ على حرمة العصير قبل ذهاب ثلثيه ، فيكون حاكما على أصالة البراءة المقتضية لحلّية المشكوك.

هذا ، ولكن قد يستشكل فيما ذكرنا من وضوح حكومة الاستصحاب الموضوعي على أصالة البراءة ، كما في الكتاب بالنظر إلى الأمثلة المذكورة في الموثقة كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة (١) الحديث.

حيث إنّ ظاهرها كون الحلّية في الأمثلة المذكورة فيها مستندا إلى الكلّية المذكورة في صدرها مع أنّ فيها استصحابات موضوعيّة تقتضي حرمة التصرّف في الأمثلة ، كأصالة عدم التملّك وعدم تحقّق الزوجيّة ونحوهما ، فحكم الشارع بالحلّية مع جريان تلك الاصول يكشف عن حكومة البراءة على الاستصحاب ، ضرورة عدم إمكان رفع اليد عن الموارد الشخصيّة.

هذا ، ولكنّك خبير بفساد توهّم حكومة البراءة على الاستصحاب وجعل الموثّقة دليلا عليها من حيث استظهار كون المراد من الكلّية المستفادة من صدرها هو الحكم بحلّية جميع التصرّفات الموقوفة على الملك ، والزوجيّة ، والتذكية ، والرقيّة ، ونحوها في مرحلة الظاهر وإن كانت هناك اصول موضوعيّة تقتضي الحرمة نظير قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) المقتضي لحلّية جميع التصرّفات في المبيع وإن كان هناك فرق بينهما من حيث كونه دليلا اجتهاديّا وكون مفاد الموثقة أصلا عمليا ، لأنّ البناء على هذا المعنى للموثّقة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٤٣٢

كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول في ما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده.

____________________________________

يوجب فقها جديدا على تقدير الالتزام به في جميع الموارد.

ودعوى الالتزام به مع الخروج عنه بالإجماع في أكثر الموارد كما بنى عليه الأمر بعض السادة من أعلام عصرنا فيما حكي عنه كما ترى ، فلا بدّ من جعل العنوان للأمثلة المذكورة في الرواية مجرّد التقريب لا التمثيل للكلّية المذكورة في صدرها فلا ينافي كون الحلّية فيها مستندا إلى ما هو حاكم على الاستصحابات الموضوعيّة المذكورة ، كصحّة التصرّف فيما إذا كان في يد الغير ، وأصالة صحّة العقد الصادر من أهله ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع المحرّمين ، فإنّها كما ترى حاكمة على تلك الاصول ، لا إلى مجرّد الشكّ في الحلّية والحرمة حتى ينافي ما ذكرنا ، هذا وقد ذكرنا بعض الكلام فيما يتعلّق بشرح الرواية ودفع الإشكال عنها في الجزء الثاني من التعليقة فراجع إليه. هذا شأن قاعدة البراءة بالنسبة إلى استصحاب التكليف.

وأمّا استصحاب البراءة المقابل لاستصحاب التكليف ، فهو على تقدير إمكانه وتصوّره خارج عن مفروض البحث ، لأنّه داخل في تعارض الاستصحابين لا تعارض الاستصحاب والبراءة ، إلّا إنّ الشأن في إمكانه ، حيث إنّ الحالة السابقة للشيء الواحد لا يمكن أن يكون التكليف وعدمه إلّا أن يفرض خروجه عن الوحدة ورجوعه إلى تعدّد الموضوع ولو باعتبار من الاعتبارات ، كما هو مبنى ما تقدم عن بعض أفاضل مقاربي عصرنا فيما سلكه من إيقاع التعارض بين استصحابي الوجود والعدم ، هذا بعض الكلام في حكم تقابل الاستصحاب مع البراءة. انتهى كلام المحقّق الآشتياني في تعارض الاستصحاب مع البراءة ، فنرجع إلى توضيح العبارات طبقا لما في شرح الاعتمادي.

كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلي ورد المنع عن بعض أفراده.

حاصله : إنّ العصير كلّي يصدق عليه مسامحة أنّه ممّا ورد النهي فيه باعتبار وروده في بعض أفراده وهو العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه ، إلّا إنّ هذا الصدق لكونه مسامحيّا لا يوجب أن يكون هذا الكلّي في ضمن أيّ فرد كان ، كالعصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء داخلا

٤٣٣

والفرق في الأفراد بين ما كان تغايرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها شطط من الكلام ، ولهذا الإشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.

ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.

____________________________________

في ما بعد الغاية ، أعني : يرد فيه نهي وإلّا لزم أن يكون كلّ كلّي نهي عن بعض أفراده منهيا عنه ويصدق عليه أنّه ممّا ورد فيه النهي في ضمن أيّ فرد كان ، مثلا ورود النهي عن بعض أفراد اللحم وهو لحم الميتة فلو كان هذا موجبا لصدق ورود النهي في اللحم في ضمن أيّ فرد كان فلحم الحمار المشكوك الحرمة لا تجري فيه أصالة الحلّ لدخوله في ما بعد الغاية ، أعني : يرد فيه النهي وذلك لورود النهي عن لحم الميتة مع أنّ عدم جريان أصالة الحلّ في لحم مشكوك الحرمة كلحم الحمار ممّا لا يلتزم به أحد.

قوله : والفرق في الأفراد بين ما كان تغايرها بتبدّل الأحوال والزمان ... إلى آخره.

دفع للتوهّم ، وحاصل التوهم انّه فرق بين أن يكون الفرد المنهي والفرد غير المنهي متغايرين بتبدّل الحال والزمان ، كما في مورد الاستصحاب فإنّ تغاير العصير قبل الذهاب والعصير بعد الذهاب ليس إلّا بتبدّل الحال والزمان ، فيصدق على العصير ولو بعد ذهاب الثلثين أنّه ممّا ورد فيه النهي فيدخل فيما بعد الغاية ، وبين أن يكونا متغايرين بجهات اخرى ، كلحم الميتة ولحم الحمير فإنّ ورود النهي في لحم الميتة لا يوجب كون لحم الحمير ممّا ورد فيه النهي ليدخل فيما بعد الغاية.

وحاصل الدفع : إنّ هذا الكلام خال عن النفع ضرورة عدم الفرق بين كون الاختلاف بحسب الزمان أو غيره.

ولهذا أي : لعدم دخول مورد الاستصحاب فيما بعد الغاية لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب مع أنّ مقتضى دخول مورد الاستصحاب فيما بعد الغاية هو عدم الرجوع إلى البراءة على القول بعدم اعتبار الاستصحاب والرجوع إلى ما دلّ على حرمة العصير إذا غلى ، مع أنّ المنكرين لاعتبار الاستصحاب يتمسّكون في مثل العصير المذكور بأصالة البراءة لا بدليل حرمة العصير إذا غلى.

ويمكن أن يكون المراد من كلام المصنف قدس‌سره هذا هو عدم كفاية ورود النهي عن بعض

٤٣٤

ويتلوه في الضعف ما يقال من أنّ النهي الثابت بالاستصحاب عن نقض اليقين نهي وارد في رفع الرخصة.

وجه الضعف : إنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاصّ ، لا من حيث إنّه مشكوك الحكم.

____________________________________

أفراد الكلّي في دخول بعض أفراده الآخر فيما بعد الغاية ، فيكون معنى الكلام حينئذ.

ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة ، أي : لعدم كفاية المنع عن بعض الأفراد في المنع عن الكلّي لا إشكال في الرجوع إلى البراءة ، إذ لو كان المنع عن بعض الأفراد كافيا للمنع عن الكلّي لوجب أن لا يرجع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب أيضا ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وكيف كان ، فالقول بكون الاستصحاب واردا على روايات الحلّ والرخصة ضعيف.

ويتلوه في الضعف ما يقال من أنّ النهي الثابت بالاستصحاب عن نقض اليقين نهي وارد في رفع الرخصة.

وحاصل ما يقال : إنّ قوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق وإن كان مثبتا لإباحة العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء من حيث كونه مشكوك الحكم ، إلّا إنّ استصحاب النهي السابق رافع لهذه الإباحة والرخصة ، وبهذا يدخل العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء في الغاية دون المغيّى.

وبعبارة اخرى كما في شرح الاعتمادي : إنّا سلّمنا أنّ مورد الاستصحاب ليس ممّا ورد فيه النهي الواقعي ، أعني : لا تشرب العصير ، إلّا إنّه ممّا ورد فيه النهي الظاهري ، أعني : لا تنقض اليقين بالشكّ فيدخل فيما بعد الغاية ، ويخرج عمّا يقتضي الرخصة ، أي : كلّ شيء مطلق.

وجه الضعف : إنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاصّ ، لا من حيث إنّه مشكوك الحكم.

فيكون المراد من النهي ـ في قوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ـ هو النهي الواقعي المتعلّق بالشيء دائما بعنوانه الخاصّ كعنوان العصير أو الخمر أو نحوهما ، لا النهي الظاهر ، أي : النهي بعنوان أنّه مشكوك الحرمة ، فيكون محلّ الكلام في مثل قوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق هو الحكم بالإطلاق والرخصة إلى أن يرد النهي فيه بعنوانه

٤٣٥

وإلّا فيمكن العكس بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا تجري فيه أصالة البراءة ، فتأمّل.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة

____________________________________

الخاصّ ، بأن يقال : لا تشرب العصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه ، فهذا النهي رافع للرخصة في شرب العصير بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه ، وليس محلّ الكلام ورود النهي في الشيء بعنوان أنّه مشكوك الحكم كالنهي في قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ حيث يكون مفاده أنّ العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء وشكّ في حرمته يجب الاجتناب عنه ، ومثل هذا النهي لا يكفي لرفع الإطلاق والرخصة لكونه واردا في الشيء بعنوان أنّه مشكوك الحكم لا بعنوانه الخاصّ ، وقد عرفت أنّ غاية الرخصة هو ورود النهي في الشيء بعنوانه الخاصّ.

وإلّا فيمكن العكس.

توضيحه على ما في شرح الاعتمادي هو إنّ الترخيص غايته ورود النهي ، وحرمة النقض غايتها اليقين ، حيث قال : لا تنقض اليقين بالشكّ ، بل انقضه بيقين آخر ، فحينئذ لو كان المراد من النهي في قوله : حتى يرد فيه نهي أعمّ من النهي الواقعي والظاهري ، أعني : النهي بقوله : لا تنقض ، لكان المراد من اليقين بالخلاف في قوله : بل انقضه بيقين آخر أعمّ من اليقين الواقعي واليقين الظاهري الحاصل بقوله : كلّ شيء مطلق.

وحينئذ ، كما أنّك تقول بأنّ العصير المذكور ورد فيه النهي لقوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ فيدخل في الغاية ويخرج عن المغيّى ، كذلك يمكن العكس بأن يقال : إنّ العصير المذكور ممّا علم فيه خلاف الحالة السابقة بقوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق فيدخل في قوله : بل انقضه بيقين آخر ويخرج عن قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ كما أشار إليه بقوله :

بأن يقال : إنّ النهي عن النقض إنّما هو في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا تجري فيه أصالة البراءة.

كما إذا احتمل صيرورة الخمر خلّا ، إلّا أن يقال بورود الاستصحاب على أصالة الرخصة والإطلاق ، إذ مساق قوله : كلّ شيء مطلق مساق سائر أدلّة البراءة التي مفادها الحكم بالبراءة مع عدم البيان ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب بيان فيكون واردا عليها. ولعل التأمّل في بعض النسخ إشارة إليه.

٤٣٦

إلى الزمان اللاحق ، فقوله : (لا تنقض اليقين بالشكّ) يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي أيضا.

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي).

وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فتكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان. فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشكّ لو لا النهي ، وهذا معنى الحكومة ،

____________________________________

وكيف كان ، فالأولى في الجواب أن يقال والغرض من هذا كما في شرح الاعتمادي هو الالتزام بالقول الثالث بعد فساد القول الأوّل وهو ورود الاستصحاب على مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) ، وكذا فساد القول الثاني وهو الحكم بالتعارض والتساقط والرجوع إلى البراءة العقليّة ، فالصحيح هو حكومة الاستصحاب على مثل الرواية المذكورة ، كما أشار إليه بقوله : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فقوله عليه‌السلام : (لا تنقض اليقين بالشكّ) يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي أيضا.

وبعبارة اخرى على ما في شرح الاعتمادي : إنّ النهي المتعلّق بالعصير الغالي وإن لم يعمّ بالزمان اللاحق حسّا ، إلّا إنّ الاستصحاب يحكم في الظاهر ببقاء النهي المتعلّق بالعصير الغالي من حيث هو ، فيكون شارحا لقوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، وأنّ هذا من موارد ورود النهي.

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي). وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فتكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان. فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشكّ لو لا النهي.

فإنّه لو لم ينه عن العصير الغالي لكان مقتضى الأصل عند الشكّ في الحرمة هو البراءة والحلّية والاستصحاب ينفي ذلك.

٤٣٧

كما سيجيء في باب التعارض.

ولا فرق في ما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، بل الأمر في الشبهة الموضوعيّة أوضح ، لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة. مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشكّ في بقاء حرمته لأجل الشكّ في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلّة ، فيخرج عن قوله : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام).

نعم ، هنا إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة ، وهو قوله عليه‌السلام في الموثّقة : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي

____________________________________

وبعبارة اخرى : الاستصحاب يمنع عن ترتّب أثر الشكّ في التكليف في صورة وجود النهي ، ويفيد أنّ هذا الشكّ ليس بشكّ ، وأنّ قوله : كلّ شيء مطلق لا يعمّ هذا المورد ، كما في شرح الاعتمادي.

وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض. ولا فرق في ما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة كالمثال المتقدّم ، أعني : الشكّ في حصول الطهارة بذهاب الثلثين بالهواء والموضوعيّة كالشكّ في ذهاب الثلثين في المثال المتقدّم بل الأمر الحكومة في الشبهة الموضوعيّة أوضح ، لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة فلا يبقى شكّ في الحكم حتى يجري أصل الحلّ والبراءة.

مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشكّ في بقاء حرمته لأجل الشكّ في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلّة ، فيخرج عن قوله : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام).

وبعبارة واضحة : إنّ الأصل الموضوعي سببيّ وأصل الحلّ مسبّبي ، ومن المعلوم أنّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسبّبي.

نعم هنا ، أي : في كون الاستصحاب الموضوعي السببي حاكما على أصل الحلّ المسبّبي إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ، وهو قوله عليه‌السلام في الموثّقة : (كلّ شيء حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب)

٤٣٨

اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البيّنة) (١).

فإنّه قد استدلّ بها جماعة ـ كالعلّامة في التذكرة ، وغيره ـ على أصالة الإباحة مع أنّ أصالة الإباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة التصرّف في هذه الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب والحريّة في المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة.

ولو اريد بالحلّية في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحّة في شراء الثوب والمملوك وأصالة عدم تحقّق الحلّ والرضاع في المرأة كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ، كما هو ظاهر الرواية. وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ،

____________________________________

(عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البيّنة) فإنّه قد استدلّ بها جماعة ـ كالعلّامة في التذكرة ، وغيره ـ على أصالة الإباحة مع أنّ أصالة الإباحة هنا أي : في الأمثلة المذكورة في الرواية معارضة بالاستصحاب الموضوعي ، أي : باستصحاب موضوع حرمة التصرّف في هذه الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب والحريّة في المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة.

وملخّص الإشكال هو أنّه إن كان مقصود الإمام عليه‌السلام من الحكم بحلّية الأشياء المذكورة في الموثّقة من جهة أصالة الحلّ والبراءة فيشكل الأمر من جهة أنّ مقتضى الاستصحابات الموضوعيّة فيها الحرمة وهي حاكمة على أصالة الحلّ والبراءة ، وإن كان مقصوده عليه‌السلام الحكم بحلّية هذه الأشياء بملاحظة اصول موضوعيّة اخرى حاكمة على الاستصحابات الموضوعيّة المذكورة ، كأصالة الصحّة وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع ، فيشكل الأمر ـ أيضا ـ من جهة كون الإباحة الثابتة بالاصول الموضوعيّة مخالفا لظاهر الرواية ، إذ ظاهرها هو الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة لا بالاصول الموضوعيّة الحاكمة على الاستصحابات الموضوعيّة ، كما أشار إليه بقوله :

ولو اريد بالحلّية في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحّة في شراء الثوب والمملوك وأصالة عدم تحقّق الحلّ والرضاع في المرأة كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

٤٣٩

فراجع ، والله الهادي ، هذا كلّه حال قاعدة البراءة.

وأمّا استصحاب البراءة فهو لا يجامع استصحاب التكليف ، لأنّ الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه ، إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : صم يوم الخميس.

____________________________________

كما هو ظاهر الرواية.

أي : يكون ظاهر الرواية ، حيث قال في صدرها : كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام ، هو الإباحة بأصالة الإباحة ، فيكون الحكم بالإباحة بالاصول الموضوعيّة مخالفا لظاهرها ، كما عرفت. هذا تمام الكلام في حكم تعارض البراءة التي محلّها مجرّد الشكّ في التكليف مع الاستصحاب ، وعرفت أنّ الاستصحاب حاكم عليها.

بقي الكلام في تعارض استصحاب البراءة مع الاستصحاب ، وقد أشار إليه بقوله :

وأمّا استصحاب البراءة أي : استصحاب البراءة التي يكون محلّها هو الشكّ في بقاء البراءة الثابتة سابقا ، كالبراءة حال الصغر مثلا عند الشكّ في حرمة التتن مثلا.

فهو لا يجامع استصحاب التكليف.

أي : ليس هنا مورد يجتمع فيه استصحاب التكليف مع استصحاب البراءة حتى يبحث عن تقديم أحدهما على الآخر لأنّ الحالة السابقة إمّا وجود التكليف كالشكّ في حصول الحلّية بذهاب الثلثين بالهواء فتستصحب الحرمة أو عدمه كما إذا شكّ بالفرض في أنّ العصير يحرم بالغليان أم لا ، أو التتن حرام أم لا ، فتستصحب الحلّية والبراءة ، بل يتمسّك بأصالة الحلّ والبراءة على ما في شرح الاعتمادي.

إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : صم يوم الخميس.

فيقال هنا بأنّ هذا العصير قبل الغليان كان محلّلا قطعا وبعده صار محرّما قطعا ، فبعد ذهاب ثلثيه بالهواء يتعارض استصحاب حلّيته الثابتة قبل الغليان مع استصحاب حرمته الثابتة بعد الغليان ، كما في شرح الاعتمادي دام ظلّه.

وهذا التعارض إنّما يتمّ على طريقة الفاضل النراقي ـ على ما مرّ سابقا ـ من ثبوت

٤٤٠